{هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}
الحمد الله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة؛ قهر بقوته جميع خلقه، ودبرهم بعلمه وعدله وحكمته «لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» نحمده فهو أهل الحمد كله، ونشكره فلا أحد أحق بالشكر منه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ {فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف: 84- 85]، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان كثير التعظيم لله تعالى، يذكره سبحانه في كل أحيانه، ويُذكر به عز وجل أصحابه في كل أحواله، ولما خشي أبو بكر رضي الله عنه وصول المشركين إليهم في الهجرة فقال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، قَالَ: مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظموه بقلوبكم وأقوالكم وأفعالكم؛ فعلقوا به قلوبكم، وحركوا بذكره ألسنتكم، وانصبوا أركانكم في طاعته؛ فإنه العظيم الذي يجب أن يعظم، والقدير الذي لا يقهر، أحاط علمه بخلقه كلهم، ولم يضيعهم لما خلقهم، بل دبرهم ورزقهم وكفلهم وأحياهم وأماتهم، وإليه مرجعهم {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8].
أيها الناس: من أسماء الله تعالى الحسنى القَهَّار، وهو اسم يملأ قلب المؤمن هيبة لله تعالى وإجلالا وتعظيما ومحبة وخوفا ورجاء، وأفعاله سبحانه تدل على ذلك؛ فالله سبحانه «قَهَرَ خَلْقَه بسلطانه وقدرته، وصَرَّفهم على ما أَراد طوعاً وكرهاً». وهو سبحانه «الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلهم بالموت». وهو سبحانه بقهره لعباده مستعل عليهم {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]. قال الزجَّاج رحمه الله تعالى: «قهر المعاندين بما أقام من الآيات والدلالات على وحدانيته، وقهر جبابرة خلقه بعز سلطانه، وقهر الخلق كلهم بالموت».
وقد جاء اسم القهار في مواضع ستة من كتاب الله تعالى، كلها في تقرير توحيد الله تعالى، وأنه لا معبود بحق سواه؛ لأنه سبحانه قهر كل المعبودات من دونه، وقهر كل خلقه؛ فهم في سلطانه، وتحت حكمه، ويجري عليهم أمره، ولا حول لهم ولا قوة إلا به.
وفي حوار يوسف عليه السلام لصاحبي السجن دعاهم إلى الله تعالى، ونبذ ما يُعبد من دونه، ثم استفهم استفهاما تقريريا بيّن فيه لهما أن عبادة الله تعالى خير مما يعبدون من آلهة متفرقة {يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39]. والعقل الصحيح يقتضي عبادة الواحد القهار، ونبذ ما سواه من الأنداد.
ويوسف عليه السلام قال هذا الكلام لأصحاب السجن الذين هم مقهورون بقهر عزيز مصر حين سجنهم، فاختار من أسماء الله تعالى وهو يُعرِّفهم عليه سبحانه ما يلائم حالهم.
وفي مقام آخر أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخاطبة المشركين فيما يعبدون من دون الله تعالى مما لا يضر ولا ينفع، مع بيان شيء من مظاهر قدرته سبحانه لعلهم يرجعون إلى عقولهم، فيتركون ما يعبدون من دون الله تعالى، ويخلصون له العبادة وحده لا شريك له {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16].
وأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يخبر المشركين بأنه نذير، وأنه لا إله مع الله تعالى، وأنه سبحانه الواحد القهار؛ ليفردوه بالعبادة {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65]. ومن السنة إذا تقلب المرء في فراشه أن يقول هذا الذكر العظيم؛ لحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَضَوَّرَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ» رواه النسائي وصححه ابن حبان.
وفي خطاب قرآني ردٌّ على من ادعى لله تعالى الولد، وبيان قهره سبحانه على خلقه؛ فلا يحتاج سبحانه إلى أحد. بل كل الخلق مفتقرون إليه وهو غني عنهم {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4].
وكما كان الله سبحانه قهّارًا لعباده في الدنيا؛ فإنهم في الآخرة تحت قهره، وجاء في آيتين كريمتين بيان ذلك؛ لتسلية عباده المؤمنين، وترهيب الكافرين {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 47- 48]، وفي مقام آخر قال سبحانه {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 13 - 16].
وزعم فرعون أنه يقهر بني إسرائيل {قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] فقهرهم وقتل أبناءهم واستحيا نساءهم، وموسى عليه السلام يأمرهم بالصبر ويعدهم بالفرج {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]. ثم كانت العاقبة العظيمة التي تدل على وحدانية الله تعالى وقهره لكل خلقه {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف: 136- 137].
وحين يعيث المفسدون من يأجوج ومأجوج في الأرض، ويزعمون أنهم قهروا من في الأرض وسيقهرون من في السماء يقهرهم الله تعالى بأضعف خلقه، بدود في رقابهم فيهلكهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عنهم: «...وَيَفِرُّ النَّاسُ مِنْهُمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ فِي السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بِالدِّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنَا مَنْ فِي الأَرْضِ وَعَلَوْنَا مَنْ فِي السَّمَاءِ، قَسْوَةً وَعُلُوًّا، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَهْلِكُونَ» رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين. إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
أيها المسلمون: يلاحظ في كل الآيات التي ورد فيها اسم (القهّار) في القرآن اقترانه بوحدانية الله سبحانه. وفي هذا معنى لطيف: وهو أن الأصل في وحدانية المخلوق الضعف، وأن المخلوق يستقوي بغيره مهما كانت قوته وغلبته. وكلما كان للمخلوق أعوان أكثر كان بهم أقوى. وكل من قهروا الخلق من المخلوقين لهم أعوان وجند يستقوون بهم على غيرهم فيقهرونهم، والخالق سبحانه لا يحتاج إلى ذلك، بل هو الواحد القهار لجميع خلقه «وكل مخلوق فوقه مخلوق يقهره، ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه، حتى ينتهي القهر للواحد القهار، فالقهر والتوحيد متلازمان متعينان لله وحده». وهذا يبعث في نفس المؤمن انشراحا، ويملأ قلبه طمأنينة؛ لأنه إنما يعبد الواحد القهار الذي قهر كل شيء، ولا أحد يقهره سبحانه.
وإذا تأمل العبد أنه في وجوده ومصيره مقهور لله تعالى؛ خضع له وعظمّه وأحبه وخافه ورجاه، ولم يخش أحدا سواه، وقهر نفسه على التوبة لله تعالى واستغفاره وكثرة ذكره؛ فإن الإنسان منذ ولادته إلى وفاته وهو مقهور؛ فهو خلق بلا إرادته، وعاش بلا إرادته، وتصيبه البلايا والمحن والأسقام والهموم بلا إرادته، ويموت بلا إرادته. وهذا يستلزم خضوعه لمن قهره، وقد هداه إلى دينه، وأرسل إليه رسله، وأنزل عليه كتبه، ودله على طريقه، وأقام عليه حججه، وأعطاه حرية الاختيار {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 2- 3].
وإذا أيقن المؤمن أن الله تعالى قاهر لخلقه كلهم لم يرهب الجبارين من البشر، ولم يخضع لجبروتهم، ولم يوافقهم في انحرافهم عن دين الله تعالى؛ لعلمه أن قهرهم للعباد تحت قهر الله تعالى. ولم يجزع لما يرى من علوهم في الأرض، وتسلطهم على الخلق؛ لعلمه أن الله تعالى يملي لهم ولا يهملهم، وهو سبحانه عليم بهم، رقيب عليهم، فإذا أخذهم لم يفلتهم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] فحري بالمؤمن أن يتأمل وحدانية الله تعالى مع قهره لخلقه؛ فيزداد إيمانا به، وعبودية له، ويفرح بأنه قد هدي لذلك. قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: «والله لو أن مؤمناً عاقلاً قرأ سورة الحديد وآخر سورة الحشر وآية الْكُرْسِيّ وَسورَة الاخلاص بتفكر وتدبر؛ لتصدع من خشيَة الله قلبه، وتحير فِي عَظمَة الله لبه».
وصلوا وسلموا على نبيكم....