قال الله - تعالى -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود: 1١2]. أمر الله في هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم وأمته بالاستقامة على شرع الله ونهاهم عن الطغيان؛ فالله يريد منا استقامة بلا طغيان.
والاستقامة: هي التمسك بأمر الله فعلاً للطاعات، وتركاً للمعاصي والسيئات[1].
والطغيان: هو إفراط الاعتدال في حدود الأشياء ومقاديرها[2]؛ أي: مجاوزة الحد المشروع والغلو. قال ابن جرير في تفسيره للآية: (فبيَّن أن الاستقامة بعدم الطغيان وهو مجاوزة الحد، والمقصود من العبد الاستقامة وهي السداد؛ فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، وعند مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سدِّدوا وقاربوا، واعلموا أنه لن ينجوَ أحد منكم بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمـدني الله برحمة منه وفضل»؛ فجمع في هذا الحديث مقامات الدين كلها؛ فأمر بالاستقامة وهي السداد، والإصابة في النيات والأقوال، وأخبر في حديث ثوبان[3] أنهم لا يطيقونها فنقلهم إلى المقاربة؛ وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم؛ كالذي يرمي إلى الغَرض، وإن لم يُصِبه يقاربه، ومع هذا فقد أخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجِّي يوم القيامة؛ فلا يركن أحد إلى عمله، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله وغفرانه وفضله) اهـ[4].
وتأمَّل قوله - تعالى -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}؛ أي: لا تستقم كما تهوى نفسك، بل استقم كما أمرك ربك، والنفس قد تهوى الإفراط أو التفريط، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والواجب على كل مسلم أن يتحرى التوسط والاعتدال؛ بحيث لا يقصر ولا يغالي. قال الله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 1٤3]. قال ابن جرير: (الوسط في هذا الموضوع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، لتوسطهم في الدين، فلا هـم أهـل غلـوٍّ فيه غلـوَّ النصـارى، ولا أهل تقصير فيه تقصيرَ اليهود، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوساطها.
وقال ابن القيم: (الوسط الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط هو العدل، وهو الذي عليه بناء مصالح الدنيا والآخرة)[5].
وقال الشاطبي: (الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه... فهكذا تجد الشريعةَ أبداً في مواردها ومصادرها جارية على هذا الترتيب الوسط المعتدل، فإذا نظرت إلى كليَّة من كليَّات الشريعة فتأملتَها وجدتَها حاملةً على التوسط)[6].
وقال الأوزاعي: (ما من أمر أمر الله به إلا عارض الشيطان فيه بخصلتين ولا يبالي أيهما أصاب: الغلو أو التقصير).
وقال الطحاوي: (دين الله في الأرض والسماء واحد، وهو دين الإسلام، وهو بين الغلو والتقصير)[7].
وعن بريدة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم هدياً قاصداً (قالها ثلاثاً)؛ فإنَّ من يشاد هذا الدين يغلبه»[8].
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً[9].
والمتنطعون هم المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم، وأما المتمسكون بكتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم فليسوا متنطعين ولا متشددين، بل هم المستقيمون على شرع الله ودينه الذي رضيه الله لهذه الأمة ويسَّره لها {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الزخرف: ٣٤].
وعن محجن بن الأدرع - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن خير دينكم أيسره» قالها ثلاثاً[10].
فيجب على المسلم أن يستقيم على شرع الله بلا غلو وطغيان؛ فلا يقصر عن الاستقامة فيقع في التفريط، ولا يجاوز الحد فيقع في الإفراط. والتفريط لا يخفى أمره على المتقين، ولكـن الإفراط يخفى على بعض الصالحين؛ فأهل الاستقامة يُخشَى عليهم من الغلو والطغيان؛ ولذا كثرت الآيات والأحاديث المحذِّرة من ذلك، وقد نهانا الله - عز وجل - عن الغلو كما نهى الذين من قبلنا. قال - تعالى -: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: ١٧١] وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أُهلِكوا بالغلو؛ فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»[11].
فالغلو في الدين ضرره عظيم وشرُّه مستطير، وآثاره سيئة للغاية على الغالي نفسه وعلى أسرته، وعلى مجتمعه وأمته.
من أسباب الغلو:
ومن أعظم أسباب الغلو الجهل بالدين؛ لا سيما إن كان الغالي من أنصاف المتعلمين أو ممن يجعل نفسه من المجتهدين غلطاً، فيَضِل ويُضل بغير علم وهو يحسب أنه يُحسِن صنعاً أو كان من المجتهدين في علم من العلوم الشرعية ولكنه لا يتأدب مع العلماء السابقين ولا العلماء اللاحقين، ولا يتسع صدره للخلاف معهم في مسائل الاجتهاد، ويريد أن يُلزم الناس بقوله طغياناً وظلماً.
ومن أسباب الغلو أيضاً عدم مراعاة المصالح والمفاسد، وهذا راجع إلى الجهل أيضاً؛ فمن المقرر عن العلماء الراسخين أنه يجب ارتكاب أدنى المفسدتين للسلامة من أعلاهما، ويجب ترك إحدى المصلحتين لتحصيل أعلاهما، وعندهم أن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح[12].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخفِّ الضررين بتحصيل أعظم الضررين؛ فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا معاً، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً)[13].
من صور الغلوِّ:
من الصور السيئة للغلو والطغيان التي يقع فيها بعض أهل الإيمان ما يلي:
التفسير والتشديد على النفس وعلى الناس:
وهذا خلاف ما بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة الذي قال الله - تعالى - عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 1٠7]؛ فقد بعثه الله بالحنيفية السمحة. قال الله - تعالى -: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: ٨]، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 1٨5]. وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً»[14].
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً؛ فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه)[15].
وعن أبي برزة - رضي الله عنه - قال: (غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره)[16].
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بشروا ولا تنفِّروا، ويسروا ولا تعسروا»[17].
وعن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال: (أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا. قال: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أشدَّ غضباً في موعظة منه يومئذٍ فقال: «يا أيها الناس! إن منكم منفِّرين، فأيُّكم ما صلى بالناس فَلْيجوِّز؛ فإن فيهم المريضَ والكبيرَ وذا الحاجة»[18].
وعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا الدين متيم فأوغل فيه برفق، ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة الله؛ فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى»[19].
قال ابن حجر: (لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرُّخص إلا عجز وانقطع فيُغلَب)[20].
ومن هؤلاء المتعمقين مَن لا يكتفي بترك الرخص، بل يُلزم الناس بتركها، ويقدح ويطعن في من يفتي بالرخصة في بعض المسائل الاجتهادية، ويريد من الناس أن يعملوا بالأفضل والأكمل والأحوط في كل ما يختاره ويذهب إليه، وقد يكون الأمر واسعاً فلا يرضى إلا بتصنيفه، ومَن شق على المسلمين شق الله عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليس كل ما كان أفضل يشرع لكل أحد، بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له)[21]. وقال أيضاً: (أكثر الناس يكون المستحب لهم ما ليس هو الأفضل مطلقاً؛ إذ لا يقدرون على الأفضل، ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه)[22].
ومن الأدلة على هذا حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد فقال: «أحيٌ والداك؟» قال: نعم. قال: «ففيهما فجاهد»)[23].
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن أعرابياً قال: يا رسول الله! أخبرني عن الهجرة فقال: «ويحك إنَّ شأن الهجرة شديد؛ فهل لك من إبل؟» قال: نعم. قال: «فهل تؤدي صدقتها؟» قال: نعم. قال: «فاعمل من وراء البحار؛ فإن الله لن يَتِرَك من عملك شيئاً»[24].
وقد قال الله - تعالى -: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِـمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْـخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ 32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 32 - ٣٣]. قال ابن كثير في تفسيره: {فَمِنْهُمْ ظَالِـمٌ لِّنَفْسِهِ} وهو المفرِّط في بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرَّمات، {وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} وهو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعضَ المستحبات ويفعل بعض المكروهات، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْـخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ} وهو الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات)، ثم نقل عن محمد بن الحنفية قوله: (إنها أمَّة مرحومة: الظالم مغفور له، والمقتصد في الجنات عند الله. والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله)[25].
الغلظة والجفاء وسوء الأخلاق:
فمنهم من هو غليظ العشرة سيئ المعاملة تارك للرفق في أموره مُقطب الوجه من ضيق صدره؛ فهل هذه هي السُّنة؟
لقد كـان النبـي صلى الله عليه وسلم أحسـن النـاس أخلاقـاً[26]. قال اللـه - تعالى -: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: ٤]، وقال: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 1٥9].
وعن جرير - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يُحرم الرفق يُحرَم الخير»[27].
وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزَع من شيء إلا شانه»[28].
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أُعطِي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرِم حظه من الرفق حُرِم حظه من الخير»[29].
وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤمن مَأَلَفة ولا خير في من لا يألَف ولا يؤلَف»[30].
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حُرِّم على النار كل هيِّن ليِّن سهل قريب من الناس»[31].
قال سعيد الزبيدي: (يعجبني من القراء كل سهلٍ طلقٍ مِضحاك؛ فأما من تلقاه ببشْر ويلقاك بضَرس [أي شرس] يمنُّ عليك بعمله فلا كثَّر الله في الناس أمثال هؤلاء)[32].
سوء الظن بلا برهان، والغيبة والنمية والبهتان:
قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12]، إن (سوء الظن هو اعتقاد جانب الشر وترجيحه على جانب الخير في ما يحتمل الأمرين معاً)[33].
قال عمر - رضي الله عنه -: (لا تظنَّن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً)[34].
وقد عدَّ ابن حجر الهيثمي سوءَ الظن بالمسلم من الكبائر وقال: (كل مَن رأيتَه سيئ الظن بالناس طالباً لإظهار معايبهم فأعلم أن ذلك لخُبْث باطنه وسوء طويته؛ فإن المؤمن يطلب المعاذير لسلامة باطنه والمنافق يطلب العيوب لخبث باطنه)[35].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث»[36].
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذِكْرُك أخاك بما يكره. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته»[37]؛ من البهتان وهو الباطل.
وعن أبي برزه الأسلمي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته»[38].
فلا أحد يَسْلم من النقص والتقصير والذنوب، والواجب هو التناصح لا الطعن والهمز واللَّمز، وينبغي أن يُعلَم أن العدل هو من قارب وسدد وغلب خيره على شره. قال الشافعي: (لو كان العدل من لم يذنب لم نجد عدلاً، ولو كان كل ذنب لا يمنع من العدالة لم نجد مجروحاً، ولكن من ترك الكبائر وكانت محاسنه أكثر من مساوئه فهو عدل)[39].
قال الشاعر:
من الذي تُرضَى سجاياه كلها؟
كفى المرء نُبْلاً أن تُعَدَّ معايبه
وقال آخر:
من الذي ما ساء قط؟
ومن له الحسنى فقط؟
فلا معصوم إلا الأنبياء، وكل بني آدم خطَّاء، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
واعلم أن سوء الظن بالمسلم وغِيبَتَه قد يؤديان إلى النميمة وهي نقل كلام الناس على جهة الإفساد بينهم؛ فعن عبد الرحمن ابن غَنْم - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيار عباد الله الذين إذا رُؤوا ذُكِر الله، وشرار عباد الله المشَّاؤون بالمنميمة، المفرِّقون بين الأحبة، الباغون للبراء العنت»[40]. أي: يطلبون العيوب القبيحة للأبرياء، وما أكثر هؤلاء لا كثَّرهم الله، فيبدِّعون من ليس بمبتدع، ويضللون من خالفهم في مسائل اجتهادية[41].
الجدال والمخاصمة والتباغض والهجران:
عن أبي أمامه - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما ضل قوم بعد هدى عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]»[42].
وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك المراء وهو محق بُنِي له بيت في وسط الجنة»[43].
قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: (كفى بك إثماً أن لا تزال مخاصماً، وكفى بك إثماً أن لا تزال ممارياً)[44].
وقال ميمون بن مهران: (إياك والخصومة والجدال في الدين! ولا تجادلَن عالماً ولا جاهلاً: أما العالـم فإنه يَخْـزِن عنـك علمه ولا يبالي ما صنعت، وأما الجاهل فإنه يُخشِّن بصدرك ولا يطيعك)[45].
وقال الأوزاعي: (إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل)[46].
وكثيراً ما يؤدي الجدال والخصام إلى التباغض والتهاجر، وهذا خلاف ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته؛ فعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تَبَاغضوا ولا تَحَاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»[47].
وعن حدرد الأسلمي - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه»[48].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا لم يكن في الهجر انزجار أحد بل بطلان كثير من الحسنات المأمور بها لم يكن مأموراً به؛ فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً فاستعملوا من الهجر ما لم يؤمَروا به وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرَّمات وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه)[49].
ومن أصول الشريعة أنها تأمر بكل ما يدعو إلى الأُلفة والتحابب بين المسلمين، وتنهى وتزجر عن كل ما يسبب التهاجر والتباغض بين المسلمين؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتهم؟ أفشوا السلام بينكم»[50].
التفرق والاختلاف:
قال الله - تعالى -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 1٠3]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } [الأنفال: ١]، وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]؛ أي قوَّتكم ونصركم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً أنواع الفساد التي يؤدي إليها التنازع والاختلاف: (التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف، حتى يصير بعضهم يبغض بعضاً ويعاديه، ويحب بعضاً يواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز وبعضِهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح، وبعضِهم إلى المهاجره والمقاطعة، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرَّمها الله ورسوله، والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله... وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة، بل وفي غيرها هو التفرق والاختلاف؛ فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم من ذلك ما الله به عليم، وإن كان بعض ذلك مغفوراً لصاحبه لاجتهاده الذي يُغفَر فيه خطؤه أو لحسناته الماحية أو توبته أو لغير ذلك، لكن يُعلَم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام؛ ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسُّنة والجماعة)[51].
الظلم وعدم الإنصاف:
قال الله - تعالى -: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا} [النساء: 1٣5]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: ٨]، وقال: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (نجد كثيراً من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حقٌّ مَّا أو معه دليل يقتضي حقاً مَّا، فيرد الحق في هذا الأصل كله حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض كما كان الأول مبطلاً في الأصل، كما رأيته لكثير من أهل السُّنة في مسائل القدر والصفات والصحابة وغيرهم، وأما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر، وكما رأيته لكثير من الفقهاء أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه)[52].
وقال أيضاً: (أكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول [يعني من الاختلاف الذي فيه ذم الطائفتين جميعاً] وكذلك آل إلى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك، وكذلك جعل الله مصدر الاختلاف البغي في قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة: 2١3]؛ لأن البغي مجاوزة الحد، وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة)[53].
وقال أيضاً: (ولكن الاجتهاد السائغ لا يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي لا لمجرد الاجتهاد... فلا يكون فتنة وفرقة مع وجود الاجتهاد السائغ بل مع نوع بغي؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن القتال في الفتنة، وكان ذلك مع أصول السُّنة)[54].
والإنصاف عزيز. قال الإمام مالك: (ما أقل الإنصاف في زماننا!)[55]؛ فكيف لو رأى زماننا؟ وبالإنصاف يقل الخلاف ويحصل الائتلاف.
التضليل والتفسيق والتبديع والتكفير بلا برهان:
قال الله - تعالى -: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإثْمًا مُّبِينًا} [الأحزاب: 58]، وقال: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [الحجرات: ١١]. قال ابن جرير في تفسيره: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} لا يعِب بعضكم بعضاً أيها المؤمنون، ولا يطعن بعضكم على بعض، وقوله: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} يقول: ولا تداعوا بالألقاب، عن عكرمة ومجاهد قالا: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا كافر. وعن قتادة قال: لا تقل لأخيك المسلم: ذاك فاسق، ذاك منافق، نهى الله المسلمين عن ذلك. قال ابن جرير: التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه: من اسم أو صفه، وعمَّ الله بنهيه ذلك، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض؛ فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها[56].
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا رجلاً بالكفر أو قال: عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه»[57].
قال ابن دقيق العيد: (وهذا وعيد عظيم لمن كفَّر أحداً من المسلمين، وليس هو كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق من العلماء اختلفوا في العقائد وحكموا بكفر بعضهم بعضاً)[58].
وعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: سلطان غشوم ظالم، وغالٍ في الدين يشهد عليهم ويتبرأ منهم»[59].
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأرزقنا الاستقامة كما أمرتنا بلا طغيان. لمالية والبشرية وكثرة التحديات: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
[1] انظر فتح الباري: (13/257)، وتفسير الماوردي: (5/179).
[2] التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي، (ص 227).
[3] يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد: (5/277).
[4] تفسير ابن جرير: (2/626 - 627) باختصار.
[5] الفوائد لابن القيم: (ص 139).
[6] الموافقات: (2/163) بتصرف.
[7] انظر شرح الطحاوية لابن أبي العز: (ص 585).
[8] أخرجه أحمد: (5/350) وصححه الألباني.
[9] أخرجه مسلم: (2670).
[10] أخرجه أحمد: (5/32).
[11] أخرجه النسائي: (5/268).
[12] انظر مشكلة الغلو في الدين: (1/124).
[13] مجموع الفتاوى: (23/343).
[14] أخرجه مسلم: (1478).
[15] أخرجه البخاري: (6126)، ومسلم: (2327).
[16] أخرجه البخاري (1211).
[17] أخرجه البخاري: (4341)، ومسلم: (1733).
[18] أخرجه البخاري: (6110)، ومسلم: (466).
[19] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: (3/18)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (2242).
[20] فتح الباري: (1/117).
[21] مجموع الفتاوى: (23/60).
[22] مجموع الفتاوى: (19/119)، وانظر: (22/348).
[23] أخرجه البخاري: (3004)، ومسلم: (2549).
[24] أخرجه البخاري: (6165).
[25] تفسير ابن كثير: (3/532 - 534).
[26] قاله أنس، رضي الله عنه. أخرجه البخاري: (6203)، ومسلم: (2150).
[27] أخرجه مسلم: (2592).
[28] أخرجه مسلم: (1828).
[29] أخرجه الترمذي: (213) وصححه.
[30] إخرجه أحمد: (5/335)، وصححه الألباني في الصحيحة: (1/711).
[31] أخرجه الترمذي: (2488) وحسنه.
[32] أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان، (ص 196).
[33] نضرة النعيم: (10/4652).
[34] تفسير ابن كثير: (4/214).
[35] الزواجر عن اقتراف الكبائر، (ص 109).
[36] أخرجه البخاري: (6066)، ومسلم: (2563).
[37] أخرجه مسلم: (2589).
[38] أخرجه أبو داود: (4880).
[39] انظر كتاب ثمرات النظر في علم الأثر لابن الأمير الصنعاني، (ص 109 - 118).
[40] أخرجه أحمد: (4/227).
[41] انظر كتاب تصنيف الناس بين الظن واليقين للشيخ بكر أبو زيد.
[42] أخرجه الترمذي (3453) وصححه.
[43] أخرجه الترمذي (1993) وحسنه.
[44] أخرجه الدارمي: (1/101).
[45] أخرجه الدارمي: (1/102).
[46] شرح أصول الاعتقاد: (ص 145).
[47] أخرجه البخاري: (6065)، ومسلم: (2559).
[48] أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الألباني في الصحيحة: (928).
[49] مجموع الفتاوى: (28/211 - 213) باختصار وتصرف، وانظر: (28/204 - 209).
[50] أخرجه مسلم: (54).
[51] مجموع الفتاوى: (22/356 - 368) بتصرف.
[52] اقتضاء الصراط المستقيم: (ص 38) بتصرف.
[53] كتاب الجماعة والفرقة لشيخ الإسلام جمع عبد السلام بن محمد، (ص 47) بتصرف.
[54] المرجع السابق: (ص 66).
[55] جامع بيان العلم وفضله: (1/531).
[56] تفسير ابن جرير: (21/366 - 371) باختصار وتصرف.
[57] أخرجه مسلم: (112).
[58] انظر كتاب الغلو في الدين لعبد الرحمن اللويحق: (ص 262).
[59] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة، وصححه الألباني في الصحيحة: (7628).