عادة الله - تعالى - فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ تهيئة النفوس حالاً فحالاً إلى أن تألفَ الأمرَ وتقبله وتعمل به، وهذا أثر من آثار اسم (الرب) الذي يعني في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدِّ التمام[1].

وَطَّأَ الشيءَ: سَهَّلَه، وتقول: وطَّأْتُ لك الأَمْرَ إِذا هَيَّأْتَه، ووَطَّأْتُ لك الفِراشَ ووَطَّأْتُ لك المَجْلِس تَوْطِئةً، والوطيءُ من كلِّ شيءٍ ما سَهُلَ ولان، وفِراشٌ وطِيءٌ لا يُؤْذي جَنْبَ النائِم والتَّوْطِئة: التَّمهيِدُ والتَّذليلُ[2].

قال ابن القيم - رحمه الله -: (عَادَةُ اللهِ - سُبْحَانَهُ - فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ التِي يَقْضِيهَا قَدَراً وَشَرْعاً: أَنْ يُوَطِّئَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا مُقَدِّمَاتٍ وَتَوْطِئَاتٍ تُؤْذِنُ بِهَا وَتَدُلُّ عَلَيْهَا)[3].

نماذج من هذه المنهجية:

 أولاً: قصة نسخ القِبْلة:

 لما كان نسخ القِبْلة شديداً على النفوس جداً انظر كيف وطَّأ - سبحانه - قبله مجموعة موطئات:

منها ذِكْر النسخ: قال - تعالى -: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106].

ومنها أنه يأتي بخير من المنسوخ أومثله: قال - تعالى -: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].

ومنها أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم: فعموم قدرته وعلمه صالح لهذا الأمر الثاني كما كان صالحاً للأول. قال - تعالى -: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. [البقرة: 106]

ومنها تحذيرهم من الاعتراض على رسوله كما اعترض مَن قَبْلَهم على موسى، بل أمرهم بالتسليم والانقياد: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} [البقرة: 108].

  ومنها تحذيرهم من الإصغاء إلى اليهود وأن تستخفهم شبهاتهم؛ فإنهم يودون أن يردوهم كفاراً من بعد ما تبين لهم الحق: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْـحَقُّ} [البقرة: 109].

ومنها إخباره أن دخول الجنة ليس بالتهوُّد ولا بالتنصر؛ وإنما بإسلام الوجه والقصد والعمل والنية لله مع متابعة أمره: {وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْـجَنَّةَ إلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ ١١١ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [البقرة: ١١١ - 112].

ومنها إخباره - سبحانه - عن سعته وأنه حيث ولَّى المصلي وجهَه فثم وجهه - تعالى - فإنه واسع عليم؛ حيث ذكر الإحاطتين (الذاتية والعلمية) فلا يتوهمون أنهم في القبلة الأولى لم يكونوا مستقبلين وجهه - تبارك وتعالى - ولا في الثانية؛ بل حيثما توجهوا فثم وجه - تعالى -: {وَلِلَّهِ الْـمَشْرِقُ وَالْـمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115].

ومنها أنه - سبحانه وتعالى - حذر نبيَّه صلى الله عليه وسلم من اتِّباع أهواء الكفار من أهل الكتاب وغيرهم؛ بل أمر أن يتبع هو وأمته ما أوحى إليه؛ فيستقبلونه بقلوبهم وحده: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].

ومنها أنه ذكر عظمة بيته الحرام وعظمة بانيـه وملَّته، وسفَّه من يرغب عنها، وأمر باتباعها فنوه بالبيت وبانيه وملَّته: {وَإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِـمِينَ 124 وَإذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 124 - 125] حتى قوله - تعالى -: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ} [البقرة: 135].

وكل هذا توطئة بين يدي التحـويل مع ما يتضمنه من المقاصد الجليلة والمطالب السَّنية، ثم ذكر فضل هذه الأمة وأنهم الأمة الوسط العدل الخيار فاقتضى ذلك أن يكون نبيهم صلى الله عليه وسلم أوسط الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وخيارهم، وكتابهم كذلك، ودينهم كذلك، وقبلتهم التي يستقبلونها كذلك[4].

 ثانياً: التوطئَة لتمكين يوسف، عليه السلام:

قال - تعالى -: {إذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ} [يوسف: ٤] يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليهم الصلاة والسلام -: {يَا أَبَتِ إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: ٤] فكانت هذه الرؤيا مقدِّمة لما وصل إليه يوسف - عليه السلام - من الارتفاع في الدنيا والآخرة.

وهكذا إذا أراد الله أمراً من الأمور العظام قدَّم بين يديه مقدِّمة توطئة له وتسهيلاً لأمره، واستعداداً لما يَرِد على العبد من المشاق، لطفاً بعبده وإحساناً إليه؛ فأوَّلَها يعقوب بأن الشمس أمه، والقمر أبوه، والكواكب إخوته، وأنه ستنتقل به الأحوال إلى أن يصير إلى حال يخضعون له، ويسجدون له إكراماً وإعظاماً، وأن ذلك لا يكون إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له، واصطفائه له، وإتمام نعمته عليه بالعلم والعمل، والتمكين في الأرض.

وأن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب، الذين سجدوا له وصاروا تبعاً له فيها؛ ولهذا قال: {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ٥ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّـمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ إنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [يوسف: ٥ - ٦][5].

وقد اسـتنبط الشـافعي - رحمـه الله - من قصة يوسف - عليه السلام - سنَّة من سنن التمكين وهي سنة الابتلاء؛ فعندما سُئِلَ يوماً: أيها أفضل: الصبر أو المحنة أو التمكين؟ فقال الشافعي - رحمه الله -: التمكين درجة الأنبياء، ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة، فإذا امتُحن صبر، وإذا صبر مُكِّن، ألا ترى أن الله - عز و جل - امتحن إبراهيم - عليه السلام - ثم مكنه، وامتحن موسى - عليه السلام - ثم مكنه، وامتحن أيوب - عليه السلام - ثم مكنه، وامتحن سليمان - عليه السلام - ثم مكنه وآتاه مُلكاً، والتمكين أفضل الدرجات. قال الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف: 56]، وأيوب - عليه السلام - بعد المحنة العظيمة مُكِّن. قال الله - تعالى -: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ} [الأنبياء: ٤٨][6].

 ثالثاً: قصة طالوت توطئَة لغزوة بدر:

قال - تعالى -: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْـمَلائِكَةُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ 248 فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْـجُنُودِ قَالَ إنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإنَّهُ مِنِّي إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ 249 وَلَـمَّا بَرَزُوا لِـجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ 250فَهَزَمُوهُم بِإذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْـمُلْكَ وَالْـحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ 251 تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْـحَقِّ وَإنَّكَ لَـمِنَ الْـمُرْسَلِينَ} [البقرة: 248 - ٢٥٢].

في هذه القصة:

توطئة لغزوة بدر وتدريب لمن كُتِب عليهم القتال وهو كره لهم، وتأديب وتهذيب.

وإشــارة عظيمة واضحـة إلى خلافة الصـديق - رضي الله تعالى عنه - بما دل عليه من أمر استخلافه في الإمامة في الصلاة التي هي خلاصة هذا الدين، كما أن ما في تابوت الشهادة كان خلاصة ذلك الدين، وتحذير لمن لعله يخالف فيها أو يقول: إنه ليس من بني هاشم ولا عبد مناف الذين هم بيت الإمامة والرئاسة ونحو ذلك مما حمى الله المؤمنين منه، كما ورد عن عَبْد اللَّهِ بْن زَمَعَةَ فَإِذَا عُمَرُ فِي النَّاسِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِباً فَقُلْتُ: يَا عُمَرُ! قُمْ فَصَلِّ بِالنَّاسِ فَتَقَدَّمَ فَكَبَّرَ، فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ - وَكَانَ عُمَرُ رَجُلاً مُجْهِراً - قَالَ: «فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ؟ يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ، يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ». فَبَعَثَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ صَلَّى عُمَرُ تِلْكَ الصَّلاَةَ فَصَلَّى بِالنَّاسِ[7].

 رابعاً: صلح الحديبية توطئة لفتح مكة:

قال ابن القيم – رحمه الله -: (بَعْض الْحِكَمِ التِي تَضَمنَتْهَا هَذِهِ الْهُدْنَةُ وهِيَ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهَا إلا اللهُ الذِي أَحْكَمَ أَسْبَابَهَا فَوَقَعَتْ الْغَايَةُ عَلَى الْوَجْهِ الذِي اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ وَحَمْدُهُ:

فَمِنْهَا: أَنهَا كَانَتْ مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيْ الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ الذِي أَعَز اللهُ بِهِ رَسُولَهُ وَجُنْدَهُ وَدَخَلَ الناسُ بِهِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجاً، فَكَانَتْ هَذِهِ الْهُدْنَةُ بَاباً لَهُ وَمِفْتَاحاً وَمُؤْذِناً بَيْنَ يَدَيْهِ؛ وَهَذِهِ عَادَةُ اللهِ - سُبْحَانَهُ وتعالى - فِي الْأُمُورِ الْعِظَامِ التِي يَقْضِيهَا قَدَراً وَشَرْعاً؛ أَنْ يُوَطِّئَ لَهَا بَيْنَ يَدَيْهَا مُقَدِّمَاتٍ وَتَوْطِئَاتٍ تُؤْذِنُ بِهَا وَتَدُلُّ عَلَيْهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ هَذِهِ الْهُدْنَةَ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ؛ فَإِن الناسَ أَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَاخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ بِالْكُفارِ وَبَادَؤوهُمْ بِالدعْوَةِ وَأَسْمَعُوهُمْ الْقُرْآنَ وَنَاظَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جَهْرَةً آمِنِينَ، وَظَهَرَ مَنْ كَانَ مُخْتَفِياً بِالْإِسْلَامِ، وَدَخَلَ فِيهِ فِي مُدةَ الْهُدْنَةِ مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَدْخُلَ؛ وَلِهَذَا سَماهُ اللهُ (فَتْحاً مُبِيناً). قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَضَيْنَا لَك قَضَاءً عَظِيماً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَا قَضَى اللهُ لَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْفَتْحَ فِي اللغَةِ فَتْحُ الْمُغْلَقِ، وَالصلْحُ الذِي حَصَلَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ كَانَ مَسْدُوداً مُغْلَقاً حَتى فَتَحَهُ اللهُ، وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ فَتْحِهِ صَدُّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ عَنْ الْبَيْتِ وَكَانَ فِي الصورَةِ الظاهِرَةِ ضَيْماً وَهَضْماً لِلْمُسْلِمِينَ وَفِي الْبَاطِنِ عِزّاً وَفَتْحاً وَنَصْراً، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إلَى مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْفَتْـحِ الْعَظِيمِ وَالْعِز وَالنصْـرِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيـقٍ، وَكَـانَ يُعْطِـي الْمُشْـرِكِينَ كُـل ما سألوه من الشروط التي لم يحتملها أكثر أصحـابه ورؤوسـهم وهو صلى الله عليه وسلم يَعْلَمُ مَا فِي ضِمْنِ هَذَا الْمَكْرُوهِ مِنْ مَحْبُوبٍ {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216].

وَرُبمَا كَانَ مَكْرُوهُ النفُوسِ إلَى مَحْبُوبِهَا سَبَباً مَا مِثْلُهُ سَبَبٌ. فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى تِلْكَ الشرُوطِ دُخُولَ وَاثِقٍ بِنَصْرِ اللهِ لَهُ وَتَأْيِيدِهِ وَأَن الْعَاقِبَةَ لَهُ وَأَن تِلْكَ الشرُوطَ وَاحْتِمَالَهَا هُوَ عَيْنُ النصْرَةِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْجُنْدِ الذِي أَقَامَهُ الْمُشْتَرِطُونَ وَنَصَبُوهُ لِحَرْبِهِمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَذَلُّوا مِنْ حَيْثُ طَلَبُوا الْعِز، وَقُهِرُوا مِنْ حَيْثُ أَظْهَرُوا الْقُدْرَةَ وَالْفَخْرَ وَالْغَلَبَةَ وَعَزَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَسَاكِرُ الْإِسْلَامِ مِنْ حَيْثُ انْكَسَرُوا لِله،ِ وَاحْتَمَلُوا الضيْمَ لَهُ وَفِيهِ؛ فَدَارَ الدوْرُ وَانْعَكَسَ الْأَمْرُ وَانْقَلَبَ الْعِز بِالْبَاطِلِ ذُلاً بِحَق، وَانْقَلَبَتْ الْكَسْرَةُ لِله عِزاً بِاَللهِ، وَظَهَرَتْ حِكْمَةُ اللهِ وَآيَاتُهُ وَتَصْدِيقُ وَعْدِهِ وَنُصْرَةُ رَسُولِهِ عَلَى أَتَم الْوُجُوهِ وَأَكْمَلِهَا التِي لَا اقْتِرَاحَ لِلْعُقُولِ وَرَاءَهَا)[8].

 خامساً: التوطئَة لبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم:

لقد وَّطَّأ لبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بمجموعة موطئات:

فأول من نَوَّه بذكره وشهره في الناس، إبراهيم - عليه السلام - ولم يزل ذكره في الناس مذكوراً مشهوراً سائراً كما ورد في حديث أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا كَانَ بُدُوُّ أَمْرِكَ؟ فَقَالَ: «دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ...».

أفصحَ باسمه خاتمُ أنبياء بني إسرائيل نسباً، وهو عيسى ابن مريم - عليه السلام - كما قال صلى الله عليه وسلم «... وَبُشْرَى عِيسَى بن مَرْيَمَ»؛ حيث قام في بني إسرائيل خطيباً، وقال: {إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّـمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: ٦].

وكذلك قوله: «وَرَأَتْ أُمِّي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ»[9]، قيل: كان مناماً رأته حين حملت به، وقَصَّته على قومها فشاع فيهم واشتهر بينهم، وكان ذلك توطئة، لبعثته صلى الله عليه وسلم[10].

ومن تلك الموطئات: حادثة الفيل التي كانت تمهيداً لمبعثه صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير - رحمه الله - وهو يتحدث عن حادثة الفيل: «كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم - يا معشر قريش - على الحبشة لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرِّفه ونعظِّمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء»[11].

المستفاد من هذه المنهجية:

1 - على المفتي أن يذكر بين يدي الحكم الغريب الذي لم يُؤْلَف مقدمات تؤنس به وتدل عليه، وتكون توطئة بين يديه.

2 - على المربين والدعاة والمصلحين تهيئة النفوس لقبول الإرشاد والوصول إلى الكمال الإنساني في العمل بالأحكام الشرعية. قال الشوكاني - رحمه الله -: «لا تأتِ الناس بغتة وتصكَّ وجهوهم مفاجئة ومجاهرة وتنعى عليهم ما هم فيه نعياً صراحاً وتطلب منهم مفارقة ما ألِفُوه طلباً مضيفاً وتقتضيه اقتضاء حثيثاً؛ بل أسلك معهم مسالك المتبصرين في جذب القلوب إلى ما يطلبه الله من عباده ورغِّبهم في ثواب المنقادين إلى الشرع المؤثرين للدليل على الرأي وللحق على الباطل»[12].

3 - على أُولِي العلم وأهل الفكر استنباط السنن الكونية والاجتماعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كما استنبط الشافعي سُنة الابتلاء توطئة للتمكين لأهل الحق والرشاد.


 

 


[1] المفردات: 184.

[2] لسان العرب: 1/ 195.

[3] زاد المعاد: 3/ 275.

[4] إعلام الموقعين: 4/ 163 - 164.

[5] السعدي، ص393.

[6] إحياء علوم الدين: 1/ 26.

[7] سنن أبي داود: استخلاف أبي بكر، (4662). قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.

[8] زاد المعاد: 3/ 275.

[9] المسند: 5/262.

[10] تفسير ابن كثير: 1/ 444.

[11] تفسير ابن كثير: 4/548 - 549.

[12] أدب الطلب: 1/ 44.