يرى بعض المؤرخين أن أوَّل ترجمة لمعاني القرآن سجَّلها التاريخ هي ما كان في أثناء الهجرة إلى الحبشة عندما قرأ جعفر بن أبي طالبرضي الله عنهعلى النجاشي آيات من سورة مريم ثم تُرجمَت له. ويذكر الإمام السرخسي في» المبسوط» «أن الفرس كتبوا إلى] سلمان الفارسي – [ رضي الله عنهأن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكانوا يقرؤون ذلك في الصلاة حتى لانت ألسنتهم للعربية«[1]. لكنَّ هذا الخبر مجهول الأصل لا يُعرَف له سند« كما ذكر الزرقاني في»مناهل العرفان«،[2] فلا يعوَّل عليه.

ومن بواكير الترجمات في تاريخ الإسلام ترجمة سُريانية قام بها بعض النصارى في زمن الحجاج بن يوسف. وكذلك ترجمة فارسية لمعاني القرآن قام بها موسى بن سيَّار في مستهلِّ القرن الثالث الهجري. كما يشير» ت. و. أرنولد « إلى احتمال وجـود ترجمـة صينيـة عتيقة[3]. غير أننا لا نملك ما يثبت أو ينفي هذه الإشارات. وأودُّ الاقتصار في هذا المقال على عرض الترجمات الأوروبية التي قام بها غير المسلمين معرِّفاً ومحذِّراً.

أما أول ترجمة لمعـاني القـرآن إلـى لغـة أوروبيـة فتلك التي قام بهـا»روبيرتوس ريتنسيس «عام 1143م. وقد كانت ترجمة إلى اللغة) الرومية)(اللاتينية(بتكليف من رئيس» دير كلوني» «بطرس المبجل«.وكان الهدف منها النَّيل من الإسلام؛ إذ كانت هذه الحقبة تشهد حروباً صليبية طاحنة. وفي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي طلب» الفونس العاشر «من شخص يدعى» أبراهام الطليطلي« أن يترجم له أجزاء من القرآن إلى الإسبانية فترجم له سبعين سورة[4].

أما أول ترجمة إلى الإنجليزية فظهرت عام 1515م، وهي ترجمة جزئية لا تتجاوز إحدى وستين صفحة، كما أنها مجهولة لا يُعرَف من قام بها ولا من نشرها. إلا أنها تُستهَلُّ بعبارةٍ تُنْبئ عن مقصود صاحبها؛ إذ تقول: هذا مبتدأُ رسالةٍ وجيزة حول الشريعة التركية المسماة بالقرآن. كما أنها تتحدث عن »مَحامِت« الساحر [5]Machamet the Nygromancer يعني محمداً[6].

أما أول ترجمة مكتملة إلى اللغة الإنجليزية فقام بها» الإسكندر روس«عام 1649م، وهي ترجمة كثيرة الأغلاط ترجمها عن النسخة الفرنسية التي كان قد أعدها القنصل الفرنسي في مصر »أندريه دو رييه« 1647م. وقدم «روس» لترجمته بقوله «ها أنذا أقدمه لك يعني] القرآن[ ولم أبذل في ذلك جهداً سوى ترجمته عن الفرنسية. ولا أرتاب في أن هذا] القرآن[ الذي هو سُمٌّ لجزء كبير من أُولِي السُّقم في العالم يعني]  المسلمين[قد يكون ترياقاً يثبت صحة النصرانية»[7]. ولعل هذا البائس لم يقرأ قوله - تعالى - واصفاً كتابه:  }قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ { ]فصلت:44 [. وقد شهد على جهل هذا المتعالمِ الصليبيُ المعروف»صموئيل زويمر«قائلاً: »كان عديم الفقه للعربية، ولم يكن من علماء فرنسا المحقِّقين، فجاءت ترجمته بالِغةً في العجز مبلَغَه«[8].

وفي عام 1698م قام الأب الكاثوليكي »لودوفيتش ماراتشي - «وقد كان كاهن اعتراف البابا  »إنوسنت الحادي عشر « - بترجمة معاني القرآن إلى اللاتينية، وأصبحت هذه الترجمة أساساً لكثير من الترجمات الإنجليزية فيما بعد. وقد جعل »ماراتشي « إهداء الترجمة إلى الإمبراطور الرومي »ليوبولد الأول « وقدَّم لها بمجلد كامل أسماه » دحض القرآن. « وقد أشار »عبد الله يوسف علي» – « صاحب الترجمة الإنجليزية الشهيرةفي مقدمة ترجمته إلى أن »ماراتشي« ضمَّن ترجمته » اقتباساتٍ من تفاسيرَ عربيةٍ مختلفة انتقاها بدقة ثم لفَّقها ببعضها ليُحدِث لدى أوروبا أسوأ انطباع عن الإسلام «[9].

وفي عام 1734م انتهى » جورج سيل « من ترجمته التي اعتمد فيها على نسخة عربية للقرآن الكريم طبعت في هامبورج عام 1694م، وهي لا تخلو من أخطاء. ولقلة بضاعته في العربية اتكأ على ترجمة »مراتشي« اللاتينية آنفة الذكر. لكن هذه الترجمة ظلت طوال قرنين عمدةً لدى الباحثين الغربيين، بل ترجمت إلى الهولندية والألمانية والفرنسية والروسية والسويدية والبلغارية، بل أعيدت طباعتها أكثر من مائة وعشرين مرة. يقول »جورج سيل « مبرراً الحاجة إلى ترجمته: »من الضرورة بمكان أن نُخلِّص المخدوعين ممن تبنَّوا آراء إيجابية تجاه النص الأصلي] للقرآن [بسبب الترجمات الجاهلة أو المنحازة التي ظهرت، وأن نمكِّن أنفسنا من كشف الدجل بشكل أكثر فاعلية... «[10]، وكأن تحريف المترجمين قبله لم يكن كافياً، فاستدعى الأمر مزيداً من الافتراء على كتاب الله، عز وجل. هذه الروح التي دوَّن بها ترجمته.

أعقب هذا ترجمةُ القس »ج. م. رودويل«إلى الإنجليزية عام 1861م. وقد تجاوز في مقدمتها على مقام النبوة واعتمد في ترتيب السور على كتاب Geschichte Des Qorans للمستشرق »نولدكه « زاعماً أنه ترتيب النزول. ثم ظهرت بعدها ترجمتان إنجليزيتان: إحداهما قام بها »إدوارد بالمر «عام 1880م، والأخرى قام بها «ريتشارد بيل» عام 1937م. وكل هذه الترجمات هي ما ننتظره ممن يحقد على الإسلام ويجهل لغة القرآن.

لكن أشهر ترجمات المستشرقين على الإطلاق هي ترجمة »آرثر آربري «التي أنجزها عام 1955م. فالمترجم كان ذا باعٍ طويل في آداب العربية؛ فقد شغل منصب رئيس قسم الكلاسيكيات بجامعة القاهرة كما درَّس العربية بجامعة كامبرج. من أعماله ترجمة كتاب»طوق الحمامة «للإمام ابن حزم - رحمه الله - الذي يدل على تمكُّن »آربري «من آداب العربية والإنجليزية على السواء؛ إذ ترجم الشعر شعراً، وهو ما لا يستطيعه إلا قلة من المترجمين. فلما ترجم معاني القرآن أعيته بلاغة القرآن، فترجمتُهفي تقديريلا تعكس تميُّزه الأدبي. لكنه لم يُخفِ عجزه بل اعتذر له قائلاً:

«إنني بتسميتي هذا العمل»القرآن مفسراً «لَأَخضع للرأي الإسلامي السائد الذي أَدركه] المترجم الإنجليزي المسلم[  »بيكثال « بأن القرآن لا يمكن أن يُترجَم... فبلاغةُ عربيةِ القرآن وإيقاعُها بالِغا التفرُّد والقوة والتأثير، حتى إن أي ترجمة مهما كانت لن تكونبطبيعة الأمرسوى محاكاة هزيلة لبهاء الأصل] العربي[ الأخَّاذ[11].

لكن ترجمته عجزت في مواطن كان حَرِياً بمثله ألا يعجز فيها، لكنه غياب التوفيق الرباني.

أخيراً: هناك ترجمة العراقي اليهودي » ن. ج. داود « التي انتهى منها بعد ظهور ترجمة » آربري« بعام واحد. وهي ترجمة تطفح بالأخطاء المتعمَّدة؛ فهو على سبيل المثال يترجم » بني آدم «بـ » بني الله « وهو حريف بيِّن، وعلى مثله فَقِس.

ختاماً أؤكد: أن هذا العرض الذي قصرتُه على ترجمات المستشرقين لا يعني أن مجرد كون المرء مسلماً يتحدث لساناً أعجمياً إلى جانب لغة القرآن يخوِّله ذلك الشروعَ في ترجمة معاني القرآن التي هي في حقيقتها تفسير وجيز للقرآن بلغة أخرى؛ فلا ينبغي أن يتصدى له إلا مَنْ جمع بين العلم الشرعي واستيعاب دقائق العربية، وامتلك قلماً أدبياً يعكس به بعض جوانب الجمال في لغة القرآن.

 

هذا البحث مختصر من كتاب:


Qadhi, Y. An Introduction to the Sciences of the Qur’aan (Birmingham, UK: Al-Hidaayah Publishing and Distribution, 1999).
 السرخسي. المبسوط، ج 1، ص 35 (وفق ترقيم المكتبة الشاملة – الإصدار الثاني).

 

 


[1]الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن، ج 2، ص 115 (وفق ترقيم المكتبة الشاملة – الإصدار الثاني).
[2] World Bibliography of the Translations of the Meaning of the Qur’an, quoted in Qadhi, Y. An Introduction to the Sciences of the Qur’aan (Birmingham, UK: Al-Hidaayah Publishing and Distribution, 1999), p. 355-356.
[3] An Introduction to the Sciences of the Qur’aan, p. 357.
[4]
هذه التهجئة القديمة للكلمة الإنجليزية necromancer من اليونانية nekro-manteia وتعني حرفياً: «المتنبئ بالمستقبل عن طريق التواصل مع الأموات» ويقال: «ممارس السحر الأسود».
[5] Ibid.
[6] Arberry, A. The Koran Interpreted (New York: The MacMillan Company, 1955), p. 8.
[7] Kidwai, A. R. English Translations of the Holy Qur’an: An Annotated Bibliography, p. 19.
[8] Yusuf Ali, A. The Holy Qur’an: Translation and Commentary, p. xv.
[9] Sale, George. The Koran (London: Frederick Warne and Co., 1887).
[10] Arberry, A. The Koran Interpreted, p. 26.