يحتاج كلٌّ منَّا خلال مسيرة الحياة إلى دعم ومساندة الآخرين من حوله، ويظن الكثيرون أن الإنسان يحتاج إلى الدعم المادي فقط، ويحصر أغلبُ الناس صورَ هذا الدعم وأشكالَه في عدة أمور القاسم المشترك بينها أنها كلها عطاء مادي منظور معروف يمارسه الباذلون والمنفقون، لكن في الواقع يمتلك الدين الإسلامي منظومةً راقيةً متكاملةً من المبادئ السامية والقيم الرفيعة التي تحقق الإشباع الإنساني الكامل لكافة جوانب الحياة، ومن سُمُوِّ هذا الدين الخالد أنه يطرق أبواباً كثيرة للبذل والسخاء قد لا يلتفت إليها كثيرون، وربما تكون صور العطاء المعنوي غير المرئي أكثرَ إلحاحاً وأهمية بالنسبة لفئات معيَّنة من شرائح المجتمع؛ فعلى سبيل المثال قد ترى شيخاً مسنّاً في الشارع (أو في أية وسيلة مواصلات) يتطلع إليك في صمت، وترمقُكَ نظراتُه خِلسَةً في سكون وتسلُّل، وأوَّل ما يتبادر إلى الذهن في هذه الحال أنه شيخ عجوز يحتاج إلى تقديم المساعدة أو إعطائه بعض المال ، لكن ربما تكون حاجتُه الأهم ليست المال، بل الحاجة إلى الحب والتقدير والاحترام، وإشعاره بقيمته ودوره في الحياة، وإشعاره بالعرفان بالجميل، وأهمية ما أسداه لمن تلاه من أجيال لاحقة، والإعـراب عن اسـتمرارية الحيـاة في الترحيب به؛ لأنه صـانعٌ لهـا، وليس عبئـاً عليهـا. وغالباً ما ينتظر منك تقديمَ أي مظهر من مظاهر هذا الترحيب: كإلقاء السلام، والابتسامة في وجهه، أو السؤال عن صحته، ناهيك عن إجلاسه على مقعدك إن كنتما في وسيلة مواصلات مزدحمة، أو حمْل شيء ثقيل عنه، وغير ذلك من صور الاحترام والتقدير والمؤازرة.

في الحقيقة، نحن بحاجة ماسَّة إلى تأمُّل حياتنا الاجتماعية والأسرية في تأنٍّ وعمق شديدين؛ لأن المجتمع بكافة شرائحه يحتاج (وينتظر) مزيداً من صور العطاء والسخاء والبذل؛ لا سيما عطاء المشاعر والأحاسيس والعواطف الإنسانية النبيلة التي تؤازرنا وقت الشدة وتُرَبِّت على أكتافنا برفقٍ وتؤدة، وتُشعِرُنا بالتعاطف والمواساة. وهذه دعوة وهمسة في أعماق كلٍّ منَّا لاستنهاض الهمة عسى أن تتفتق الأذهان وتتسابق السواعد لمسح دمعة حزينة، ورَسْم بسمة مشرقة على وجه طفل يتيم، أو أرملة مسكينة، أو شيخ عجوز، أو إنسان موجَع، أو عابر سبيل أعوزته الحاجة، أو طالب علم أعياه الفقر وكاد يصرفه عن طلبه، أو مَدِين أعياه الدَّين ونغَّص عليه حياته، أو صاحبِ عيال يئن تحت وطأة أعباء الحياة... فإذا كنا لا نستطيع تقديم شيءٍ مادي كبير، فلا أقل من بذل البسمة والكلمة الطيبة، وتقديم كافة أشكال الدعم المعنوي والمؤازرة النفسية، وَلْنُخفف من الفـردية والأنانية التي باتت تغلِّف حياتنا في كل شيء؛ فكلنا نؤجل القيام بدورنا الاجتماعي، وكلنا نتهرب منه، وكلنا نفكر بطريقة فردية ذاتية بحتة، بمعنى أن كل واحد منا مهموم بشؤونه الخاصة، شؤونه هو وحدَه، ويفكر في مصلحته هو فقط. وبسبب ضعف الحالة الاقتصادية، فالكل مطحون، مسحوق تحت وطأة الحياة ولا يقدم شيئاً للمجتمع، ونكتفي جميعاً بالنقد والصراخ، وإظهار كافة مشاعر الضجر والضيق والتبرم.

إن هذا الوضع القاتم أثَّر سلبياً على الصحة النفسية للمجتمع كلِّه بشكل عام؛ فانتشرت الكآبة وعمَّ الحزن وساد اليأس قِطاعات عريضةً وشرائحَ واسعةٍ من الناس.

ونحن أحوج ما نكون الآن لتغيير كل هذه السلبيات والتعاطي بإيجابية وأَمَل وتفاؤل مع واقعنا المرير بالفعل؛ إذ لن تُجْدِي الفردية والذاتية والأنانية نفعاً، ولن نجني من اليأس والضجر والتشكِّي أيَّة فائدة، ولا بد من التعاون والتساند والترابط فيما بيننا؛ فالشخصية المنعزلة المنغلقة على أحزانها وأوجاعها، أو المنكفئة على نفسها لن تشعر بأية سعادة حقيقيـة، ولن تعـرف أية بهجة صادقة؛ فلا بد من انتشار روح الجماعة فيما بيننا، والإحساس بالآخرين ومشاكلهم وأوجاعهم وآلامهم وأحزانهم، وتقديم كافة أشكال العطاء المنظور وغير المنظور لهم؛ كي يحيا مجتمعنا في تكافل ورحمة ومواساة، وإذا كان العطاء المادي المنظور مشهوراً ومعروفاً بيننا فَلْنَذكر بعض صور العطاء غير المنظور التي نفتقدها ويحتاجها مجتمعنا بشدة هذه الأيام:

إفشاء السلام:

وهل إفشاء السلام نوع من العطاء؟ نعم بالطبع! إفشاء السلام لون من ألوان العطاء غير المنظور، وما أجمله من عطاء! إن إلقاء السلام يُشِيع روح المودَّة والأُلفة والمحبة بين أبناء المجتمع؛ وهو ما يضفي على الحياة بهاءً وبهجةً، وحتى ندرك أهمية إفشاء السلام، فإن علينا أن نتدبر هذه الأحاديث الشريفة:
عن أبي هريرة - رضي الله عنـه - قال: قال رسـول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تدخلـون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا؛ أَوَ لا أدلُّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»
[1].

وعن أبـي يوسف عبـد اللـه بن سلام - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام»[2].

وعـن عبـد اللـه بن عمـرو بن العـاص - رضـي اللـه عنهما - أن رجلاً سأل رسول اللـه - صلى الله عليه وسلم -: أي الإسلام خير؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «تطعمُ الطعام، وتقرأُ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»[3].

إن من يتأمَّل هذه الأحاديث يجد الآتي:

1 - أن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - يجعل إفشاء السلام بين الناس مفتاحَ المحبة بينهم، ويجعل المحبة بين الناس باباً للإيمان الذي لا يدخل العبد الجنة دونه؛ فما أعظم هذا المفتاح (إفشاء السلام) الذي يوصل إلى الجنة! وقد أكد هذا المعنى الحديثُ الثاني؛ فإفشاء السلام من الأعمال التي تُدخِل المسلم الجنة بسلام.

2 - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحدد أكثر أعمال الإسلام ثواباً، ويجعل إفشاء السلام - وطبعاً يكون هذا قولاً وعملاً - من أوائل هذه الأعمال؛ وهو ما يدل على أهميته في حياة المسلمين وثقافتهم وتكوينهم النفسي والعقلي، على العكس مما يروِّج له الغرب الآن من ظاهرة (الإسلامفوبيا) التي اخترعتها العقلية الغربية غير المنصفة.

3 - تأكيـد أهميـة إلقـاء السـلام علـى من نعرف ومن لا نعرف ممن نقابلهم في الطريق.

4 - أن إفشاء السلام لون من ألوان العطاء غير المنظور، وهو عطاء جليل النفع عظيم الأثر في الفرد وفي المجتمع، وهو سهل ميسـور في كـل وقت وكـل مكـان؛ ومع ذلك نرى هذه الأيام كثـرةً من الناس لا تدرك أهمية هذا اللون من العطاء، ومن ثَمَّ لا تحافظ على بَذْلِه رغم أنه لن يكلِّفها شيئاً.

5 - أن إفشاء السلام بين الناس دليل على الرقي والتحضر، إضافة إلى كونه يوطِّد أواصر المحبة والأُلفة بين أبناء المجتمع، وهو سلوك سوي يعبِّر عن نضج الشخصية التي تمارسه، وقدرتها على تكوين علاقات اجتماعية صحية مع الآخرين، ونشر الخير والتراحم في محيطها.

سلامة القلب:

إن من أهم صور البذل والعطاء سلامةَ القلب، وعدمَ إضمار الحقد أو الحسد لأحد من الناس، وحبَّ الخير للجميع، وعدمَ إضمار الشر أو البغض والكراهية لأحد، والتحليَ بفضيلة العفو والتسامح مع الناس كافة، وقد عدَّ الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - مرتبة الجود بالعِرْضِ (أي: مسامحة الناس فيما يقعون فيه من سبٍّ وشتيمة) من المراتب العليا للجود، وقد كان أحد الصالحين الفقراء يحب أن يتصدق ولا يجد ما يتصدق به، فيتصدق بعرضه؛ أي يسامح كلَّ من سبَّه أو شتمه من الناس.

وفي الحديث الشريف الذي رواه أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (كنا جلوساً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة». فطلع رجل من الأنصار تنطُِف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأُولَى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأُولَى، فلما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً؛ فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلتُ. قال: نعم! قال أنس وكان عبد الله يحدِّث أنه بات معـه تلك الليالي الثلاث فلم يرَه يقوم من الليــل شيئاً غــير أنه إذا تعــارَّ وتقلــب على فـراشه ذكر الله - عز وجل - وكبَّر حتى يقوم لصــلاة الفجــر. قــال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث ليالٍ وكدت أن أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله! إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هَجْرٌ ثَمَّ؛ ولكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لك ثلاث مِرَار: «يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة». فطلعت أنــت الثــلاث مِرَار فــأردت أن آوي إليــك لأنظــر ما عملك؛ فأقتدي به، فلم أََرَكَ تعمل كثير عملٍ؛ فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت. قال: فلما ولَّيت دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت؛ غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشّاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق)[4].

إدخال السرور على الناس:

يتقابل الناس بعضهم مع بعض يومياً ويتعاملون معاً في شتى مناحي الحياة، ومع ذلك يحترف بعضهم العبوس الدائم في وجوه الآخرين، ويتفنن هؤلاء في إضفاء الكآبة والحزن على الحياة، ونسوا أن إدخال السرور على الناس من أفضل الأعمال، بل هـو مـن القـربات والصدقـات؛ فعن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرُك الرجلَ الرديءَ البصرِ لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة»[5].
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! أيُّ الناس أحبُّ إلى الله؟ وأيُّ الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحب الناس إلى الله - تعالى - أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله - عز وجل -: سرور تُدخِله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دَيْناً، أو تطرُدَ عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخٍ في حاجة أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد، (يعني مسجد المدينة) شهراً، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام (وزاد في رواية: وإنَّ سوءَ الخُلُق يفسد العمل كما يُفسِد الخل العسل)»
[6].

وهكذا نرى أن إدخال السرور على الناس عمل رائع، وعطاء عظيم، وحِسٌّ راقٍ مرهف؛ فأين نحن من ذلك؟

لقد أراد الله - تعالى - أن يتفاوت الناس في قدراتهم، وإمكاناتهم الجسدية والذهنية، ومهاراتهم العملية، وأيضاً في مواهبهم، وظروفهم، وأرزاقهم: من المال والصحة والجاه والسلطة والعلم والأولاد والسعادة... وأراد الله - تعالى - أن يجتمع الناس ليتعاونوا على تعمير الكون وبناء الحياة والحضارة وصناعة العمران، وحتى يحصل ذلك جعل بعضَهم يفتقر إلى بعض ويحتاج إليه. وليس هذا في الاحتياجات المادية الحسية وحسب، بل في المشاعر والأحاسيس والمطالب النفسية أيضاً؛ فالإنسان يحتاج إلى الشعور بالدفء والحنان والحب والاحترام والاهتمام من الآخرين؛ ولذلك شرع الله العطاء ليكمل النقص ويحقق التكامل والتكافل والتراحم، وينشر المودة والترابط بين الناس.

إن ابتسامة رقيقة في وجوه الآخرين تحقق كثيراً من الخير، وزيارةً لمريض قد تفعل ما لا تفعله الأدوية والعقاقير، وكلمةً حانية صادقة تخرج من القلب يكون لها وَقْعٌ عجيب على نفوس السامعين. قال - تعالى -: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
وَلْنَتَصور مجتمعـاً خاليـاً مــن العطـاء المـادي والمعنـوي؛ لا شـك أنه سـيكون مجتمعـاً جافـاً قاسـياً تفقـد فيـه الحيـاة قيمتها وتصبح عبئاً ثقيلاً على كل إنسان.

 

 


[1] رواه مسلم.

[2] سنن الدارمي.

[3] رواه البخاري، ومسلم، والنسائي.

[4] رواه أحمد في المسند.

[5] أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة.

[6] أخرجه الطبراني وحسنه الألباني.