ليس كتاب الإمام القرطبيِّ كتابَ تفسير للقرآن
الكريم فقط ؛ وإنما هو كتاب فقهٍ ، وتاريخٍ ، ولغةٍ ، وفكرٍ واسعٍ عميقٍ ، ومن مدرسة
القرطبي ومن رياض علمه وفقهه ، ومن عبير حكمته ورواياته نقتبس سطوراً فيها عبرة لكل
معتبر .
فقد روى الإمام القرطبي في الجزء الأول من كتابه
( الجامع لأحكام القرآن )فقال : ( روى حجاج بن حجاج الأحول قال : سمعت قتادة يقول
: يابن آدم ! إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط ، فإن نفسك مائلةٌ إلى السَّأمة
والفترة والمَلَّةِ ؛ ولكن المؤمن هو المتحامل ، والمؤمن هو المُتقوِّي ، والمؤمن هو
المتشدِّد ،وإن المؤمنين هم العجّاجون إلى الله الليلَ والنهارَ ) .
لا يوجد مسلم على وجه الأرض إلا وهو يحبُّ الخير
ويتمنى فعله ، ولكن من يبادرون في زماننا قلَّة قليلة من أفراد المجتمع المسلم ( رجالاً
ونساءً ، صغاراً وكباراً ) ؛ فما السبب إذن ؟ قد يقول قائل : إنَّها الإمكانات والوسائل
هي العائق ! أقول : إنَّ الإنسان معذورٌ إذا فقد الوسيلة والقدرة ، ولكنَّ
المؤلمَ والمحزنَ حقاً هو أن عدداً كبيراً منَّا ما عاقهم سوى مرض واحد قديم جديد هو
( التَّسويف ) .
يقول الأول : سأتصدق حينما يكون دخلي كثيرًا
ومالي وافرًا .
ويقول الآخر : سآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر
حينما أكبر وأحصل على مؤهِّل دراسي رفيع .
ويقول الثالث : سأبَرُّ بوالديَّ حينما يكبران
وتشتد حاجتهما إليَّ .
ويقول الرابع : سأصوم النوافل حينما ينشط جسمي
وتكبر سنِّي واتفرغ للعبادة .
ومثله الخامس : في صلاة النوافل .
أما السادس ( المثقَّف ) فيقول : سأقرأ حينما
تَخِفُّ أشغالي ، وتَقِلُّ أعمالي و ( أتفرغ ) للقراءة .
وسابعهم يقول : سأحج فريضتي حينما تتحسَّن الظروف
- ولا نعلم ما الظروف ؟ - ويقل عدد الحجاج ويقل ( الخطر ) .
وهكذا تستمر حلقات التَّسويف ، وكل أولئك ( العاجزون
) مُفَرِّطون في أوقاتهم وأعمارهم ، متشبثون بأوهامٍ تستمر معهم ؛ لأنَّهم لا يخرجون
من همٍّ إلاَّ إلى هموم ، ولا يرتاحون من شغل إلا إلى أشغال ، ولا يزول عنهم تعبٌ إلا
ويوصِلُهم إلى أتعاب ؛ فالعمر يكبر والعيال يزيدون والأتعاب تزيد وتكثر ...
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : « اغتنم
خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وغناك قبل فقرك
، وحياتك قبل موتك » [1] .
إنه من الممكن أن يتحقق لبعضنا أملُه مستقبلاً
؛ فَيَفْرَغ من كثير من الأعمال ، أو يُشفَى من مرض عضال ، أو يفتح الله عليه فيغتني
بعد فقر ... إلى غير ذلك ، ولكن وساوس الشيطان وحبائله تزيد وتتطوَّر ، وقد عرفنا من
الواقع :
1 - أن عدداً كبيراً من غير الأغنياء ينفقون
في سُبُل الخير أكثر من الأثرياء وأدوم ؛ لأنَّ حب الدنيا يزيد وكذلك الإحساس بأن ما
حصل عليه بعَرَق جبينه من الصعب التفريط فيه !
2 - أنَّ عدداً من الشباب أنشط من كثير من الكبار
في صيام وصلاة النوافل .
3 - أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في
الأسرة والمحيط الذي يعيش فيه كل فرد كان في الشباب أجود منه عند الكبار ، وأن السن
لا دخل له في أداء هذه الشعيرة .
ومن شبَّ على شيءٍ شاب عليه .
4 - برُّ الوالدين يبدأ مع الإنسان من صِغَرِه
؛ وهو تدريب للمستقبل .
والقرب منهم يُعِين الأبناء والبنات على البر
في المستقبل ، وعكس ذلك صحيح ؛ إذ كيف يَبَرُّ والديه من كان بعيداً عنهم في صغره وشبابه
ونشاطه ؟
5 - أن القراءة والتَزَوُّد من الثقافة يحتاجهما
المرء كحاجته للماء والغذاء ، ثم إنها قناعات تنمو مع الفرد وتستمر بناءً على الخبرة
والإحساس بالأهمية والتَلَذُّذ بثمارها ؛ ولن يقرأ رجل أو امرأة لم يشعرا بحاجتهما
للقراءة ولم يتلذَّذا بثمارها في صغرهما ؛ وحينما يحاول أحدهم أن يبدأ في الكِبَر فسيفشل
في أول خطوة ، وسيرمي أول كتاب يمسك به ، ويغطيه الخمول والكسل الذين شبَّ عليهما
.
ولذلك صدق قتادة حين قال : إن النفوس تميل إلى
الفترة والملل والخمول والكسل ... والمؤمن حقاً هو المُتقوِّي .
قال الله - تعالى - : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } ( البقرة : 45 ) ؛فالصلاة عونٌ للمسلم في شؤونه كلِّها وعونٌ
على بقية العبادات والقربات ... والمؤمن هو المتشدِّد ؛ والمقصود : المتشدِّد
في المحافظة على أعمال الخير الملزِمُ لنفسه بالمواصلة فيها ، وهي شدَّة محمودة لا
تعني التضييق أو إيذاء النفس أو الآخرين .
وعكسها : الخمول والتساهل والاستجابة للوهم والشهوات
الدينية ؛ فهل نبادر للخيرات ونقتنع بأن خير البر عاجله .
(1) رواه الحاكم عن ابن عباس وصححه .