لأدب الرحلات مكانة عالية بين التَّصانيف المختلفة، وما ذاك إلاَّ لما يحويه هذا التَّأليف من فوائد يندر اجتماعها في موضع آخر؛ ولذلك تجد إقبالاً من أهل غالب الفنون؛ فلكتب الرَّحلات عناية بالشُّؤون الدِّينية الخاصَّة بطريق الرّحلة، واهتمام بالأوضاع الاجتماعية، والسِّياسية، والاقتصادية، والعلمية، لقاطني الدِّيار التي يمرُّ بها الرّحالة، وفيها احتفال بالغرائب والعجائب، وحرص على ملاقاة مَنْ يستحق اللقاء من العلماء والأدباء، وإلمام بتاريخ المدن وأسماء البلدان وأخبارها، إضافةً إلى أنَّ طابعها يتَّسم بالإمتاع والمؤانسة، وما أجمل رفقة كتب الرَّحلات إبَّان السَّفر؛ أو حين انشغال الذِّهن؛ ففيها ترويح آمن، ومعلومات لطيفة لا تجلب الملل للنَّاظر فيها.

ومهما تنوعت الرَّحلات واختلفت؛ فإنَّ أعظم رحلة يقوم بها إنسان هي تلك الرّحلة التي تسبق مشاعرُه فيها جوارحَه، وترنو إليها روحه سابقةً جسدَه، ويهيم بها فؤاده قبل الشُّروع فيها، ولا تجتمع هذه الصِّفات إلاّ لقاصدي البيت العتيق للحج والعمرة؛ ثمَّ اهتبال فرصة القرب لزيارة المدينة النَّبوية والصَّلاة في مسجدها، ويا لها من رحلة تستعذبها الأرواح، وتستروح النُّفوس عبيرها، وتظلُّ ذكراها الجميلة عالقةً في ذهن منشئها زمناً طويلاً طويلاً.

وقد ألَّف بعض العلماء والأدباء والبلدانيين والمؤرخين والمستشرقين كتباً عن رحلاتهم إلى الحج، فبعضها كتاب خاصٌّ عن رحلة الحج فقط، وبعضها كتاب رحلة عامَّة ضمَّنها مؤلفها حديثاً عن رحلته إلى الحج و الحجاز.

ويرجع التَّأليف في هذا الباب إلى القرن السَّادس الهجري، واشتغال الأدباء به أكثر من اشتغال العلماء؛ لأنَّ الأدباء يتوسعون في العبارة، ويكتبون عن الحادثة الواحدة صفحاتٍ طويلةً ماتعة بسبب ماحباهم الله من أدب الدَّرس؛ والقدرة على تشقيق الكلام وإجادة الوصف، وهذا ما لا يتوافر لدى العلماء الذين يحسبون حساب الكلمة الواحدة، وليس لكثير منهم التفات نحو العبارات البلاغية والبيان الزَّائد عن حدِّ الإفهام؛ إضافةً إلى انصرافهم نحو علم المناسك والأحكام؛ حيث منفعته أعظم وله الأولوية على غيره.

واتسعت خريطة الكتابة عن رحلات الحج حتى شملت مؤلفين من الأندلس و المغرب، و مصر و الشَّام، و الهند و اليابان، و تركيا وآخرين من عدَّة بلاد أوروبية طبقاً لجنسية المؤلف أو مكان إقامته، واختلفت أحوال المؤلفين ما بين رحلة شخصية، أو مرافقة لأمير أو ملك، أو على رأس وفد دولة أو أميرٍ لموكب حجِّها، أو ضيفٍ على حكَّام الحجاز، أو صاحب مشروع سياسي كما في كثير من رحلات المستشرقين.

وقد يسَّر الله أن انبرى بعض الباحثين والمؤسسات الثَّقافية لخدمة بعض كتب رحلات الحج ونشرها، ويبقى الجهد الأعظم في استقصاء جميع ما كتب عن رحلات الحج، ونشره محقَّقا؛ ووضع فهارس كاشفة تعين القارئ على بلوغ مراده، ومعرفة المخطوط منها والمطبوع أو المفقود.

وشملت عناية بعض المؤلفين تتَّبع كتب رحلات الحج كما فعل الأستاذ الشَّيخ حمد الجاسر - رحمه الله - في مجلد واحد أسماه : ( أشهر رحلات الحج )، واختصر د. محمد بن حسن الشريف أكثر من عشرين كتاباً من كتب رحلات الحج القديمة والحديثة في أربعة مجلدات بعنوان : ( المختار من الرَّحلات الحجازية إلى مكة و المدينة النَّبوية )، كما أصدر الأستاذ أحمد محمد محمود كتاباً عنوانه : ( رحلات الحج ) في ثلاثة أجزاء، وتحدَّث فيه عن جملة من كتب رحلات الحج خلال القرون الثَّلاثة الأخيرة.

وتأتي أهمية كتب رحلات الحج وزيارة الحرمين من عِظَم فائدتها العلمية وقيمتها لدى الباحثين؛ فضلاً عن ارتباطها بالأماكن المقدَّسة، ومن جوانب أهميتها أنَّها بيان دقيق لحال المسلمين الدِّينية ومدى قربهم من الله واتِّباعهم السنَّة خصوصاً ما يتعلق بأهل الحرم، إضافةً إلى وصف الأوضاع السِّياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية؛ ونقل عادات السُّكان وطبيعتهم في الافراح والأحزان، وتسجيل سيرة أمراء الحجاز مع الحجَّاج وطرق سياستهم للعامَّة، كما أنَّها تصف العاطفة ومعاني الأخوَّة في الدِّين عند الحجيج وسكان الحرمين، وفيها إيضاح قيمة الأدب ومبلغه؛ وقدر العناية باللغة وعلومها في زمن الرّحلة، كما أنَّها تخبر عن أمن الطريق إلى الحج عبر العصور، وقد تُلْمِح إلى جهاد المسلمين وشؤونهم العسكرية، ومن خلالها يمكن الإلمام بشيء من تاريخ عمارة الحرمين الشَّريفين والمشاعر المقدَّسة، إلى غير ذلك من فوائد وفرائد يتلذَّذ بها العقل ويطرب لها السَّمع.

وتمتاز كتب الرَّحلات التي صنَّفها العلماء باحتوائها على مناسك الحج وأحكامه، بينما تهتم كتب الأدباء والمؤرخين بالطُّرف والأخبار الأنيسة، والأوصاف الشَّائقة، وربما لا تخلو من بدع أو خرافات أو معتقدات باطلة، ومن أشهر كتب الرَّحلات التي لم تسلم من البدع والمعتقدات الخاطئة رحلة ابن بطوطة المسمَّاة : ( تحفة النظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار )، ومن الغريب أنَّ هذه الرِّحلة قد تُرجِمَت إلى بضغ لغات عالمية، وبعض الرَّحلات ينكشف شأنها من عنوانها مثل رحلة أبي عبد الله محمد بن أحمد القيسي الشَّهير بالسِّراج، والملقب ابن مُلَيح، واسمها : ( أنس الساري والسارب من أقطار المغارب إلى منتهى الآمال والمآرب سيد الأعاجم والأعارب ).

وتعدُّ رحلة ابن رشيد السَّبتي من أفضل كتب الرَّحلات التي دوَّنها العلماء لما أودعه فيها من متين العلم وأخبار ملاقاة العلماء ومذاكرتهم، وهذه الرّحلة مطبوعة محقَّقة في خمسة مجلدات، وعنوانها : ( ملء العيبة بما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة ).

ومن الرَّحلات المهمة في هذا الباب : رحلة الشَّيخ الشِّنقيطي صاحب أضواء البيان وعنوانها ( رحلة الحج إلى بيت الله الحرام )، ورحلة محمد رشيد رضا بعنوان : ( رحلة الحجاز )، ومن أفضل الرَّحلات المعاصرة التي أملاها الأدباء ( مرآة الحرمين ) من تأليف اللواء إبراهيم رفعت وكان أميراً على موكب الحج المصري، ورحلة الأمير شكيب أرسلان بعنوان : ( الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف ).

ومن طرائف كتب رحلات الحج أنَّ أحدهم ألَّف كتاباً عن رحلته للحج باللهجة المصرية العامية أسماها : ( يا هناء للوعد ) وهذا من الغرائب كما يقول الشَّيخ العلاَّمة د. عبد الكريم الخضير، أمتع الله به.

ومنها ما ذكره غلام رسول مهر في رحلة حجه عام 1348هـ من شبه القارة الهندية بعنوان : ( يوميات رحلة في الحجاز )؛ حيث تعجَّب ومرافقوه من انتشار ركوب الحمير في الحج؛ ومن كثرتها التي تعود لانخفاض أجرتها مقارنة بالجمال؛ وهو الأمر الذي يراه أهل الهند عاراً وعملاً قبيحا، ثمَّ تغيَّر رأيه هو وأصحابه الذين كانوا معه وأصلحوا نظرتهم للحمار كمركوب ! بعد أن استخدموه لأداء فريضة الحج، ووصف هذا المنظر بأنَّه رائع؛ إذ لم يسبق لأحدهم أن خاض هذه التَّجربة من قبل.

ومن أعجب ما قرأته في رحلات الحج أنَّ المصلين في الحرم كانوا يؤمِّنون بصوت خافت على دعاء الخطيب للخليفة أو لأمير مكة، فإذا بدأ الخطيب في الدُّعاء لصلاح الدِّين الأيوبي - رحمة الله عليه - ارتَّج المسجد الحرام بالتَّأمين والبكاء.

ومن مُلَح هذه الرَّحلات ما ذكره أحد الرَّحالة عن نفسه إذ دخل الحجاز وخرج منها فما رأى وجه امرأة قطُّ؛ لانتشار الحجاب حينذاك.

وقد كان حج الملوك والأمراء والكبراء قديماً مع باقي الحجاج ولا ينفردون إلاَّ في مواضع قليلة؛ وهو ما جعلهم يطَّلعون بلا وسيط على أحوال المسلمين، وهذا بخلاف زعماء هذا الزَّمان الذين تختفي أشباحهم عن جمهرة الحجيج فلا يرى بعضهم بعضاً إلا خلف الشَّاشات؛ ومع ذلك يتسببون في زحام الطَّريق والتَّضييق على الحجاج وفيهم الضَّعيف والمريض والكبير.

وقد كان للمستشرقين والجواسيس رحلات حج مدوَّنة، فمنها رحلة سرية للضَّابط الروسي عبد العزيز دولتشين على أعتاب القرن العشرين الميلادي، ورحلة جوزيف بتس وهو أول إنجليزي في التَّاريخ الحديث يزور مكة، ورحلة الفرنسي ليون روش في منتصف القرن التَّاسع عشر الميلادي؛ وقد اتَّخذ اسماً عربياً يتَّخفى تحته؛ فسمى نفسه عمر بن عبد الله، وكان غرضه سياسياً خالصاً؛ حيث حاول الوصول إلى شريف مكة واستصدار فتوى شرعية تحرِّم الجهاد ضد الفرنسيين في الجزائر وتجعله من باب إلقاء النَّفس إلى التهلكة.

ومن عِظَم همَّة القوم ما قام به المستشرق الهولندي سنوك الذي تجشَّم العناء وسافر إلى مكة، وأقام فيها بضعة أشهر، ثم كتب رسالته للدكتوراه عن الحج، وعلى أساس رحلته هذه وضعت هولندا إستراتيجيتها لاحتلال بلاد المسلمين في جنوب شرق آسيا.

وللإيطالي فارتيما رحلة في القرن العاشر الهجري؛ حيث دخل مكة باسم يونس العجمي وكان جاسوساً لصالح البرتغال.

ومن الرَّحلات المهمَّة رحلة بيرتون إلى مكة في ثياب درويش أفغاني بينما كان ضابطاً إيرلندياً يعمل في الجيش البريطاني الموجود في الهند، وكانت رحلته في منتصف القرن الثَّالث عشر الهجري.

وللمسلمين من الغربيين كتب أخرى؛ فللكاتب النمساوي المسلم محمد أسد رحلة بعنوان : ( الطريق إلى مكة )؛ وقد ترجمت إلى أكثر من لغة؛ وهو كتاب يجذب قارئه ويمتعه.

وقد أثَّرت رحلة الحج تأثيراً بالغاً في الكاتب الأمريكي المسلم جفري لانج وسجَّل أحداثها في كتابه : ( الصراع من أجل الإيمان : انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام )؛ حيث انبهر بالتَّنوع البشري في الحج، وكانت رحلة الحج سبباً في تغيير أفكار الزَّعيم الأميركي المسلم مالكوم إكس عن الإسلام؛ حيث استبان له ضلالة معتقداته السَّابقة وعاد إلى بلاده داعية إلى الدِّين الحقِّ الذي عرفه واقتنع به في بطاح مكة الطَّاهرة.

ومن الطَّريف أن رحلة الحج التي شرع بها الكاتب المصري محمد حسين هيكل كانت بسبب نصيحة من المسلم المجري عبد الكريم جرمانوس الذي تبدلت حياته للأفضل بعد أن أدَّى فريضة الحج، ومن عظم بركة تلك الرحلة عليه أن وصفها في كتابه عن رحلة الحج بعنوان : ( الله أكبر ) بأنَّها : « لحظة من لحظات الإشراق ».

وقد وضع هيكل كتاباً عن رحلته أسماه : ( في منزل الوحي ) واشتمل على معان إيمانية لم تكُ معهودةً في كتاباته من قبل.

وممَّا يجب اليقظة له : الحذرُ من أن تكون البقاع المقدَّسة مقصداً للكفار الذين يتستَّرون بادِّعاء الإسلام؛ خاصَّة أنَّ قضية التَّحول من دين إلى آخر عملية سهلة لدى فئام من الغربيين لتحقيق أغراضهم وإرضاء نهمهم المعرفي.

وبعد هذا التِّجوال السَّريع في الكتب التي أُفردَت لحفظ رحلات أصحابها لأداء الحج، قد يعتقد بعضنا أنَّ هذا النَّوع من الكتب قد انتهى بثورة المواصلات والاتِّصالات ويسر الوصول إلى الدِّيار المقدَّسة؛ وليست الطَّريق هنالك.

فمن النَّاس مَنْ يكدح عمراً طويلاً لجمع نفقة الحج؛ وإنَّ هذا الكدح لقمين بالتَّوثيق ليعلم المقصِّرون من الأثرياء والمقتدرين الذين لا يحجون كبير فضل الله عليهم وقبح صنيعهم.

كما أنَّ للفضلاء من الدُّعاة جولات دعوية حقيقة بالتَّدوين ليستفيد منها السَّابق بالخيرات والمقتصد؛ وعسى أن يهتدي بها كلُّ ظالم لنفسه.

ولا شيء يحول دون تسطير إبداعات علمائنا وكتَّابنا عن حجهم ومشاعرهم في الموسم الميمون في كتاب حافل، أو أن يكتب المسلم الذي كان الحج بالنِّسبة له رحلةً من الضَّلالة إلى الهدى أخبار رحلته، ففي الحج منافع للنَّاس؛ وإمتاع العقول منفعة وأيُّ منفعة !

 

(( مجلة البيان العدد : 280 ذو الحجة 1431 ـ نوفمبر 2010 ))

:: ملف خاص (( بين يدي الحج ))