الردع الإسرائيلي وهشاشة المنظومة الإقليمية
في الأيام الماضية أنهيت "مذكرات آرئيل شارون" وهو عبارة عن ملحمة سياسية رائعة حررها الكاتب الإسرائيلي ديفيد شانون في كتاب تزيد عدد صفحاته عن 700 صفحة ونقله إلى العربية أنطوان عبيد.
مع طي كل صفحة في الكتاب تطوى فترة تاريخ فلسطين مليئة بالإنتصارات والهزائم..يدون خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرئيل شارون نشأته مع أسرته في كفر ملال بالقرب من تل أبيب في عهد الانتداب البريطاني وحالة الجدل الدائم بين والده البولندي وأمه الروسية اللذان قداما إلى فلسطين طمعا بــ"اللبن والعسل ومزارع الفواكه فيها".
تطوع شارون في عمر الرابعة عشر في صفوف الهاغانا وهي مليشيا يهودية مسلحة لمهاجمة القرى الفلسطينية المحيطة بالكيبوتسات التي صنعتها بريطانيا لليهود الهاربين من الحرب في أوروبا، ثم تدرج في السلك العسكري حتى كلف بإنشاء الوحدة 101 وهي وحدة من النخبة فيما بعد اندمجت مع كتيبة المظليين لتصبح أكبر قوة ردع تستخدم لشن غارات إنتقامية ضد العرب والفلسطينيين في سوريا والأردن ولبنان ومصر.. وهذا الأمر ما أود التأكيد عليه وهو استراتيجية إسرائيل في إرباك العرب وإضعاف قوتهم العسكرية.
في مؤتمر صحفي عقده وزير الجيش الإسرائيلي نفتالي بينيت حول نشاط الجيش في سوريا قال إن الهجمات التي ينفذها الجيش على المواقع الإيرانية جعلت إيران تتخلى عن ترسيخ قواتها في سوريا. بغض النظر عن غموض الهدف الإستراتيجي من الخطوة العسكرية الإسرائيلية إلا ان الهدف المرحلي سيتعلق بتلقين إيران درس مسبق في حال ما قررت تمويل وتسليح جماعات معادية لإسرائيل. الإعلام العسكري الإسرائيلي يختلف مع حملة العلاقات العامة التي قام بها وزير الجيش وشكك في أن تؤدي الحملة العسكرية على سوريا إلى إخراج إيران من سوريا لأن سوريا جزء من خريطة إيران الإمبريالية ولا يتعلق الامر بمطامع مؤقتة متعلقة بالتواجد العسكري فقط.
يمكن استدعاء التجربة التاريخية لإسرائيل في موضوع تحقيق ميزان الردع عبر الإنتقام، ففي خمسينيات القرن الماضي كانت مجموعات فدائية فلسطينية تهاجم مواقع للهاغانا الصهيونية وسط معارك كر وفر كانت شائعة في تلك الفترة، ولما عجزت الحكومة الإسرائيلية عن الإمساك بالفدائيين أرسلت كتيبة بكامل عتادها بقيادة المراهق آرئيل شارون وهاجمت بلدة قبية في الضفة الغربية وهدمت 45 منزلاً فلسطينياً بالمتفجرات وقتلت 65 فلسطينياً للانتقام من أعمال الفدائيين.
عقب حرب 1948 أقدم الجيش الصهيوني على خفض عدد قواته اعتقاداً من صانع القرار الإسرائيلي أن فلسطين أصبحت خاضعة للإحتلال الجديد، لكن مع مواصلة الهجمات الفلسطينية على المواقع الإستيطانية وجد رئيس الأركان موشيه ديان، في كتيبة المظليين حلاً مثالياً للإنتقام من الفدائيين ولجم هجماتهم.
ورغم الحيرة السياسية التي كانت تصيب الحكومة الإسرائيلية في تلك الفترة إلا أن ديان وجد أنه يجب طرح تفسيراً أكثر منطقية لعمليات الإنتقام وطرح أهداف بعيدة المدى لهذا النهج العملياتي الذي من شأنه تقليص أعداد الفدائيين.
اتجه ديان عبر إرسال كتيبة المظليين لتنفيذ أعمال إنتقامية مثل خطف الجنود المصريين والاردنيين من مواقعهم الحدودية ومهاجمة التجمعات السكانية الفلسطينية إلى ردع الفدائيين وتقليص أعدادهم وإيصال رسالة مفادها أن لكل فعل ردة فعل أكثر قسوة منه، لكن ذلك المفهوم الذي تبناه ديان بشكل فردي وكان آرئيل شارون أحد أبرز منفذيه اعتبر فيما بعد هدف استراتيجي لصانع القرار الإسرائيلي يتعلق بإظهار براعة آلة القتل الإسرائيلية في النظام الإقليمي والدولي. وهذا الأمر يلخصه موشيه ديان في مقولته الشهيرة: "إن انتصاراتنا وإخفاقاتنا في المعارك الصغيرة على طول الحدود وعبرها لها أهمية كبيرة. ليس فقط بسبب تأثيرها المباشر على الأمن اليومي ، ولكن أيضًا بسبب تأثيرها على كيفية تقييم العرب لقوة إسرائيل وإيمان إسرائيل بقوتها ".
اتجه صانع القرار الإسرائيلي إلى تحويل قوة الردع الإنتقامية إلى غاية استراتيجية مرتبطة بالتطورات الإقيمية في سياق مسارين الأول يستخدم العمليات الانتقامية لتلقيص الهجمات التي تستهدف المستوطنات الإسرائيلية و الآخر يهدف إلى صنع نظام إقليمي جديد. خلال فترة الخمسينيات لجئ الجيش الإسرائيلي إلى فتح جبهات مع مصر والأردن وسوريا واستفاد منها أن أكسبته المزيد من الخبرة ومنحته مساحة دولية يتحرك من خلالها حتى أصبح شريكاً لفرنسا وبريطانيا في الهجوم على سيناء عام 1956.
إقدام الجيش الإسرائيلي على استهداف القوات الإيرانية لا يتعلق بجانب عملياتي قصير المدة ولا حتى بالتصعيد إلى حافة حرب حقيقية بل غايته صنع بيئة إقليمية سياسية تقبل بإسرائيل شريك في تحالف إقليمي كبير عنوانه الأبرز معاداة إيران لكن في حقيقة الأمر هدفه صنع نظام إقليمي جديد يحدد الوجهة المقبلة للمنطقة.