الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد.

فقد كانت آخر كلمات حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - التي ودَّع بها هذه الدنيا، تلك الوصية المنفطرة من قلب رسولٍ {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْـمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] حين ردَّد في آخر حياته : «الصلاةَ... الصلاةَ...!»إن من حُبِّنا للرسول - صلى الله عليه وسلم - واستشعارنا لمقامه، وإيماننا برسالته، واتباعنا لقـوله وفعله، أن نضع هذه الوصية  ونرفعهـا في مقامها اللائـق بهـا في سُـلَّم حياتنا. وكـلُّ ما من شأنه أن يعظِّم من شأن الصلاة في حياتنا وقلوبنا وذرياتنا ونظامنا، فهو من الأولويَّات التي يجب أن يتواصى الجميع بها، وأن تكون «الصلاة... الصلاة...!» هي من أعظم ثوابتنا التي نحرص عليها.إنه من المحزن حقّاً أن يشيع تضييع (هذه الشعيرة العظيمة) في كثيرٍ من مجتمعات المسلمين؛ فتجد في كثيرٍ من المسلمين من يؤخـِّرها عن وقتها المفروض الذي قال الله - تعالى - عنه: {إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103]، أو يفرِّط في أدائها؛ فلا يأتيها إلا وهو كسلان متثاقل؛ كصنيع المنافقين الذين قال الله - تعالى - فيهم: {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54]، أو يفرِّط في أدائها تفريطاً يُخشَى عليه من وعيد الله - سبحانه -: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: ٤ - ٥]، وربما يصل الأمر ببعضهم – عياذاً بالله – إلى أن يتركها بالكلية؛ وهو بهذا يقطع الحبل الذي يربطه بجماعة المسلمين؛ فـ «بين الرجل وبين الشرك والكفر تَرْك الصلاة»[1].

وإزاء هذا الواقع المؤسف لدى بعض المسلمين، ثمَّة واقعٌ مشرقٌ، مشرِّف، يبعث في النفس المؤمنة السعادة والابتهاج؛ وذلك حين ترى العناية الشديدة بأمر الصلاة، وارتباط كثيرٍ من النفوس بها؛ فلا تذهب إلى مكان أو تسافر إلى منطقة أو تقضي حاجة إلا وأمر الصلاة في ميقاتها ومع جماعة المسلمين هو أول أمرها؛ فلا تنسيها المشاغل وتوالي الحوائج واختلاف الأزمنة والأمكنة عن حضور الصلاة في وجدانها، فيا له من منظر إيماني مشرق؛ تلك الجماعات التي تقيم الصلاة في المساجد، والأسواق، والمطارات، والفنادق، ومكاتب العمل، والمدارس، حاضرة وظاهرة يراها كل مؤمن فيسرُّه مرآها ويحمد الله عليها؛ وهي مشاهد ستكرهها - ولا بد – قلوب أقوام آخرين تشمئز نفوسهم من أي شعيرة من شعائر الإسلام تبدو ظاهرة وشائعة، وما حربهم على ظاهرة النقاب والحجاب في مجتمعات المسلمين وغير المسلمين إلا صورة لحالة (الاشمئزاز) من ذكر الله، تسطِّره أقلامهم وأفواههم وقوانينهم.إن أداء الصلوات المفروضة جماعة مع كونها من الواجبـات الشرعية علـى القـول الصحيح من أقـوال العلمـاء للـدَّلائل الشـرعية المتعـددة مـن كتـاب اللـه وسُـنة رسـوله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنهـا مع ذلك من أعظـم الضمـانات الشـرعية والواقعية للمحافظة على أصل ركن الصلاة؛ فشيوع الصلاة جماعة، وتواصي الناس بها، وتربية ناشئة المسلمين على أدائها في المساجد يعظِّم من شأن الصلاة في النفوس، ويربط حياة الناس بدينهم؛ وهو ما يجعل التفريط في أصل الصلاة أو تركها بالكلية أمراً هامشياً وشاذّاً من آحاد الناس، وفي المقابل حين يكثر التفريط في أداء الجماعة، ويغيب الناشئة والشباب والكهول عن المساجد؛ فهي مدعاة لإضاعة الصلاة ونسيانها وتوالي التفريط فيها.وإن واقع الحال شاهد عليه؛ فمن يحافظ على صلاة الجماعة، أو قد نشأ في بيئة تحافظ عليها، لا تكاد تجده يفرِّط في أداء الصلاة، ولو تركها في الجماعة فإنه لن يتركها بالكلية، بينما من ينشأ وهو لا يعرف الصلاة جماعة، فإن التفريط والترك كثير بينهم.إنه من المحزن حقاً: أن تجد الأسواق التجارية في عامة بلاد المسلمين وهي تعج بالمتسوِّقين الذين يقضون حوائجهم ويشربون ويلعبون، ويدخل وقت الصلاة ويخرج ولا تقام فيهم جماعة، أو تقام بأعداد قليلة لا تكاد تُذكَر مع أعداد المتخلِّفين عن أداء الجماعة، وربما لا يوجد في كثيرٍ من تلك الأسواق مكان لأداء الصلاة بينما يوجد فيها أمكنة متَّسعة لكثير مما حرَّم الله.لا شك أن هذه ممارسة لم تَقْدِر هذه الشعيرة حق قَدْرِها، ولم تراعِ وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو رآها نبينا - صلى الله عليه وسلم - لساءته؛ كيف وهو يقول: «ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا ًفيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حُزٌم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار»[2]؛ فكيف لو رأى حال كثيرٍ من هـذه الأسـواق التي لا تدري هـي ولا من فيها عن وقت الصلاة، ولا يوجد فيها جماعة ولا مكان للصلاة؟غير أن مما يجب أن يذكَر ويشكَر ويشادَ به، القرار النظامي المعمول في الأسواق التجارية وجميع المحلات في المملكة العربية السعودية؛ حيث يلتزم الجميع بإيقاف كل حركة للبيع أو الشراء؛ لأجل أن يذهب الجميع لأداء الصلاة في وقتها جماعة في المصلى، الذي لا يخلو أي سوق من وجود مكان لائق، متَّسع، مهيَّأ كتهيئة المساجد، وأينما أدركتَ الصلاة في أي سوقٍ في هذه البلاد، فستجد الباعة يغلقون محلاتهم ويتجهون هم وعامَّةُ من في السوق لأداء الصلاة في وقتها جماعة.إنه قرار عظيم، وأثره كبير، يدركه كل أحد، ويُسَرُّ منه كل معظِّم لله ومحب لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومعظِّم لشعائره؛ إذ جعل شعيرة الصلاة ظاهرة شائعة ينشأ عليها الصغير، وقد ارتبطت كل مصالح الناس الدنيوية بأوقات الصلاة، فأصبحت الصلاة حاضرة بسبب ذلك حتى عند المفرطين في أدائها.ولا شك أن العناية بأمر الصلاة من واجبات النظام في الدولة الإسلامية، ومثل هذا القرار جانب من تحقيق النظام لمسؤوليته الشرعية، فنشيد بمثل هذا القرار، ونشكر كلَّ من وضعه أو نفَّذه أو أشار به، ونسأل الله أن يجعله في ميزان حسناته.

كما نحث جميع الدول الإسلامية أن تتخذ مثل هذه القرارات الإدارية النافعة، وأن يضعوا من النظم والقوانين ما يكون سبباً لإحياء شعيرة الصلاة، وإظهارها، وإشهارها في بلاد المسلمين.ولوسائل الإعلام دور عظيم في توعية الناس وتعزيز القيم الفاضلة، وإنها رسالة لكل العاملين في كافة الحقول الإعلامية أن يكون لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكانتُها اللائقةُ بها، وكل عامل في تلك الوسائل الإعلامية هو من أقدر الناس على معرفة الطرق والوسائل المناسبة لتحقيق هذا الهدف العظيم، الذي هو من أعظم أبواب الإصلاح والنفع التي يقدمها الإعلامي لمجتمعه.ويقع على عاتق القائمين على العملية التعليمية والتربوية في التعليم العام والعالي أمانةُ تنشئة أجيال المسلمين على تعظيم الصلاة، وتعويدهم على إقامتها والمحافظة عليها، مع العناية بتأدية الطلاب للصلاة جماعة في أوقات الدراسة، وإمداد المناهج الدراسية بالمادة الشرعية والتربوية الكافية لمعرفة أحكام الصلاة وتعزيز مكانتها.وعلينا قبل ذلك وبعده ألاَّ ننسى دور الأسرة والمدرسة والمسجد والأصدقاء في التواصي والتعاضد على تعظيم مقام الصلاة في نفوس الناس، والمحافظة عليها في الجماعة، ومراعاة واجباتها وسننها وآدابها؛ فإنها وصية الحبيب - صلى الله عليه وسلم -.

 


[1] أخرجه مسلم في صحيحه، باب: إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة: (1/88).

[2] أخرجه البخاري في صحيحه، باب: إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت:  (3/122)، ومسلم  في صحيحه، باب: فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها: ( 1/451).