• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
 دور العلماء في المسألة الدستورية

دور العلماء في المسألة الدستورية

 إن مما تمس الحاجة إلى معرفته أن العلماء كانوا سبّاقين إلى التفاعل مع عملية الدسترة التي ظهرت في المغرب مطلع القرن الماضي، بل لعبوا دوراً جوهرياً في توجيهها وتأطيرها، وذلك في تجربتي ما قبل الاستقلال وما بعده:

 قبل الاستقلال:

شكّلت مذكرة الأستاذ عبد الكريم مراد المقدمة سنة 1906، مشروعاً دستورياً مهماً؛ ركز على إصلاح نظام الحكم والإدارة والقضاء والأمور العسكرية والمالية، والاهتمام بالأمور الاجتماعية؛ وقد شدد في مقدمتها على ضرورة اعتماد الشريعة الإسلامية كأساس وأصل للقوانين.

وفي الأخير ذكر القواعد الأساسية لكل تلك الإصلاحات والتنظيمات؛ والقاعدة الأولى ترتكز على تكوين مجالس محلية من خمسة علماء تشرف على الحياة العامة، وبخاصة أمور الأوقاف وتسييرها وجباياتها وطرق صرف مداخيلها.

وتكون هذه المجالس المحلية تحت رئاسة عالم يسمى شيخ العلماء، ثم تعرض لمؤهلات العلماء وأنواع المدارس ولوازم الصرف عليها وكيفية قبول الطلبة والامتحانات وأمور الترقية[1].

وقد بنى مشروعه على حكمة بليغة؛ لخصها في قوله:

"لا يتم عز الملوك إلا بالشريعة ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا مال إلا بالعمارة {العمران} ولا عمارة إلا بالعدل، ولا عدل إلا بإصلاح العمال، ولا تصلح العمال إلا باستقامة الوزراء، ورأس الكل تفقد الملك أحوال رعيته بنفسه".

البيعة الحفيظية:

ثم كانت البيعة الحفيظية عام 1908؛ والتي اعتبرها كثيرون مدخلاً جوهرياً إلى مشروع الدسترة في المغرب، وقد تجلّت ملامح الدسترة في البيعة الحفيظية؛ في الشروط التي اشترطها المبايعون على السلطان عبد الحفيظ، والتي كان أهمها:

ـ استرجاع الجهات المحتلة في الحدود مثل وجدة.

ـ تحرير الدار البيضاء من الاحتلال.

ـ عدم تنفيذ شروط ميثاق الجزيرة المضرة بمصالح المغرب والمغاربة.

ـ إلغاء امتيازات الأجانب مثل الحماية القنصلية.

ـ التحالف مع الدول الإسلامية مثل تركيا ومصر.

ـ ضرورة الرجوع للأمة قبل عقد أي اتفاق مع الأجانب.

ـ الاستعداد للدفاع عن البلاد.

ـ إلغاء المكوس.

ـ تحقيق العدل ونشر العلم والاهتمام بالمؤسسات الدينية.

ـ فصل السلطة التنفيذية عن السلطة الشرعية.

- الاهتمام بالعلماء والأشراف وإبعاد الفاسدين من الإدارة[2].

فهذه شروط بيعة المولى عبد الحفيظ التي وضعتها النخبة من العلماء.

الدسترة بعد الاستقلال:

ثم كانت محاولة وضع أول دستور مغربي بعد الاستقلال سنة 1960، وفي هذا السياق؛ عين الملك محمد الخامس -رحمه الله- بظهير شريف صدر في 13 جمادى الأولى عام 1380 الموافق 3 نوفمبر 1960؛ مجلساً لإعداد الدستور يتصدر أعضاءه العلماء؛ من أمثال المختار السوسي والفاروقي الرحالي ومحمد داوود وعبد الله كنون ...، وغيرهم.

لكن توفي محمد الخامس دون أن يحقق أمنية من أمانيه الغالية وهو إقرار دستور للمملكة المغربية، فأشرف على الدسترة الملك الحسن الثاني، وأعقب ذلك صدور دستور 1962.

وهنا نسجل أن العلماء استمروا في أداء واجبهم؛ وشواهد ذلك كثيرة؛ منها:

ما كتبه العلامة عبد الله كنون في كتابه مفاهيم إسلامية، تحت عنوان: "الذين سيوضع لهم الدستور" ..

من كلماته فيه: "إن المغاربة الذين نحن في خدمتهم عرب مسلمون، دستورهم الخالد هو القرآن، وقانونهم العام هو الشرع الإسلامي، فعلى هذا الأساس يجب أن يوضع دستور الدولة التي تحكمهم، ومن هذين المنبعين الثريين يجب أن يستمد ذلك الدستور مبادئه وأصوله، وهذا إن لم يكن إيمانا بالقرآن ولا بالشرع الإسلامي فليكن إيمانا بالديمقراطية التي هي حكم الشعب من غير تحريف لها ولا تزييف .."

ومنها: مقالة للرحالي الفاروق في الموضوع؛ قال فيها:

".. لابد من شجاعة كافية لتحقيق دستور إسلامي يراعى فيه تاريخ ونظام المغرب العربي المسلم ويراعي فيه التطور الصحيح، والرقي المتين الذي يحمي ساحة الدين والأخلاق، ويرفع مستوى الحياة والأفكار، ويحفظ الحقوق والواجبات، ويوضح شكل الدولة والحكومة، وينظم السلطات المختصة، والعلاقات الاجتماعية ...

وكتاب الله العزيز، وسنة رسوله الكريم هما المصدر الأول للدستور الإسلامي، وهما المرجع الحقيقي في حلّ مشاكل الحياة، وفضّ النزاع الطارئ.

وكذلك أعمال الخلفاء الراشدين، وأفكار العلماء المجتهدين الذين لا يخرج اجتهادهم عن قواعد الإسلام الصحيحة، ومبادئه الثابتة .

ومما لا ريب فيه أن الإسلام نظام علمي يقوم في سائر الوجوه والأحكام على خلاف ما يظنه الجاهلون أنه بعيد من الحياة قريب من العبادة{كبرت كلمة تخرج من أفواههم أن يقولون إلا كذبا}   بل الكون والحياة والإنسان في نظره وحدة متنافسة متعاونة بحكم صدورها عن إرادة واحدة مطلقة كاملة"اهـ.

وقد أثار المهتمون ملاحظات كثيرة على دستور 1962؛ منها أن حضور العلماء لم يكن بالشكل الكافي وأنه تضمن معطيات كانت محل نظر من قبل العلماء؛ على رأسهم العالم السلفي الكبير شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي ..

ومع ذلك؛ أبدى علماء الرابطة موافقة مبدئية على نص الدستور، مع الحث على استدراك الخلل، وهذا نص بلاغهم في الموضوع:

"بلاغ من رابطة علماء المغرب بشأن الدستور:

عقدت الأمانة العامة لرابطة علماء المغرب اجتماعاً خاصاً بالرباط في صباح يوم الخميس 24 جمادى الثانية عام 1382 موافق 22 نونبر 1962 لدراسة مشروع الدستور، وبعد أن قام مختلف الأعضاء بتقديم ملاحظاتهم حول هذا المشروع اتفقوا على ما يأتي:

يسجلون بارتياح الخطوة الهامة التي قام بها جلالة الملك الحسن الثاني وفاء بوعد والده العظيم وتلبية لرغبة الشعب المغربي في إخراج البلاد من الوضعية التي وجدت نفسها عليها بعد الاستقلال إلى نظام مملكة دستورية متمتعة بالحريات الديمقراطية دينها الرسمي الإسلام ولغتها العربية.

يعلنون موافقتهم على هذا المشروع كخطوة أولى في تركيز المبادئ الإسلامية والأنظمة الديمقراطية الحديثة مع العلم بأنه كان يستلزم عروبة المغرب من حيث أن العربية هي لغتها الرسمية، وكون قوانينه يجب أن تستمد من الشريعة الإسلامية؛ لأن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، إلا إنه كان من المرغوب فيه أن يقع التأكيد على هذين المبدأين بصراحة تامة.

وبكل وجه فإن رابطة علماء المغرب تعتبر هذا المشروع مكسباً وطنياً جديداً في الوقت الحاضر وتدعو سائر الإخوان إلى التصويت عليه بنعم"اهـ.

إن المعطيات المتقدمة؛ تفضي بنا إلى خلاصات مهمة:

1- أن العلماء لم يتأخروا عن أداء واجبهم في عملية الدسترة؛ بل كانوا سباقين اقتراحاً وتنظيراً وإعداداً، وكانت توجيهاتهم على مستوى عالي من الرشد واستيعاب المستجدات والحرص على صيانة الأمن الروحي والقومي للمغاربة.

 2- لم يتم العمل بتوجيهات العلماء ولم تبوأ مشاريعهم في هذا الصدد منزلتها؛ ولذلك أسباب من أهمها الرغبة الجامحة لدى النخبة المستغربة في تقليد الأوروبيين لأنهم حققوا طفرة على المستوى العلمي والإداري والسياسي جعلت منهم محط إعجاب ..

وإذا كنا نعلم بأن التقدم الأوروبي مناط تقدير وأن له إيجابيات كثيرة يحسن الاستفادة منها؛ فإن الذي أغفله أولئك أن منهجية الإصلاح في العالم العربي لها مقوماتها وأركانها التي لا يمكن الاستعاضة عنها بمقومات وأركان الإصلاح عند الأوروبيين:

وقد بين كنون في مقالته السابقة أن الملك محمد الخامس اختار مسار التنمية من خلال الانتماء الحضاري للأمة:

قال: "إن أول انطلاقة تحررية جدية بإجماع الآراء، هي التي انبعثت من خطاب طنجة التاريخي سنت 1947 وهي التي أعلن فيها جلالة الملك أن اتجاه المغرب الطبيعي نحو الشرق الإسلامي والبلاد العربية، فالذين يقولون اليوم إن المغرب من الغرب أو أنه واسطة بين الشرق والغرب، إنما يحاولون فصم العرى المتينة التي بينه وبين إخوانه المسلمين والعرب تمهيدا للانزلاق به نحو التبعية الغربية، والانسلاخ من قوميته العربية الإسلامية"اهـ

3- إن المغرب لما سار في إصلاحاته السياسية وما تفرع عنها على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي؛ على منهاج يعتمد التقليد واستنساخ تجارب الغير؛ وصل به ذلك إلى الأفق المسدود، كما هو حال دول عربية أخرى، والبرهان هو الواقع الحالي الذي انتفض فيه الشعب ضد الفساد والمفسدين، فهذا دليل عملي على فشل المناهج العلمانية والاستغرابية، وهو دليل يسقط كل نظريات كبار مفكري ومنظري العلمانية في العالم العربي.

 4- المتأمل بإنصاف يوقن بأن المسار الذي رسمه العلماء للإصلاح عموماً وللتوجه الدستوري خصوصاً يشتمل على مقومات النجاح، وكان بإمكانه أن يجعل المغرب في وضع آخر ..

يقول كنون:

"إننا إذن مقبلون على معركة حاسمة بالنسبة لمستقبل المغرب، فإما يكون عملنا عملاً بناءاً هادفاً يرتكز على أسس متينة من مقدساتنا وواقعنا الاجتماعي، وحياتنا البيتية المبنية على النظافة والطهارة وعدم الإثارة، وحينئذ فإن المغرب سيسير في طريق نحو النمو والتقدم والازدهار بخطى ثابتة وسريعة وبتعاون جميع العناصر والطبقات من المواطنين والمواطنات، وإما إن ننحرف ونميل ونترك الطريق السوي والنهج القويم .. من أجل أن يقال عنا أننا تقدميون متحررون، كما قالت جريدة اسبانيا الطنجية يوم استقبلت أول فوج من المسيحيين الذين اكتسبوا الجنسية المغربية في حين أن المسلمين الذين يولدون فوق التراب الاسباني لا يسمح لهم القانون إلا برعوية منقوصة... وفي هذه الحال فإن دستور المغرب سيكون نسخة لا غير من دساتير الدول اللادينية، ولا سيما القدوة العظمى فرنسا( المطروبول)، وفي هذه الحال سنبقى وحدنا وسنخسر الشعب بأجمعه، وإن كنا سنكسب تصفيق الخوارج والمتملقين"اهـ.

وتبقى الأسئلة المطروحة:

- هل سيؤدي علماؤنا الحاليون واجبهم كما فعل أسلافهم؟

- وهل ستصغي لتوجيهاتهم النخب السياسية والفئات الشعبية؟

- أم أن التاريخ سيعيد نفسه، وسنعيد إنتاج دستور وتعديلات تمكن للفساد والمفسدين وتقصي العلماء والمصلحين؟؟

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا

                                  ويأتيك بالأخبار من لم تزود

 

 
 

 


[1]  انظر نص المشروع كاملا في كتاب: "التيارات السياسية والفكرية بالمغرب"، لإبراهيم حركات.

[2]  انظر كتاب: "المغرب من عهد الحسن الأول إلى عهد الحسن الثاني؛ الجزء الأول، ص. 327.

 

 

أعلى