• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
بعد كورونا: أوروبا مرتبكة أكثر في علاقاتها البينية... وأقل قدرة على صعيد التوازنات الدولية

بعد كورونا: أوروبا مرتبكة أكثر في علاقاتها البينية... وأقل قدرة على صعيد التوازنات الدولية


تظهر تجليات تفشي فيروس كورونا على الصعيد العالمي؛ فالقارة الأوروبية دخلت خلال هذه المرحلة في حالة اضطـراب على صعيد الوضع الداخلي للدول، وفي مجال علاقات تلك الدول ومجتمعاتها بعضها مع بعض. كما أن النتائج المتوقعة لكارثة كورونا تؤكد على أن ما هو قادم سيكون مختلفاً عما كان قبلُ على صعيد قدرة التأثير الأوروبي في العلاقات الدولية؛ إذ ستجد أوروبا نفسها في وضع أضعـف ممـا كان على صعيد التوازنات الدولية، كما ستجد منعتها أقل في مواجهة الاختراقات الدوليـة (متعددة المصادر) لملعب العلاقات البينية داخل الاتحاد الأوروبي.

لقد أحدث تفشي فيروس كورونا خسائر ضخمة إنسانياً واقتصادياً ومالياً، لدول أوروبا. وإذا كانت المستشارة الألمانية وصفت هذا التحدي بما جرى خلال الحرب العالمية الثانية، فقد أعلن وزير الاقتصاد الإيطالي مؤخراً: أن أوروبا ستحتاج إلى (خطة مارشال ضخمة) جديدة لإعادة إطلاق اقتصادها بعد الضربة التي منيت بها جراء جائحة كورونا.

وفي وصف قادة أوروبا والغرب ومعظم قادة العالم ما يواجهونه بـ (الحرب)؛ تعبير دقيق عن قراءتهم للنتائج المتوقعة مستقبلياً.

وفي ذلك، بدا مؤثراً أن الفيروس وجَّه ضربته الكبرى للدول المحورية في الاتحاد الأوروبي؛ خاصة ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وهو ما أربك قدرتها على التعاون فيما بينها، كما أربك قدرتهـا على لعب دورها المعتاد في قيادة الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمة وإدارتها؛ فلم تبدِ استعداداً لإعانة دول أوروبا الأقل قدرة. كما أن الفيروس ضرب جميع الدول الأوروبية بعنف غير مسبوق، وهو ما تجلى في انتزاع أوروبا مركز الصدارة من الصين في حالة تفشِّي الفيروس وأعداد المصابين والضحـايا، قبل أن تصبح الولايات المتحـدة في المركـز الأول، لتـأتي دول أوروبا - خاصة إيطاليا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا - في المراكز التالية وليس غيرها من دول العالم، بما في ذلك الصين التي كانت أول من واجه انتشار الفيروس.

ولقد ظهرت مؤشرات غير مسبوقة على اضطراب العلاقات البينية بين دول أوروبا؛ فالرئيس الصربي ظهر علناً وهو يهاجم الاتحاد الأوروبي بمرارة ويصف ما كان سائداً في علاقات الدول الأوروبية بعضها مع بعض بـ (الوهم)، بينما أشاد بالصين والرئيس الصيني إلى درجة وَصْفه بالأخ، وهو نفسه مَن ظهر من بَعدُ وهو يقبِّل العَلَم الصيني في سابقة سياسية غير معهودة في العلاقات الدولية. كما أبدت إيطاليا وإسبانيا امتعاضاً من مواقف ألمانيا وفرنسا خلال الأزمة؛ خاصة تصرفهما على أساس المصلحة الوطنية لكل منهما؛ لا على أساس المصلحة العامة لدول الاتحاد الأوروبي. وقد أظهرت اجتماعات المؤسسات الأوروبية بعد ذلك بداية تكتل إيطالي إسباني ضاغطٍ على فرنسا وألمانيا ومهاجمٍ لهما.

كما تجلت ممارسات شعبية غير مسبوقة في التعبير عن رفض البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي؛ تمثلت في نشر فيديوهات لنشطاء أوروبيين على مواقع التواصل الاجتماعي يحرقون علم الاتحاد الأوروبي، أو يزيحون علم الاتحاد الأوروبي ويرفعون الأعلام الوطنية لدولهم.

وكان السلوك الفاجع والمفاجىء على صعيد تدهور الحس المشترك بين الدول؛ أن أعلنت بعض الدول الأوروبية عن مصادرة (وقيل: سرقة) شحنات إغاثة طبية صينية من قِبَل دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، خلال مرورها بأراضيها، بينما كانت الدول المرسل إليها المعونات في مسيس الحاجة إليها على عكس الدول التي صادرت الشحنات الطبية الصينية.

وعلى صعيد التأثيرات الاقتصادية فقد توقفت الحياة الاقتصادية في الدول الأوروبية إذ أغلق الاقتصاد، كما تزايد الإنفاق بمعدلات كبيرة وتأثرت البورصات وقوة العملات وتصاعدت البطالة وبدأت الشركات تواجه الإفلاس... إلخ.

وفي العلاقات الدولية فقد جاء مفاجئاً أن باتت الدول الأوروبية في موضع من يتلقى مساعدات من الصين وروسيا؛ خاصة إيطاليا وإسبانيا، وهو ما دعا قادة إيطاليين للإشادة الواسعة بالدولتين بما أثار حفيظة الرئيس الفرنسي.

تلك الوقائع تشير في مجموعها إلى تغييرات مستقبلية. وفي محاولة قياس التغييرات المستقبلية لآثار تلك الأزمة، فالقاعدة الأساسية هي أن انتشار فيروس كورونا وما نتج عنه من تبعات اقتصادية وسياسية - والأغلب إستراتيجية أيضاً - لا يمكن النظر إليها كحالة منفصلة عما سبقها من سياقات؛ بل يجب أن يرتبط قياس حركة تلك التأثيـرات في تماسها أو تضادها أو سيرها بخطوط الحركة السابقة عليها نفسها. وتلك مسألة هامة للغاية، وقاعدة للقياس في مثل تلك الأزمات الطارئة والواسعة التأثير.

وواقع الحال - وهذا هو الأهم - أن نتائج حرب الفيروس جاءت لتكمل مسار التغييرات الجارية من قَبْلُ داخل الاتحاد الأوروبي، وعلى صعيد تراجع قوة الاتحاد الأوروبي دولياً.

لقد جاء انتشار فيروس كورونا وما نتج وما يزال ينتج عنه من تبعات، ليزيد فعالية النتائج الجارية في داخل أوروبا وفي الغرب عموماً، وليعيد طرح الصياغة العملية للتغيير الجاري في التوازنات الدولية.

وبمنطق أوضح: لقد جاءت وقائع أزمة (أو حرب فيروس كورونا) لتكمل وتزيد وتسرِّع أثر مجموعة من التغييرات داخل الاتحاد الأوروبي، وعلى صعيد علاقاته مع الولايات المتحـدة، بقـدر ما جاءت دافعة لتطورات دولية على صعيد قدرات الدول الكبرى خارج المعسكر الغربي، وفي ذلك ليست مصادفـة عبثية أن تتمكن الصين من إنجاز ما فشلت فيه أوروبا والدول الغربية عموماً.

التوحد السلمي بديل لحقبة الحروب البينيـة:

كان تشكيل الاتحاد الأوروبي قد أحدث نقلة كبرى وتاريخية في العلاقات (الأوروبية - الأوروبية)؛ إذ مثل تغييراً في الاتجاه التاريخي المعتمد لحركة الصراع بالقوة العسكرية لقرون بين دول القارة، كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية آخر تجلياته الكبرى. ففي الحربين كليهما كان الدور الرئيسي في إشعالهما هو للدول الأوروبية، بعضها ضد بعض. وخلالها أظهرت أوروبا مدى الأهمية الإستراتيجية الشاملة لها على الصعيد الدولي؛ إذ تحولت الحرب إلى حرب عالمية شاركت فيها جميع الدول الكبرى الأخرى في تلك المرحلة.

كانت فكرة تشكيل الاتحاد الأوروبي انتقالاً وتغييراً من إستراتيجيات الضم والإلحاق بالقوة العسكرية بين دوله إلى إستراتيجيات العمل المشترك والتعامل تجاه الخارج كتلة أوروبية واحدة، وهو ما كان له تأثيرات دولية كبرى على صعيد التوازنات في كل الاتجاهات الدولية.

وجاء تمدد الاتحاد الأوروبي تجاه ضم دول أوروبا الشرقية، إنهاءً فعلياً لنتائج الحرب العالمية ومرحلة الحرب الباردة، التي انقسمت خلالها أوروبا بين دول واقعة تحت الهيمنة والنفوذ السوفييتي وقتها، وأخرى واقعة تحت السطوة الأمريكية.

وإذ بدأ الاتحاد الأوروبي بأفكار ومشروعات أولية، فقد صار معلناً وواضحاً بعد قررات العملة الموحدة والتأشيرة الموحدة أن التوجه العام المستهدف للمشروع الأوروبي في طريقه لنقل صلاحيات الدولة القومية (وَفْقَ نموذج الدولة الأمة) إلى مؤسسات الكيان المشترك أو إلى المؤسسات الأوروبية وفق فكرة (الفوق قومية). وهو ما اعتُبر أحد أهم أوجه التغيير في تشكيل وإدارة الكيانات الدوليـة، وفي تغيير التوازنات وطرق صناعة القرارات الدولية. فالاتحاد الأوروبي له من القدرات الاقتصادية والمالية والعسكرية والتكنولوجية والخبرات والبنية السكانية القادرة على جعله قطباً دولياً متقدماً على الأقطاب الدولية الأخرى.

لقد بلغ الناتج المحلي الأوروبي في عام 2018م ما يقارب 19 تريليون دولار، فجاء في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحـدة. وعلى صعيد الموارد البشرية فيبلغ عدد سكان دول الاتحاد الأوربي نحو 513 مليون نسمة وَفْقَ آخر الإحصاءات الرسمية، وهم يمثلون قوة بشرية نوعية كبيرة أكثر عدداً من سكان الولايات المتحدة... إلخ.

وحين تشكل الاتحاد الأوروبي، فقد أصبح للكيان الجديد صـوتان محصَّنان بالفيتو في مجلس الأمن الدولي (فرنسا وبريطانيا)، وقد ضم دولاً ذات نفوذ استعماري عميق في مختلف مناطق العالم. وهكذا نُظِر لدور الاتحاد الأوروبي كانقلاب في الوضع الدولي؛ خاصة بعد تمدده ليضم دول أوروبا الشرقية وهو ما غير التوازنات على الأرض في أوروبا وآسيا.

تلك الأهمية وهذا التغيير في التوازنات الدولية، لم يكن أمراً سهلاً لا على صعيد الأفكار السائدة في المجتمعات الأوروبية ذاتها (وميراثها في الصراعات وخلافاتها المذهبية واللغوية)، ولا على صعيد نظرة الدول الكبرى للمخاطر التي يحدثها هذا التغيير على توازنات القرار والمصالح الدولية، وهو ما صنع تحديات عميقة في مواجهة تشكل واستمرار هذا الاتحاد، وجعل استمرار الاتحاد حالة صراعية معقدة.

الوحدة الأوروبية... حركة صراع شاملة:

تشكل الاتحاد الأوروبي في لحظة دولية تاريخية بالغة الدقة. فقد جاء هذا التشكل عقب سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة بما أخلى الضغط الذي شكله الاتحاد السوفييتي على أوروبا، وقلل في الاتجاه الآخر حاجة أوروبا للرعاية أو الحماية الأمريكية. هذه الحالة فتحت الطريق ومنحت الفرصة لاستقلالية القرار الأوروبي.

وجاء تشكيل الاتحاد الأوروبي محاولة أوروبية لملء الفراغ الدولي والنفاذ بالمصالح الأوروبية في الدول التي كانت خاضعة للنفوذ السوفييتي في مختلف قارات العالم.

وبينما كانت أمريكا تحاول تعميق هيمنتها على العالم كقطب واحد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، كانت أوروبا تحاول تعميـق علاقاتها البينية، ووصل الطموح حدَّ السعي لتشكيل جيش أوروبي بعد أن تحررت من الضغطين السوفييتي والأمريكي، كل بقدره وتوجهه.

لقد اعتمدت الولايات المتحدة ثلاث إستراتيجيات ما بعد الحرب الباردة، انتهت جميعها إلى الفشل، وهو ما شكل دافعاً لقوة الاتحاد الأوروبي من جهة، ولزيادة الضغط الأمريكي على فكرة أوروبا الموحدة من جهة أخرى، بالقدر نفسه الذي شكل دافعاً لقوة روسيا والصين وغيرهما.

كان عنوان الإستراتيجية الأمريكية الأولى التي خاضها جورج بوش، يقوم على سعي الولايات المتحدة لإدامة حالة القطب الواحد عبر استخدام قوَّتها العسكرية، وهو ما كان خلف غزو العراق وأفغانستان واحتلالهما. لم تشارك أوروبا (ما عدا بريطانيا) ووصل الأمر حدَّ تهديد فرنسا باستخدام الفيتو ضد قرار أمريكي استهدف صدور قرار دولي بغزو العراق واحتلاله. وجاءت هزيمة الإستراتيجية الأمريكية من بعدُ لتدعم صحة الموقف الأوروبي.

وجاء أوباما بعد فشل إستراتيجية استخدام القوة العسكرية ليعلن عن إستراتيجية ثانية، تقود فيها الولايات المتحدة العـالم وَفْقَ منطـق التعاون وتبـادل المصالح مع القوى الدولية الصاعدة، وهو ما دفعه لإعطاء دور وأهمية لمنظومة العشرين. وفشلت سياسة أوباما إذ تراجعت قوة الولايات المتحدة وصعدت الصين وحققت روسيا عودتها كقوة دولية. وفي تلك المرحلة انفتح المجال أمام أوروبا هي الأخرى لتعميق وحدتها وتصعيد رؤيتها الاستقلالية عن القرار الأمريكي.

ووصل ترامب للسلطة وفق خطة إستراتيجية جديدة تقوم على فكرة أمريكا أولاً وعلى حساب الجميع (الحلفاء قبل الخصوم)، وتقليل الإنفاق الأمريكي المعتمد لتحقيق الهيمنة، والعمل للحصول على المال بأي طريقة، وفي ذلك قام ترامب بتغيير المعادلة الأمريكية - الأوروبية على نحو صارخ، عبر حملة ضغط شامل عليها اقتصادياً وسياسياً؛ بل على صعيد تهديد استقرار بنية الاتحاد الأوروبي ذاته.

وبينما مرت أمريكا بتلك الإستراتيجيات، عملت أوروبا وفق إستراتيجية واحدة تقوم على الإسراع بتعميق وضعية الاتحاد الأوروبي اقتصادياً وسياسياً بل حتى عسكرياً.

وهو تحوُّل إن اكتمل فسيحدِث أخطر تحول دولي منذ الحرب العالمية الثانية؛ إذ سيكون للغرب رأسان، ولن تكون أمريكا ممثِّلة الغرب كما تصبح أوروبا فاعلاً في إدارة علاقاتها الدولية مع الصين وروسيا وبقية الأقطاب الدولية الصاعدة وسيكون لها كيان عسكري للدفاع عن نفسها تحالفاً أو تعارضاً مع الولايات المتحدة... إلخ.

ولكل ذلك، واجهت أوروبا ضغوطاً خطرة، صبت جميعها في إضعاف خطوات وحدتها وقوَّتها. واجهت أوروبا ضغوطاً من روسيا وصلت حدَّ استخدام القوة العسكرية الروسية، كما حدث في جورجيا وبعدها في أوكرانيا بما أدى لتمدد روسيا داخل الحدود المرسومة للمشروع الأوروبي الموحد. لقد استثمرت روسيا مرحلة انشغال أوروبا بنفسها لتعود إلى الساحة الدولية، ومن بَعْدُ عادت في مرحلة تالية للضغط على أوروبا.

وواجهت أوروبا الموحدة ضغطاً أمريكياً متنامياً؛ إذ ضغطت (أمريكا - ترامب) على أوروبا لزيادة مساهماتها في حلف الأطلنطي (وهو ما جاء على حساب مشروع بناء جيش أوروبي موحد)، كما ضغط ترامب على أوروبا اقتصادياً بفرض رسوم جمركية على صادراتها للولايات المتحدة. وكان الأخطـر أن رمت الولايات المتحـدة بثقلهـا خلف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما أفقد اقتصادها 15% من قوَّته وحرم أوروبا الفيتو الثاني، وأخرج القوات المسلحة البريطانية وقوة لندن الدبلوماسية من معادلات أوروبا في التوازن الدولي.

ولم تقتصر المشكلات على الضغوط الخارجية المؤثرة؛ فعلى الصعيد الداخلي، واجهت أوروبا تنامياً في قوة التيارات الشعبوية، التي رفعت شعارات في كل بلد للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهي تيارات تصاعدت قوتها ودخل ممثلوها في برلمانات الدول وفي البرلمان الأوروبي. وكان أخطر وأهم ما أنجزت تلك التيارات هو خروج بريطانيا من داخل الاتحاد الأوروبي، وهو ما أعطى دفعة للتيارات الشعبوية في الدول الأخرى. وقد رأينا تصاعداً في هذا المد في العديد من الدول، ومنها فرنسا وإيطاليا، حتى ألمانيا التي تمثل الأب والراعي مع فرنسا لمشروع البناء الأوروبي الموحد.

كما نمت داخل العلاقات البينية صراعات حول النفوذ في الخارج. إذ شهدت أوروبا صراعات داخلية بين دولها تحت ضغط قضـايا الهجرة والأوضاع في ليبيا، وكان عنوانها فرنسا وإيطاليا. وعاد القانون الذي فرق أوروبا ودفعها لأعتى الصراعات يفعل فعله، عاد قانون النمو غير المتوازي في القدرات والطاقات ليحفز الدول على سعيها - كل حسب مصالحه - لتحقيق المكاسب والنفوذ بالصراع مع الدول الأوروبية الأخرى.

وهكذا حين اندلعت حرب فيروس كورونا، كانت أوروبا في مواجهة مشكلات متصاعدة، جاء تأثير حرب فيروس كورونا مضاعِفاً لها وليعمق التغييرات الجارية فعلاً.

مطرقة كورونا... أوروبا وأسئلة التغيير:

في ظل تلك الأوضاع جاءت أزمة كورونا لتفجر صراعات من نوع جديد، ولتعمـق صراعات قائمة ولتغير عوامل الضعف والقوة، ولتعيد طرح أسئلة هامة على الصعيد الدولي عموماً والأوروبي بشكل محدد.

وفي ذلك يجب النظر لسياق التغييرات المتوقع حدوثها خلال جائحة فيروس كورونا وبعدها، في ضوء وصف الحرب الذي ورد على لسان رؤساء الدول. والأهم أن ينظر إلى تلك التغييرات ضمن سياقات الحالة الأوروبية القائمة فعلياً، أو ضمن سياق الأوضاع الكلية لأوروبا داخلياً وعلى صعيد الوضع الدولي ومتغيراته.

أزمة كورونا هي أزمة شاملة، ولا يجب النظر إليها باعتبارها أزمة تطرح مؤثراتها وتمضي؛ فنحن أمام أسئلة وجودية على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، وأمام حالة تطرح أسئلة من أجل إعادة التأسيس، وإعادة النظر فيما هو قائم.

أحد الأسئلة المهمة تتعلق بالتأثيرات المستقبلية لما جرى لأول مرة في التاريخ الإنساني من وجود أجهزة الدول في الشوارع وبقاء المجتمعات داخل الجدران: ماذا ينتج عن ذلك؟ هل تتغول الدولة في سلطاتها في المرحلة القادمة؟ وما تأثير ذلك على أفكار التيارات المجتمعية والفكرية والسياسية؟

أوروبا هنا معنية بشكل خاص ومباشر؛ فهي مَن أطلقت نموذج الدولة الأمة وروجت له في العالم ودعمته بل فرضته! وذلك أمر قد يحدِث تغييرات هائلة على أوضاع الاتحاد الأوروبي القائمة على فكرة ما فوق القومية، وعلى ما طرحته أوروبا والغرب بشأن العولمة؛ هل تعود المجتمعات إلى تعزيز الفكرة القومية أو حالة الدولة الأمة على حساب ما فوق القومية والعولمة؟ وما تأثير ذلك على حالة الاتحاد الأوروبي، التي اضطرت دوله لعودة كل منها إلى إشهار سلاح المصلحة الوطنية والحدود والأمن القومي لكل منها في مواجهة بعضها مع بعض؟

هل سيصب ذلك في مصلحة قوة الحركات الشعبوية الداعية للفكرة الوطنية - القومية؟

وضمن معطيات التغيير، لا شك أن حالة انصراف المواطنين وعزوفهم عن المشاركة في العمليات الديمقراطية - إذ معدلات التصويت في الانتخـابات قليلة - ستتغير.

حالة الرضا التي عاشتها المجتمعات الأوروبية إلى درجة ترك السياسة للساسة والناشطين، يبدو أن مطرقة كورونا ستغيرها. وهناك من يطرح دروساً من التاريخ الأوروبي تقول: كل أزمة كبرى نتج عنها تغييرات حاسمة. ماذا بعد أن انكشفت هشاشة مقولات الرفاه وتأمين العلاج بأعلى كفاءة؟ وماذا عن البطالة مع توسع إفلاس الشركات.

والأمر البادي والظاهر هو أن السمعة الحضارية لأوروبا قد تضررت على الساحة الدولية كثيراً، فتلك الواحة المفترضة للرفاه والطب والعلم وقوة الاقتصاد، صارت في نظر العالم عنوان الفشل في مواجهة الفيروس ليس فقط بعد أن أصبحت بؤرة لتفشي الفيروس، ولكن أيضاً لعدم قدرة أنظمة الحكم فيها على تعبئة الدولة والمجتمع بسرعة وكفاءة.

والواضح حتى الآن أن العلاقات بين الدول الأوروبية تعيش امتحاناً صعباً، وأن دولاً ستكون على علاقة وثيقة من الآن فصاعداً مع الصين (وبالدرجة الثانية روسيا) وذلك ما دفـع الرئيس الفرنسي للحديث المباشر في الأمر، لقطع الطريق على ما هو قادم.

وماذا عن النقاش حول الأزمة ذاتها، هل سيعم الجدل حول دور الدولة الوطنية - القوميه؟ وهل سيصب ما جرى في مصلحة الشعبويين؟ وهل ستتحول إيطاليا خاصة إلى بريطانيا جديدة ؟ وهل ستكون مسألة تحمل الاتحاد الأوروبي كلفة الخسائر الناتجة عن المواجهة مع الفيروس نقطة صراع خطرة؟

وإذا كانت الأصوات الإيطـالية ترتفـع الآن بشأن مشروع مارشال اقتصادي جديد؛ فمَن المقصود بتمويل هذا المشروع؛ ألمانيا، أم الصين؟

أوروبا مقبلة على وضعية اضطراب لمشروع توحدها، وإن كان مؤكداً أنه لن يموت، لكن عوامل قوته وحالة استقراره تواجه مخاطر حقيقية.

 

أعلى