البيان/صحف: تشير المعطيات المتسارعة الصادرة عن واشنطن ووسائل الإعلام الغربية والعبرية إلى أن المرحلة الثانية من اتفاق غزة لم تعد مجرّد بند مؤجّل في تفاهمات وقف إطلاق النار، بل باتت مشروعًا سياسيًا–أمنيًا قيد التشكل الفعلي، تقوده الولايات المتحدة بصورة مباشرة وتعمل على هندسته على المستويين المدني والعسكري في آن واحد. فبحسب ما كشفه موقع «أكسيوس»، تدرس الإدارة الأمريكية تعيين المبعوث الأممي السابق نيكولاي ملادينوف ممثلًا لمجلس السلام في غزة، في خطوة تعكس توجّهًا أمريكيًا لإعادة تدوير الخبرات الدولية المرتبطة بالملف الفلسطيني ضمن إطار جديد يتجاوز الوساطة التقليدية، ويتجه نحو إدارة انتقالية ذات طابع تقني–أمني.
هذا التوجه يتقاطع مع مسار موازٍ أكثر حساسية، يتمثل في نية الرئيس دونالد ترامب تعيين جنرال أمريكي لقيادة «قوة استقرار» خاصة في قطاع غزة، من دون نشر قوات برية أمريكية مباشرة. ووفق ما نقلته «تلغراف» ومسؤولون أمريكيون وصهاينة، يبرز اسم اللواء جاسبر جيفرز، أحد ضباط القيادة الوسطى الأمريكية، كمرشح أوفر حظًا لقيادة هذه القوة متعددة الجنسيات، بدعم من فريق ترامب، ولا سيما جاريد كوشنر وستيف ويتكوف. ويُنظر إلى جيفرز داخل الأوساط الأمريكية بوصفه ضابطًا متمرّسًا في التنسيق بين الأطراف المتنازعة، وقد لعب دورًا في الأسابيع الماضية في صياغة نماذج تعاون أمني بين الفلسطينيين والجيش الصهيوني، ما يجعله مناسبًا لمرحلة يُراد لها أن تجمع بين التهدئة وإعادة ترتيب المشهد الأمني.
غير أن هذا التصور الأمريكي لا يخلو من تناقضات حادة. فبينما تركز واشنطن على إعادة الإعمار وإدارة الركام وتهيئة «مناطق نموذجية» للمرحلة الثانية، لا سيما في رفح، تبدي حكومة الدولة العبرية قلقًا متزايدًا من أن تُهمَّش مسألة نزع سلاح حماس لصالح مقاربة إنسانية–اقتصادية. وقد عبّر رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو، في محادثات خاصة، عن شكوكه في قدرة أي قوة دولية على تفكيك القدرات العسكرية لحماس دون تدخل مباشر من الجيش الصهيوني، معتبرًا أن الدولة العبرية ستُضطر إلى «القيام بدور ما» مهما كانت الترتيبات الدولية.
وتبرز هنا عقدة إضافية تعيق الانتقال الرسمي إلى المرحلة الثانية، تتمثل في إصرار الدولة العبرية على استعادة جثة الأسير ران غويلي قبل أي خطوة سياسية لاحقة. فوفق مصادر صهيونية، جرى تزويد الوسطاء بصور جوية ومواد استخباراتية مكثفة للبحث عن مكان الجثمان.
في الخلفية، يتسع المشهد ليشمل ملف إعادة الإعمار بوصفه اختبارًا سياسيًا وماليًا بالغ الحساسية. فقد كشفت «يديعوت أحرونوت» و«وول ستريت جورنال» أن واشنطن تضغط على الدولة العبرية لتحمّل جزء كبير من تكلفة إزالة الركام الهائل في غزة، والتي قد تصل إلى مئات ملايين الدولارات، في ظل تقديرات أممية تشير إلى وجود ما بين 60 و68 مليون طن من الأنقاض، أي ما يعادل وزن نحو 186 مبنى بحجم «إمباير ستيت». ووفق هذه المقاربة، لا يمكن إطلاق إعادة الإعمار أو تثبيت أي حكم انتقالي دون معالجة هذا العبء المادي واللوجستي، الذي يُعد شرطًا تأسيسيًا للمرحلة الثانية.
في المحصلة، يكشف هذا المسار عن مقاربة أمريكية شديدة الطموح، تسعى إلى الجمع بين مجلس سلام، وحكومة تكنوقراط فلسطينية، وقوة استقرار دولية، وإعادة إعمار مشروطة، ضمن إطار واحد متكامل. غير أن هذا الإطار يصطدم بتناقضات بنيوية: بين الرؤية الأمريكية البراغماتية، والهواجس الأمنية الصهيونية، والواقع الميداني في غزة، حيث لا تزال حماس فاعلًا قائمًا لا يمكن شطبه بقرارات إدارية أو هندسية. وبينما تصر واشنطن على أن «الكثير يجري خلف الكواليس»، يبدو أن نجاح المرحلة الثانية سيعتمد في النهاية على قدرة هذه المقاربة الهجينة على التوفيق بين الأمن والسياسة والإنسان، وهو توازن لم تنجح أي خطة سابقة في تحقيقه حتى الآن.