أوجُه قراءة التراث العربي
إن التعامل مع التراث Tradition[1] بشكل إيجابي فاعل؛ يتم عبر تبني رؤية تهدف إلى إنتاج عملية تثاقف عامة بالتراث ومن التراث، وليس بالانكباب على التراث فحسب؛ فلا بد من إخراجه من حياة الصفوة إلى العامة، وتحويله إلى ثقافة مجتمعية مبنية على ما أسسه وأبدعه الأجداد، بما يمكن إدماجه في الثقافة العربية المعاصرة، فلن يكون إحياء التراث بهدف تحقيق الكتب ونشرها؛ وإنما بدراسة التراث العربي بوصفه تاريخاً يعرِّفنا أحوال صانعيه وحياتهم[2].
فالموقف من التراث تتقاسمه مواقف عديدة، متباينة ومتناقضة، وتتصل بماهية الإحياء والنقاش والنقد، فهناك من يسعى إلى إحياء التراث بما يمكن أن نسميه (الإحياء السلبي والاسترداد البليد)[3] ويعني - في رأينا - أن يتم الإحياء من خلال إعادة النشر والتحقيق دون وجود نقاش فاعل له، أو بالتوقف عنده بنظرة تقديسية تعظِّم هذا التراث، في ما يسمى التيار السلفي المحافظ الديني، في مقابل التيار العصري التجديدي، وهذا التوجه لا يعني بأي حال التيارات الموجودة داخله، والتي لا تكتفي بالجانب الديني؛ وإنما تعمل على إحياء الوجه الفلسفي والعلمي والأدبي واللغوي. والمشكلة في هذا التيار عامة أنه يكتفي - في جهوده الإيجابية - بالتعليم والدرس والحفاظ والاختيال بما في تراث الأجداد. وهو أيضاً دون شك، لديه تبحُّر وغوص يتيح لأصحابه الفوز بدرر ولآلئ تغيب كثيراً عن التيار الآخر، الذي يتعامل برؤية متعجلة، وكثيراً ما تكون مبتسرة.
وهناك تيار يسمى (الرفض المطلق)، كما نجد في مشروع (الثابت والمتحول) لعلي أحمد سعيد المعروف بـ (أدونيس)؛ إذ يطالب بإهدار التراث كتلة واحدة باعتباره سلباً مطلقاً، على حد قوله: «إن الثقافة العربية بشكلها الموروث السائد ذات مبنى ديني، أعني أنهـا ثقافة اتباعية، لا تؤكد الاتباع وحسب، وإنما ترفض الإبداع وتُدينه، فإن هذه الثقافة تحول بهذا الشكل الموروث السائد، دون أي تقدم حقيقي. لا يمكن - بتعبير آخر - أن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي، إذا لم تتهدم البنية التقليدية للذهن العربي، وتتغير كيفية النظر والفهم التي وجهت الذهن العربي وما تزال توجهه»[4].
طبعاً هذه الرؤية فيها مغالطات عديدة، أبرزها: التعميم في النظرة، وحصر الذهنية العربية في ثنائية: اتباعية وإبداعية، واعتبار الأولى هي الأساس والثانية هي المتمرد الفرعي، ومن ثَمَّ تم القفز إلى ضرورة التخلص من كل التراث.
ومن هنا، لا بد من الوعي بالعمق الحضاري للأمة المتمثل في تراثها، ويكون الوعي حاضراً لدى الباحث في التراث؛ ذلك لأن أحد تعريفات التراث هو: العطاء القومي الحضاري المتزايد الذي يتجهز به الإنسان في مجتمع من المجتمعات لخوض غمار المستقبل وهو دائم ومتنامٍ ولا يرتبط بمرحلة واحدة من مراحل التاريخ [5]، فهو المخزون الثقافي الماثل في جميع منجزات الإنسان عبر تاريخه في نطاق بيئته الثقافية.
أي أن التراث في بُعدِه الحضاري الثقافي عبارة عن جهد المبدع معبِّراً عن ثقافة مجتمعه، وحضارته، ليرسخ وجوده الحضاري فنيّاً، ويواجه الثقافات الأخـرى بغضِّ النظر عن الزمن التاريخي، لأن حركية الإبداع لا ترتبط بالحقب السياسية كثيراً؛ وإنما لديها قانونها الخاص في الحركة والتطور والتأثر، ومن العبث ربط التراث الأدبي بأحداث التاريخ وتقلباته، حتى وإن أثَّرت تلك الأحداث في الإبداع، فهو تأثير محدود غالباً، لأن الإبداع الحقيقي المعبِّر عن الفكر الحضاري للأمة، يحتاج إلى زمن كي يعتمل في النفوس المبدعة، وفي الوقت نفسه لا يغادر تلك النفوس متأثراً بعوامل أخرى بسهولة، لأن دورة تكوينه قد تستغرق عقوداً وأجيالاً.
ولهذا تكون نظرة علماء الحضارات أرحب، لأنها تقرأ المنجزات الحضارية في ضوء نظرة الحضارة نفسها إلى العالم، التي هي «مضمون أفكار المجتمع والأفراد الذين يؤلِّفونه، أفكارهم عن الطبيعة وعن موضوع العالم الذي يعيشون فيه، وما معنى ذاتي أنا نفسي في هذا العالم؟ وماذا نريد أن نفعل في العالم؟ وماذا نؤمل أن نحصل عليه منه؟ وما هو واجبنا تجاهه؟»[6].
وهناك اتجاه في التراث يسمى (الانتقائية النفعية)[7]؛ وهو اتجاه ظاهر لا يخفى على عين الدارس وإن كان لا يعيه كثيراً، ونراه في الكتابات التي تدلف إلى التراث باحثة عما يؤيد قناعاتها المسبقة، والتي - غالباً - ما تكون مستوردة، تبحث في التراث من أجل الاستشهاد أو الاقتباس، وتكتفي بذلك، ويظن الكاتب - وأيضاً القارئ - أن الفكرة موجودة مسبقاً عندنا أو هي (بضاعتنا رُدَّت إلينا)، ولكن الواقع غير ذلك؛ فمن الممكن أن تكون الفكرة موجودة بشكل أو بآخر، ولكنها أُنتِجت في ظروف ثقافية واجتماعية وفكرية وزمنية ومكانية مغايرة عن إنتاجها المعاصر (في الغرب)[8]، وتكون المشكلة في أن القناعة المسبقة لدى الباحث، تجعله أسيراً لها، وأحياناً يستعصي عليه الكشف عن معاني ومقاصد أفكار واردة في خطاب ما، سيجتهد بالتأكيد ليجد لتلك الأفكار تفسيراً يرضى به. واجتهاده هذا هو ما نسميه عادة بعملية التأويل؛ وهي عملية تستند في غالب الأحيان إلى كثير من القرائن والمبررات والاستشهادات الوجيهة التي تعطي الأولوية في نهاية المطاف لمعنى معيَّن يفترض الباحث المؤول أنه هو المعنى الصحيح، وفي هذه الحالة فإن اجتهاد المؤول سيظل اجتهاداً نسبياً مهما خلصت نواياه، والدلالة التي يقترحها دلالة محتملة وراجحة فقط؛ إذ الخاصية الغالبة على كل تأويل أيّاً كان هي الاحتمال والظن.
إذن، يكون من العبث الاكتفاء بالعرض التراثي دون المقارنة الثقافية في طبيعة إنبات الفكرة، وتطورها الفكري، ومن ثَمَّ تتحول الدراسة إلى مقارنة أكثر من كونها تعميقاً لفكرة، وشتان بين مفهوم المقارنة ومفهوم التعميق؛ فالأول يفسح المجال للتأويل والقراءة المعمقة وهو ما يؤدي إلى تراكم معرفي يفيد الثقافة العربية المعاصرة لأنه بنى على السابق الموروث وهو يستفيد من بحوث تاريخ الأفكار. أما الثاني فهو يكتفي بالإحالة والإشارة وإيراد المعلومة التراثية دون نقاش يفضي إلى تراكم معرفي.
[1] فالأصل اللاتيني Tradition يعني النقل والتوصيل، وهناك كلمات أخرى مثل Heritage وتعني ميراث أو تراث، وكذلك كلمة Legacy وقد يكون اللفظ مرادفاً للكلمة، والمَوروث هو كل ما هو منقول أو متواتر، فالتعريف يشمل دلالة النقل والاستمرار، بما يعني الارتباط بمفهوم إحيائه والحفاظ عليه.
[2] نظرية التراث، د. فهمي جدعان، دار الشروق، عمَّان، الأردن، ط1، 1985م، ص25.
[3] الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر، محمود أمين العالم، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1988م، ص38.
[4] الثابت والمتحول، أدونيس، الأصول، الطبعة الأولى، دار العودة، بيروت، 1974م، ص32.
[5] الفن في القرن العشرين، محمود البسيوني، دار المعارف ١٩٨٣م، ص57.
[6] فلسفة الحضارة، اشيفتسر، ص67.
[7] الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر، ص38 (دون شرح من المؤلف).
[8] الجنيالوجيا وكتابة تاريخ الأفكار، عبد الرزاق الدواي، مجلة فكر ونقد، العدد (21)، ص301.