البيان/صحف: تعكس السياسات الأمريكية في أمريكا اللاتينية خلال ولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية تحولًا جذريًا في طريقة تصنيف واشنطن للدول الصديقة والدول المعادية، وهو تصنيف يقوم على معيار بسيط لكنه صارم ملخصه، المكافأة لمن يلتزم بالقواعد والعقاب لمن ينحرف عنها، وفق ما أشارت إليه جوردانا تيمرمان في تقريرها بصحيفة الغارديان البريطانية. فقد أظهرت أحداث عام 2025 أن الإدارة الأمريكية لم تعد ملتزمة بالخطوط التقليدية لمبدأ مونرو الذي حدّد نفوذ الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي، بل صاغت نظامًا جديدًا يقوم على الاستثناءات الفردية والمكافآت المباشرة للعلاقات السياسية المطيعة.
شهدت أمريكا اللاتينية، رغم التحولات الديمقراطية منذ ثمانينيات القرن الماضي، موجات من عدم الاستقرار السياسي والعنف الجماعي، لكن معظم الدول ظلت خالية من الحروب بين الدول، محافظة على وضعها كمنطقة نسبية للسلام. ومع ذلك، فرضت الولايات المتحدة هذا العام نموذجًا جديدًا للحكم العسكري والاقتصادي المباشر، مستغلة ضعف البنية المؤسسية والإرهاق السياسي في المنطقة. فقد أظهرت بيانات الغارات البحرية الأمريكية المميتة التي استهدفت فنزويلا أن واشنطن لم تعد تحتاج إلى غزو شامل لتغيير موازين القوى، بل أصبح الرئيس مركز الثقل السياسي والسلطة التنفيذية، قادرًا على إعادة تعريف القوة الأمريكية على الأرض.
يرتكز هذا النموذج على المزج بين التقلب والاستثناء والمكافأة، وهو أسلوب مرن أكثر مما قد يوحي به الخطاب العلني. فقد رافقت الضربات البحرية الأمريكية الـ 28 المميتة سلسلة من التنازلات المفاجئة، مثل رفع الرسوم الجمركية عن البرازيل بعد فشل التأثير على قرارات القضاء المحلي، ما يعكس استراتيجية مزدوجة تمثلت في فرض السيطرة عبر الإجراءات القسرية، مع تقديم المكافآت للدول المطيعة لضمان التبعية والاستجابة الفردية. وتبرز في هذا السياق الاستثناءات المتسلسلة التي شملت المهاجرين والمُرحلين والدول المستهدفة بغارات خارج الحدود، والتي رسخت معيارًا جديدًا لما يمكن لواشنطن انتهاكه دون مواجهة تبعات مباشرة.
انقسمت المنطقة عمليًا بين حلفاء مطيعين وأعداء أيديولوجيين. ففي المقابل، نجح بعض القادة مثل نجيب بوكيلي من السلفادور وخافيير ميلي من الأرجنتين ودانيال نوبوا من الإكوادور في كسب المكافآت الأمريكية من خلال التعاون المالي والأمني والدبلوماسي، بينما حاولت دول مثل باراغواي وبوليفيا تقليد هذه السياسة بسرعة لتأمين دعم واشنطن. أما مقاومة بعض الدول، مثل البرازيل والمكسيك، فقد تجسدت في مقاومة براغماتية، تتسم بالحدود الدقيقة مثل رفض الانصياع الكامل، وتجنب القطيعة الصريحة مع الولايات المتحدة، وهو ما جسدته سياسات لويس إيناسيو لولا دا سيلفا وكلاوديا شينباوم في مواجهة الضغوط الأمريكية على النظام القضائي والبنية السياسية المحلية.
وفي المقابل، فقدت كولومبيا، بقيادة غوستافو بيترو، الكثير من فرص التفاوض، إذ أدت مواجهته المباشرة مع واشنطن إلى فرض عقوبات وعقوبات سياسية، فيما ظل التدخل الأمريكي غير محدد النتائج، لكنه رسخ الانطباع الإقليمي بأن المقاومة الصاخبة أمام واشنطن استراتيجية محفوفة بالمخاطر وغير فعّالة. وبالمثل، شهدت المؤسسات متعددة الأطراف في المنطقة تراجعًا واضحًا في تأثيرها، مثل قمة مجموعة دول أمريكا اللاتينية والكاريبي (سيلاك) وقمة الأمريكيتين، ما يعكس هشاشة الآليات الإقليمية في مواجهة الاستراتيجية الأمريكية الفردية.
ويبرز هذا التحول بشكل أعمق في فقدان اليسار الإقليمي البوصلة الأخلاقية والسياسية التي كانت تشكل التوازن الضروري للقوة الأمريكية في المنطقة. ففي السابق، كان التيار اليساري قادرًا على تقديم خطاب جماعي يجمع بين القومية والاندماج الاجتماعي ومناهضة الإمبريالية، أما اليوم فقد تشتت هذا الخطاب وتبخرت مصادر القوة السياسية التي كانت تحدد خيارات واشنطن. وبهذا المعنى، تعكس سياسات ترامب استخدام خيبة الأمل من الفساد وانعدام الأمن والركود المؤسسي كأدوات لتعزيز النفوذ والسيطرة، مقدمًا حلولاً عملية تبدو أكثر قبولًا لدى قطاعات واسعة من المجتمع المحلي، لكنها تتجاهل المبادئ التقليدية للاندماج والتعاون الإقليمي.
باختصار، سياسات الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية تحت حكم ترامب الثانية تعتمد على مزيج من المكافآت والعقوبات، الاستثناءات الفردية، والتدخل المباشر في شؤون الدول، مع تراجع الدور الأخلاقي للإطار الإقليمي، ما يعكس استراتيجيات القوة الجديدة التي لا تعتمد على مؤسسات متعددة الأطراف بل على مركزية السلطة الأمريكية في شخص الرئيس، وتعيد تعريف المعايير التقليدية للصداقة والعداء في نصف الكرة الغربي.