مستقبل التحالفات الدولية بعد كورونا
يَقف العالم أمام تَطورات متناقضة تجعل من قراءة مستقبل التحالفات الدولية أمراً ليس هيناً؛ فالجميع منشغلون بأزمة داخلية مفاجئة ولا يستطيع أي طرف أن يضع حدّاً لها، لكن التعامل المرتبك مع جائحة كورونا يبقى متفاوتاً، لكنـه بالمجمـل كشف كثيراً من مواطن الضعف لدى القوى والتحالفات العالمية.
وتُشير الممارسات غير الأخلاقية والسلوك الهمجي الذي تنتهجه دول الاتحاد الأوروبي حيال جائحة كورونا، إلى عدم وجود ضوء في نهاية النفق الأوروبي، وبمجرد تحسن الأوضاع وإحكام السيطرة على الفايروس لن تتوانى دول الاتحاد الأوروبي عن التفكير بجدية في إيجابيات وسلبيات عضويتها داخل الاتحاد؛ فمشاركة دول أخرى في عاصفة الخروج التي بدأتها إنجلترا لن يكون مستغرباً، لأن الاتحاد الأوروبي فَقَد الدم سياسياً واقتصادياً، وهذا ما أظهره زعماء أوروبا في تعاملهم مع أزمة كورونا، وهم بذلك يشككون في مقولة (جان مونيه) الشهيرة: «إن أوروبا وُلدت من الأزمات».
ولا ريب في أن هذا الفشل الذريع في اختبار كورونا يُعيد إلى الأذهان شواهد قريبة لم تسقط من الذاكرة بعد؛ فالعديد من الدول الأوروبية التي اعتبرت فايروس كورونا مصيبة لا تخصها واعترضت على خطة الإنعاش في 8 أبريل/ نيسان الماضي ووقفت عَقبة أمام استغاثة إيطاليا وإسبانيا، كان موقفها مشابهاً حيال أزمة الهجرة التي شهدتها القارة الأوروبية خلال السنوات القليلة الماضية. الحقيقة هنا أن الدول الأوروبية كلما تعرضت لأزمة جـديدة لا تجـد أي غضاضة في تعطيل قوانين واتفاقيات يُفترض أنها تمثل ركيزة أساسية للاتحاد الأوروبي، فتعطيل اتفاقية شنغن عامي 2015 - 2016م لمواجهة أزمة الهجرة يتكرر الآن مع أزمة كورونا، لكن التعطيل هذه المرة يأتي من دول أوروبية بعينها دون العودة إلى الاتحاد الأوروبي، فهذا التعطيل الذي من شأنه أن يوقف حركة الأفراد يبدو ظاهرياً بأنه لمواجهة الفايروس وحمـاية المـواطن الأوروبي من الوباء، غيـر أن الحقيقة قد تبـدو مغـايرة، لأن إغلاق حـدود الدول الأوروبية ومنع تنقل الأفراد من بلد لآخر يُفترض أن يكون ضمن إجراءات وخطط أخرى فقدها الاتحاد الأوروبي، ورُغم مرور شهور على تفشي الفايروس في دول أوروبية مختلفة لم ينجح الاتحاد الأوروبي في تلبية مناشدات دول مثل إيطاليا وإسبانيا، ولعل مَن تابع المساعدات الدولية من خارج الاتحاد الأوروبي لإيطاليا خلال ذروة الفايروس في المدن الإيطالية، سيظن أن الأخيرة أقرب إلى الصين من الاتحاد الأوروبي.
إن ما يحدث أوروبيّاً يُعزز - بلا شك - فكرة التوجه نحو القومية على حساب العالمية، لأن الدول الأوروبية التي نظرت بأنانية إلى الداخل المحلي على حساب الخارج، كانت أشد خطورة على الاتحاد من خروج المملكة المتحدة في فبراير/ شباط الماضي، لأنها لم تكتفِ بالانفكاء على ذاتها فحسب؛ بل عطلت مساعدة الاتحاد الأوروبي لدول أوروبية آخرى، فهولندا وألمانيا عطلتا مساعي إيطاليا وإسبانيا للاقتراض من صندوق (سندات كورونا) الذي خُصص - أصلاً - لمساعدة الدول الأوروبية المتضررة اقتصادياً، لأن الدول الغنية داخل الاتحاد الأوروبي والأقل تضرراً لا تنظر بعين المصلحة الأوروبية في ظل هذه الظروف الحرجة التي كشفت مزيداً من هشاشة الاتحاد الأوروبي.
لم يعد التوجه نحو الدولة القومية صنيعة إنجليزية داخل القارة العجوز، بل يبدو أنه توجه أوروبي شعبي عام، لأن نحو 71% من الإيطاليين اعتقدوا في بداية أبريل/ نيسان الماضي أن إجراءات الاتحاد الأوروبي تجاه فايروس كـورونا تقوِّض بقاءه، ونحو 55% وافقوا على خروج إيطاليا، التي بحثت كثيراً أثناء تفشي الوباء في صفوف مواطنيها عن شيء من مبادئ الاتحاد الأوروبي لكن دون جدوى.
إذا كان هذا حال مستقبل الاتحاد الأوروبي الغامض؛ فالكيـانات العالمية الأخرى لن تكون أفضل حالاً، لأن الدولة القومية القادمة بقوة لم تتورع في توجيه النقد لتلك الكيـانات العالمية، بل حمَّلتها وزر أخطائها وتقاعسها؛ فخلال إسبوعين فقط فقد السوق الأمريكي نحو عشرة ملايين وظيفة وارتفعت نسبة البطالة في منتصف أبريل/ نيسان الماضي إلى 13%، وهي نسب لم تعرفها أمريكا منذ أزمة الكساد العالمي عام 1929م، فما كان أمام حاكم البيت الأبيض، إلا توجيه التهم إلى منظمة الصحة العالمية وتحميلها مسؤولية تفشي الوباء في المدن الأمريكية، معتمداً على بياناتها التي لم تُقدِّر خطورة الوباء القادم من الصين في أسابيعه الأولى.
الهجوم الأمريكي على منظمة الصحة العالمية تبعه انتقاد ياباني أيضاً، كما اقترحت بريطانيا البحث عن هياكل جـديدة أو بديلة عن منظمة الصحة العالمية لمواجهة جائحة كورونا، والحقيقة أن تلك المنظمـات الدولية لم تعد تواجه خطورة الوباء فحسب، إنما تواجه خطورة تتعلق بمستقبل بقائها، لأن أهم الداعمين لهذه المنظمات باتوا يهـددون بوقف دعمهم المادي لها، فالولايات المتحدة الأمريكيـة دائمـاً تنظر بعين القلق إلى المنظمات الدولية عموماً، وربما حانت اللحظـة للتخلص من التزاماتها تجاه العديد منها وليست منظمة الصحة العالمية فقط؛ فالدعوات المناهضة لبقاء الاتحاد الأوروبي ودعم موقف بريطانيا منه لا تختلف كثيراً عن تلك التي تتزعمها إدارة ترامب تجاه المنظمات الدولية، لكن هل المنظمات الدولية مهددة دون غيرها من الكيانات والتحالفات الإقليمية والعالمية؟ وماذا عن مستقبل النظام الدولي القائم على الرأسمالية الغربية؟
في واقع الأمر النظام الدولي لن ينجو من عقاب الفشل في اختبار كورونا، وإذا كانت الصين وروسيا تهددان هذا النظام الرأسمالي من الخارج، فإن المهددات الداخلية تبدو أكثر خطورة، لأن مَن تجرع سُم الفشل هي الشعوب الغربية، التي بدورها ستبدأ في إنتاج حركات مناهضة لهذا النظام الرأسمالي الذي انقلب على منظومة القيم التي تحكمه، وهو ما جعله يفقد الثقة في أوساط الشعوب الغربية، التي بدأت تكفر بهذا النظام الذي نحَّى منظومة الأخلاق جانباً، فالمساعدات الصينية لدول أوروبية، لم تكن من أجل عيون المواطن الأوروبي بقدر ما كانت تسعى لإظهار سوءة المبادئ الغربية.
ولا شك في أن مساعي الصين لإحياء نظامها الإمبريالي التقليدي الخاص بها في المنطقة، إلى جانب محاولات روسيا توسيع مناطق نفوذها العسكري في الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم، بات يشكل حالة استغلال ذلك الفراغ الذي يتسع في ظل انكماش المنظومة الغربية، وخاصةً أن تلك المنظومة قائمة أصلاً على فكرة العولمة التي تسيطر على النظام الدولي منذ تسعينيات القرن الماضي؛ فالانكفاء الغربي الداعم نحو الدولة القومية يضرب العولمة في مقتل، لأن الدولة القومية باتت تحقق رصيداً من القوة على حساب المؤسسة الدولية ورأس المال العالمي.
وهنا تُطرح كثير من التساؤلات تتعلق جميعها بمستقبل القوى الدولية، سواء الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الدولية، أو الولايات المتحدة الأمريكية أقوى دولة في المشهد الدولي. في المقابل يسيطر قلق شديد على المنظومة الغربية كلما نظرت إلى الصين؛ فهذا العملاق الاقتصادي لم يعد مجبراً على التمسك بذلك الصعـود التدريجي الذي اضطر إليه في المرحلة الماضية، لأن مستجدات المرحلة الحالية ربما تفرض عليه انتهاج أسلوب المواجهة مع المنظومة الغربية المتصدعة، فتلك المنظومة لا تخسر المزيد من رصيدها القيمي والأخلاقي لحساب الصين فقط، بل تحقق الأخيرة تطوراً اقتصـادياً لا يمكن مقارنته بأي قوة أخرى؛ فوفقاً لكتاب حتمية الحرب بين القوى الصاعدة والقوى المهيمنة لـ «أليسون غرهام» فإن نصيب الصين ازداد 2% من الاقتصاد العالمي عام 1980م، ووصلت الزيادة إلى 18% عام 2016م، وحسب التطور الاقتصادي الحاصل وسيطرة الصين على فايروس كورونا، مـن المتوقع أن يصل نصيبها إلى 30% عام 2040م، وهو أمر تدركه الإدارة الأمريكية جيداً، لكنها لا تستطيع وقف نزيفها الاقتصادي الذي يتسرب رغماً عنها إلى حصالة الاقتصاد الصيني.
على الجانب الآخر، لا يمكـن تجاهل دور القوى الإقليمية التي تنتظر هي الأخرى أي متنفس يمكنها من خلاله لعب دور في محيطها الإقليمي، فالقوى الغربية باتت مُنهكة وليست مستعدة لاستنزاف المزيد من اقتصادها لخوض حروب أو الدخول في صراعات جديدة، وهذا ما تُفسره حالة الهدوء النسبي التي لم يذق الشرق الأوسط لها طعم منذ اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011م، غير أن هذا الهدوء من المستبعد أن يدوم طويلاً، لأن القـوى الإقليميـة من المنتظر أن تصبح أكثر جرأة وحماس للعب دور أكبر في محيطها الإقليمي، والموقف هنا يشبه مرحلة الحرب الباردة؛ فالفاعلون الإقليميون في هذه الحالة يتوفر لهم مساحة أكبر من الحركة لملء الفـراغات، وخاصةً أن القوى الغربية تركت العديد من الصراعات في سوريا واليمن وليبيا دون أي أُفُق للحل، وعلى الأرجح ستكون مجبرة على حلول تفرضها القوى الإقليمية.
لا شك في أن تحولات النظام الدولي وصعود قوى وهبوط أخرى يعد أمراً ليس مستبعداً في هذه المرحلة الحرجة، فإذا كان الاقتصاد يمثل عاملاً أساسياً في صعود وهبوط القوى الدولية، فإن هناك عوامل أخرى ظهرت بقوة على المجتمعات والكيانات الغربية خلال التعامل مع جائحة كورونا؛ فالمتغيرات الداخلية والخارجية التي تفرض نفسها على العالم تجعل التحالفات القائمة في مهب الريح، وتُنذر بشكل جديد من التحالفات تتكشف ملامحه مع مرور الوقت.