البيان/وكالات: في بداية عام 2026، تبدو تركيا مقبلة على لحظة دبلوماسية فارقة قد تعيد تثبيت موقعها كقوة محورية في النظامين الإقليمي والدولي. فاستضافة ثلاث قمم كبرى ومتباينة في طبيعتها قمة حلف شمال الأطلسي، ومؤتمر الأمم المتحدة للمناخ (كوب 31)، وقمة منظمة الدول التركية لا تمثل مجرد إنجاز تنظيمي، بل تعكس تحوّلًا مدروسًا في تموضع أنقرة الاستراتيجي، وسعيها إلى الجمع بين أدوار عسكرية وبيئية وحضارية ضمن رؤية واحدة متكاملة.
أول هذه المحطات وأكثرها حساسية هي قمة قادة حلف الناتو التي ستحتضنها أنقرة في يوليو/تموز 2026. تأتي هذه القمة في سياق دولي بالغ التعقيد، يتسم باستمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وتآكل منظومة الأمن الأوروبي التقليدية، وتصاعد النقاشات داخل الحلف حول تقاسم الأعباء العسكرية، وتوسّع الناتو شرقًا. في هذا المشهد، تبرز تركيا بوصفها طرفًا لا يمكن تجاوزه، فهي تمتلك ثاني أكبر جيش في الحلف، وتتحكم بمضائق استراتيجية، وتحافظ على قنوات تواصل مفتوحة مع موسكو وكييف في آن واحد. استضافة القمة تمنح أنقرة فرصة نادرة لإعادة صياغة دورها داخل الناتو من موقع “الشريك الإشكالي” كما يوصف أحيانًا في الغرب، إلى موقع “الوسيط الضروري” وصانع التوازنات، خاصة في الملفات المتعلقة بالبحر الأسود، وأمن الشرق الأوسط، ومستقبل العلاقة بين الناتو وروسيا.
في المسار الموازي، تحمل استضافة مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (كوب 31) دلالات لا تقل أهمية. فاختيار تركيا، بعد منافسة طويلة مع أستراليا، يعكس اعترافًا دوليًا متزايدًا بدورها في الدبلوماسية المناخية، رغم كونها دولة صناعية ناشئة ذات احتياجات تنموية كبيرة. تنظيم المؤتمر في إسطنبول، مع توزيع فعالياته على أنطاليا، يضع تركيا في قلب النقاش العالمي حول العدالة المناخية، وتمويل التحول الأخضر، ومسؤولية الدول الصناعية تجاه الدول النامية. كما يمنح أنقرة منصة لتقديم نفسها كجسر بين الشمال والجنوب، وبين الاقتصادات المتقدمة والدول المتأثرة بشدة بتغير المناخ، خاصة في الشرق الأوسط وشرق المتوسط، حيث تتقاطع أزمات المناخ مع ندرة المياه والهجرة والأمن الغذائي.
أما القمة الثالثة عشرة لمنظمة الدول التركية، فتكشف عن البعد الثالث في الرؤية التركية لعام 2026، وهو البعد القومي الحضاري. فهذه القمة لا تقتصر على تعزيز التعاون الثقافي أو الرمزي بين الدول الناطقة بالتركية، بل تندرج ضمن مشروع أوسع تسعى من خلاله أنقرة إلى بناء فضاء جيوسياسي اقتصادي ممتد من الأناضول إلى آسيا الوسطى. في ظل التحولات العالمية، وتراجع بعض الأطر التقليدية، ترى تركيا في منظمة الدول التركية أداة لتعزيز التكامل الاقتصادي، وربط شبكات الطاقة والنقل، وتنسيق المواقف السياسية، بما يمنح هذا التكتل وزنًا أكبر في التوازنات الإقليمية، خصوصًا مع تنامي أهمية آسيا الوسطى في معادلات الطاقة والتجارة العالمية.
اللافت في جمع هذه القمم الثلاث في عام واحد هو قدرتها على عكس تعددية الأدوار التي تسعى تركيا إلى ترسيخها، فهي في آن واحد عضو فاعل في تحالف عسكري غربي، وشريك في الجهود الدولية لمواجهة التغير المناخي، وقائد لمحيط ثقافي–سياسي خاص بها. هذا التداخل ليس بلا مخاطر، إذ يتطلب إدارة دقيقة للتناقضات بين الالتزامات العسكرية داخل الناتو، ومتطلبات الحياد النسبي في القضايا البيئية، والطموحات القومية في الفضاء التركي. لكنه في الوقت ذاته يمنح أنقرة هامش مناورة واسعًا، وقدرة على التحدث بلغات مختلفة مع عواصم متباينة المصالح.
في المحصلة، لا يبدو عام 2026 مجرد عام مزدحم بالأحداث الدبلوماسية في تركيا، بل يمثل اختبارًا حقيقيًا لمدى نجاح استراتيجيتها في التحول إلى "دولة محورية متعددة المسارات". فإذا أحسنت أنقرة استثمار هذه القمم، فإنها قد تخرج منها بمكاسب سياسية واقتصادية ومعنوية تعزز مكانتها كلاعب لا غنى عنه في عالم يتجه بسرعة نحو تعددية قطبية مضطربة.