مقاربات الإسلاميين في المشهد التونسي.. تمرين في الخيارات الاستراتيجية

مقاربات الإسلاميين في المشهد التونسي.. تمرين في الخيارات الاستراتيجية

لعل ما أقدم عليه الشاب التونسي محمد البوعزيزي من إحراق نفسه احتجاجًا على ما آلت إليه أحواله الاقتصادية والمعيشية في حد ذاته بنظر الإسلاميين حلاً غير إسلامي، باعتباره انتحارًا وقتلاً للنفس التي حرم الله إلا بالحق. لكن هذا الأمر الذي ربما اعتبره الكثيرون يأسًا وقنوطًا من رحمة الله قد ألهب حماسة الشارع التونسي وكان شرارة التغيير التي أدت إلى تغير دراماتيكي غير مسبوق في الواقع العربي متمثلاً بفرار الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن على بطائرته في جنح الليل بحثًا عن ملاذ آمن يقيه غضبة الشارع الثائر، في مشهد لا يخلو من الرمزية الدلالية الملهمة لكثير من شعوب المنطقة العربية التي يأن جلها تحت وطأة صور مختلفة من الحكم الديكتاتوري غير الرشيد.

ولعل المُطّلع على الوضع السياسي التونسي يدرك بأن انتفاضة الشارع قد جاءت عفوية غير منظمة لم يحركها حزب أو جماعة، إذ لم يكن في قدرة أي حزب في تونس أن يحرك كل هذه الملايين، فالمعارضة التونسية بكافة أطيافها، من إسلاميين وعلمانيين ويسار، ضعيفة هشة ولا تملك أي قدرة على التحرك الفاعل، إلى درجة أنه يصعب القول بأن في تونس معارضة من الأصل، لاسيما في ظل ممارسات القمع والتنكيل التي مارسها بن علي وحزبه بحق قوى المعارضة والتي حولت الأطياف والكيانات الوطنية الفاعلة في البلاد إلى أثر بعد عين.

وقد يكون التساؤل بشأن موقف الإسلاميين التونسيين من المشهد القائم ومآلاته المستقبلية من باب التمرين السياسي للخيارات الاستراتيجية للحركة الإسلامية ليس في تونس وحدها بل في المنطقة العربية ككل، لاسيما مع مسارعة قيادات من حركة النهضة التونسية – الفصيل الإسلامي الرئيس في المشهد التونسي- بالتأكيد على عودتها من المنفى للمشاركة في المستقبل السياسي البلاد، بل وعودة راشد الغنوشي الرمز التاريخي لحركة النهضة بالفعل إلى البلاد بعد عشرين عامًا قضاها الغنوشي منفيًا في الخارج، فهل تكون عودة الإسلاميين إلى المشهد السياسي التونسي بعد عقود من الإقصاء والتهميش مناسبة للحظة التاريخية الفاصلة التي تمر بها البلاد لصياغة واقع جديد لتونس في حقبة "ما بعد بن على"؟

قد يرى البعض أن الإسلاميين كغيرهم من قوى المعارضة في تونس مدعوون للخروج بالبلاد من حقبة الديكتاتوية التي تعيشها تونس منذ استقلالها إلى آفاق أرحب من الحكم الرشيد الذي يكفل الحريات ولا يحتكر الثروات ويقيم العدل ولا يرعى الفساد، ويقيم دولة المؤسسات التي تؤسس لمرحلة جديدة من الشفافية والنزاهة بما يعطي كل ذي حق حقه دونما إجحاف أو تمييز. وربما يؤكد الكثيرون أن الشعب التونسي ربما يكون بحاجة إلى روحانية الإسلاميين في مرحلته الراهنة لمجابهة آثار حقبة الرئيس بن على وسلفه بورقيبة التغريبية العلمانية التي أخرجت أجيالاً ربما لا تعرف من هويتها العربية والإسلامية إلا النذر اليسير.

ولكن، وبمنطق آخر، قد يكون من المفيد أن ينتظر الإسلاميون في تونس قليلاً، وهم من انتظر كثيرًا وكثيرًا من قبل، حتى تتكشف مآلات الحقبة الانتقالية الراهنة، وتؤسس لمنظومة جديدة من الحكم الرشيد بما يجعل الإسلاميين كغيرهم من القوى السياسية الفاعلة يتحركون على أرض صلبة من حكم الدستور والقانون بما يصب في مصلحة البلاد ككل بغض النظر عن الاعتبارت الحزبية أو الفصائلية الآنية الضيقة.

وربما يدعم هذا المنطق الحس الوطني للإسلاميين في تونس، إذ لا يخفى عليهم أن الواقع الدولي والإقليمي قد لا يرضى ابتداءً بتصدر الإسلاميين ولو جزئيًا للمشهد السياسي في أي بلد عربي، ومن ثم فقد تنقلب كل القوى الدولية التي تحمل الشعارات الديمقراطية والإنسانية على جنين الحرية التونسي الوشيك، بل ربما تخنقه وتغتاله في مهده إذا ما تبدى لها أن هذا الجنين قد يحمل روحًا إسلامية أو توجهات دينية، ومن ثم فهل من الحكمة أن يرضى إسلاميو تونس بأن تجهض انتفاضة شعبهم الأبي بفعل الواقع الخارجي الذي يخشى من كل ما هو إسلامي، ومن المؤكد أنه لن يسمح بصعودهم إذا ما أرادوا أن يشاركوا في مشهد التحولات الراهن، الأمر الذي قد يلقي بظلاله السلبية على مآلات الصورة التونسية ككل.

وعليه فقد يكون من الأنسب للواقع التونسي في المرحلة الانتقالية والتي تليها، وفقًا لهذا المنطق، أن تكون عودة الإسلاميين صوب تصدر المشهد الاجتماعي التحتي لا السياسي الفوقي، بمعنى أن يكون تركيز الحركة الإسلامية في تونس على إعادة صياغة البنية التحتية للشخصية التونسية بأبعادها العقدية والفكرية، تلك التي شهدت ممارسات ممنهجة من المسخ والتشويه والبعد عن الروح والهوية الإسلامية على مدى عقود خلت، ومن ثم إعادة صياغة بُنى المجتمع التونسي على أسس راسخة من قيمه العربية والإسلامية الأصيلة.

ولعل الميدان الاجتماعي والمجتمعي –التحتي- هو الأكثر مناسبة والأشد إلحاحًا بالنسبة للإسلاميين في تونس من الميدان السياسي –الفوقي- الذي قد لا يكون للإسلاميين فيه مكان اتساقًا مع السياقات الأقليمية والدولية المحيطة. وربما يكون النموذج التركي خير مثال على ذلك، فقد بدأ صعود حزب العدالة والتنمية، ذي الصبغة التي تحمل روحًا إسلامية، في المشهد التركي انطلاقًا من الميدان المجتمعي التحتي وصولاً إلى تصدر الميدان السياسي الفوقي بشكل لم يسمح لقوى الداخل أو الخارج بإجهاض مسعاه نحو مزيد من "المأسسة" والدستورية والحكم الرشيد في بلاد طالما ظلت معقلاً للعلمانية الكمالية المتطرفة على مدى سنوات طويلة.

وما بين الرجوع الكلي السياسي الفوقي، والرجوع الجزئي المجتمعي التحتي، بتنويعاتهما المختلفة، تبقى جميع الخيارات مفتوحة أمام الإسلاميين في تونس، وإذا كان الشارع التونسي قد تصدر المشهد العربي بثورته الملهمة على قوى القمع والاستبداد، فإن الإسلاميين في تونس قد يتصدرون طليعة الحركات الإسلامية في العالم العربي إذا ما أحسنوا قراءة الواقع الداخلي التونسي والواقع الخارجي المحيط ببعديه الإقليمي والدولي قراءة جيدة تمكنهم من التعاطي الإيجابي مع منحة ساقها لهم القدر دونما ترتيب منهم أوتقدير، بما يخدم الشعب التونسي العربي المسلم في المقام الأول ويخدم الحركة الإسلامية في تونس ثانيًا. وإذا كان الشعب التونسي قد فتح الباب، بثورته المباركة، للإسلاميين حتى يرجعوا إلى المشهد السياسي في تونس، فإن على الإسلاميين التونسيين أن يردوا التحية لهذا الشعب الأبي بأحسن منها، فلا يغلقوا بابًا نجح الشعب في فتحه ولا يَشرعوا هُوة استطاع الشعب جسرها، وليعلموا أن مستقبل الحركات الإسلامية في المنطقة قد يكون رهنًا بتعاطيهم مع مقتضيات اللحظة الراهنة إن سلبًا أو إيجابًا، والخيارات أمامهم فماذا هم فاعلون؟

أعلى