مناقشة فكرية وشرعية لدعاوى المجاهرين بالإفطار في نهار رمضان
بين آونةٍ وأخرى يتنامى إلى مسامعنا ظهور فئة تدّعي أنّ الإفطار في نهار رمضان حريّة شخصيّة؛ وأنّه لا يحق سنّ قوانين لمعاقبة المجاهرين بترك الصيام والإفطار في وضح النهار أمام مرأى الناس.
ليس من شكٍ لدى كل مسلمٍ أنّ المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان كبيرة من الكبائر، وخرقٌ لسياج الثوابت الدينية.
ومن ادّعى أنّ في ذلك تدخل في حريّة الآخرين الشخصيّة؛ فهذا باطل من وجوه:
1. أنّ المسلم يجب عليه الانصياع لأوامر الله وعدم مخالفتها؛ فكيف بالمجاهرة بالمعاصي والكبائر، وقد جاء في الحديث الشريف الزجر عن ذلك؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ( كلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرينَ ).
والأصل أنّ من بُلي بمثل هذه الذنوب الكبيرة أن يستتر بستر الله لا أن يُجاهر بها، كما جاء في الحديث المُرسل الذي أخرجه مالك في الموطأ وعمل به أهل العلم أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: }أيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللهِ، مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَةِ شَيْئًا ، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ {.
فلو أنّ المرء توارى وابتعد عن أعين الناس وأنظارهم؛ لكان عمله معصية في حقّ نفسه وهو آثم مُجازىً عليه أمام الله؛ أمّا إذا كان يفعله أمام الخلق فإنّه يُجاهر ويُكابر؛ وليس لهم إلاّ أن يُنكروا المنكر عليه؛ فضلاً عن عقوبته وإثمه بين يدي الله تعالى.
2. أنّ مجاهرته بالإفطار؛ لا يدخل ألبتة في مجال الحريّة الشخصيّة؛ بل فيه اعتداء على الدين، وتعدٍ لحدوده، ولو أنّ كل شخص فعل ما يخطر بباله وعنّ بخياله بدعوى أنّ تلك حريّة لحصل في ذلك الانفلات الكبير، والفوضى العارمة، والفساد في الأرض.
إنّ الدين له حدود وقيود وضوابط؛ فمن خرقها أو خرمها كان من الظالمين؛ والله تعالى يقول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
وكذلك وجبت عقوبته من السلطات المسؤولة بما يردع الآخرين ويزجرهم عن هذا الفعل القبيح؛ لأنّ فيه طريق لإغراء الآخرين من ضعاف النفوس بتقليده.
3. أنّ هذا يؤدي إلى إفساد حريّة عموم المجتمع المسلم الذي لا يقبل أن يطعم أحد أمامه ما داموا صياماً؛ وحريّة المجتمع أولى من حريّة الفرد لأنّه انتهك حريّة كل فرد من المجتمع، والمصلحة العامة أولى بالمصلحة الخاصة عند التعارض، و درء المفسدة أولى من جلب المنفعة؛ هذا إذا كان فيه مصلحة؛ مع أنّه لا مصلحة في ذلك بل هي كبيرة على المستوى الشخصي، ومفسدة على المستوى العام، ودعوة علنيّة صريحة للاستخفاف بركن عظيم وهو ركن الصيام.
4. أنّ من يقوم بذلك فإنّه لم يقم بتعظيم حُرمات الله وشعائره.
فالله تعالى يقول: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْر لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}.
ويقول: { ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ }.
ولم يُوقّر الله وأوامره، والله عزّ وجل يقول: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا}.
ولم يُقدّروا شريعته حقّ التقدير، والله عزّ وجل يقول: { وما قدروا الله حقّ قدره }.
ولم يحترموا حرمة هذا الشهر المبارك؛ فالمعصية في هذا الشهر العظيم ليست كالمعصية في غيره من الشهور.
5. أنّ من يفعل ذلك لم يحترم مشاعر الآخرين في صيامهم؛ فنحن نجد كثيراً من النصارى الذين يعيشون في بلاد المسلمين لا يُفطرون أو يأكلون أمام المسلمين؛ فيما نرى من ينسب نفسه للإسلام لا يجد غضاضة أن يأكل أمام الناس فلا أدب ولا خُلق بل قلّة في العقل وانحراف في الدين.
6. أنّ من احتاج للطعام بسبب مرضٍ أو عذرٍ شرعي مثل الحامل والحائض والمرضع والنفساء والمسافر؛ فإنّه لا يجوز لهم أن يُظهروا إفطارهم أمام الناس؛ بل يأكل كلٌّ منهم وحده؛ رُغم أنّهم معذورون وعندهم مندوحة في ترك الصيام؛ وذلك كي يتضامن المجتمع على حماية حرمة هذه العبادة وألاّ يخرج أحد منهم عن نسق الصوم في الشهر الرمضاني.
7. أنّ الإفطار في نهار رمضان فيه تحدٍ واستفزاز ومحاولة لصنع لفتن والخلافات في المجتمع؛ لأنّ المرء حين يُفطر مجاهراً في نهار رمضان فكأنّه يقول للمجتمع بلسان حاله: لا عبرة بكم ولا قيمة لكم؛ وهذا يؤدي لأن تحصل هنالك إساءات إليه أو اعتداء عليه بسبب استيائهم من تصرفه الأحمق.
8. أنّ دعوى الحريّة الشخصيّة أو الفرديّة حتى في كثير من القوانين العلمانية والدول التي تُعنى بالليبرالية؛ لا تكون الحريّة فيها على إطلاقها؛ فثمّة قوانين وقيود وحدود وجوانب من تجاوزها فإنّه يُعاقب صاحبها وقد يُسجن سجناً مؤبداً؛ فليس الأمر كما يزعم هؤلاء المنفلتون من قيود الدين والعقل والعرف والمجتمع، وكأنّ الأمّة تعيش في غابة وحوش بلا قوانين ولا ضوابط؛ وربما نظلم الوحوش كذلك إن قلنا ليست لها قوانين فمن تأمّل حال الحيوانات سيرى التزامها بكثير من المحدّدات والضوابط والقيود.
9. أنّ من مقاصد الصيام تربية المجتمع على تقوية الإرادة عن أكل الطعام وشرب الشراب والصبر على ذلك واحترام المواعيد من حيث توقيت السحور والفطور؛ ومن خالف ذلك فإنّه يُخالف قوانين نظام المجتمع وسيرها.
وذلك مثل: من يريد أن يمشي برجله في الشوارع المخصصة لقيادة السيارات ولا يُبالي بذلك من باب أنّ هذه حريّته وليس لأحدٍ أن يوقفه ويُخرجه من هذا الشارع!
وكذلك فالشارع الحكيم له أسس ويمشي عليها عموم المسلمين؛ فمن خالف طريقه وسلك طرقاً أخرى فإنّه كمن يمشي برجله في شوارع السيارات؛ وكان بإمكانه أن يمشي في ممر المشاة!
وهذا الذي ينتهك حُرمة رمضان لو أنّه أفطر في بيته فإنّ الله يُحاسبه طالما لم يُجاهر؛ أمّا وقد جاهر؛ فلا يستحق الاحترام؛ لأنّه ما قصد الطعام بل قصد شيئاً آخر وهو معاقرة الحرام على ملأ من الناس واستهانته بشعيرتهم.
· حُججٌ محجوجة :
أولا:
يقول بعضهم الصيام عمل فردي خاص بين العبد وربّه ويحتجُّون بالحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له الا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
ومعنى هذا ليس كما يتوهّمُون بل أنّه إن صام فإنّ صومه عمل سر بينه وبين الله؛ فلا أحد يطّلع عليه؛ كما لو أفطر خفية أو خلسة عن الناس؛ أمّا من جاهر بالإفطار في نهار رمضان؛ فقد خرج من كونه قامَ بكبيرة خفيةٍ؛ إلى أن يكون قد جاهر بالإفطار علناً وتحدّى شريعة المسلمين.
ثانياً:
يقول بعضهم: ما الفرق بين إلزام الناس بعدم الطعام في نهار رمضان لمراعاة حرمة الشهر وحقوق المسلمين؛ فلماذا لا نفعله في إلزام الناس بالصلاة وقت الأذان؟
هذه الدعوى تُناقش بعدّة أمور:
أ. أنَّ الصيام واجب مُضيّق، والصلاة واجب مُوسّع بإمكان المرء أن يصلي في أي وقت أو مكان شاء سوء في المسجد أو في بيته أو مكان عمله، وأمّا الصيام فإنّه واجب مُضيّق معروفة حدوده من الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
ب. أنّ من لم يُصلّ لم نؤمر أن نبحث عنه، وكذلك من لم يصم لم نؤمر أن نبحث عنه، وإن كان يستحق الوعيد، لكن من تجرأ بانتهاك شهر رمضان وأكل فيه، فإنّه يُمنع من ذلك، كمن تجرأ وحاول منع الناس عن الصلاة أو أشغلهم عنها.
ج. أنّ الصيام المقصود منه الكف والترك والامتناع؛ والصلاة المقصود منها العمل والفعل، ومن لم يعمل شيئاً فقد لا يُنتبه إليه خاصّة وأداء الصلاة يُمكن أن تؤدّى في أي مكان، أمّا الانكفاف عن فعل شيء ثمّ المجاهرة به والقيام بعمله أمام المجتمع يدل على أنّ هذا الشخص يُعنى بإثارة بلبلة ويقصد حصول فتنة في المجتمع.
ثالثاً:
يقول بعضهم: أنّنا والحالة هذه يجب أن نحترم مشاعر غير المسلمين من اليهود والنصارى الذين لهم أعمالهم وطقوسهم من صيام وغيرها.
والجواب:
1. أنّه لا نسبيّة عندنا في الدين فالدين الحق هو دين الإسلام، وما سواه من الأديان فهي أديان باطلة مُحرّفة، وشريعة الإسلام هي الشريعة الحق، والشرائع الأخرى مُحرّفة باطلة؛ فلا مقارنة بين دين الإسلام وغيره من الأديان.
2. أنّ دين الإسلام لا يتعامل مع طقوس الأديان المُحرّفة إذا قاموا بتأديتها في أماكنهم المخصصة بمنعهم، أو أن يأمر بالأكل أمامهم في صيامهم، أو إفساد صلواتهم، ولكن هذا مكانه ومحلّه بقعتهم التي يقومون بأداء أعمالهم فيها.
3. أنّ دول المسلمين بشكل عام تنص على أنّ دينها هو الإسلام وأنه مصدر للتشريع؛ أو مصدر أساس للتشريع، وبغض النظر عن مناقشة هذه الجدلية؛ ووجود أفكار علمانية كثيرة في القوانين؛ إلاّ أنّ عقيدة المسلمين ووجودهم في البلاد يجعل الأصل اتباع عقيدة وشريعة الإسلام، والالتزام بالكف عن المحرّمات الدينيّة والمحظورات التي تمنع منها، والتي تؤيدها كذلك القوانين في كثير من الدول العربية التي تسجن وتمنع وتُغرّم من يقوم بأداء الإفطار في نهار رمضان.
4. قولهم أنّ الدول الغربية بهذه الحالة ستمنع المسلمين من أداء حقوقهم؛ فنقول: الدول الغربية دول علمانية بحتة، وتدعي الحرية؛ فإذا ضيّقوا على المسلمين تحديداً فمن حقهم وواجبهم استخدام المفردة المتعلقة بالحريات لوضعها أمام من يتآمر على حريّة المسلمين، أو أن يفسح المجال لجميع الأديان ويكون عدائياً ضد المسلمين أو دين الإسلام فبهذا تنكسر دعوى قولهم أنّ دولهم تمنح الحرية؛ ويكون واجب المسلمين مقاومة هذه الدعاوى الكاذبة.
رابعاً:
يدّعي بعضهم أنّ إلزام الآخرين بعدم الإفطار في نهار رمضان فيه إكراه لهم، والله تعالى يقول: { لا إكراه في الدين}.
هذا المفهوم باطل؛ لأنّ الآية تتحدث عمّن يريد إجبار غير المسلمين على الدخول في الإسلام؛ والإسلام لا يُكره الآخرين أو يُجبرهم على الإسلام؛ ولكن من يدعي أنه مسلم فالواجب عليه أن يلتزم بدين الإسلام، وإذا لم يلتزم فإنّ ثمّة شعيرة عظيمة أتى بها الإسلام يتناساها من هو دائم الحفظ لآية: { لا إكراه في الدين } لأنّ هنالك آيات أخرى تقول : { ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} ويقول تعالى : { كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }.
خامساً:
يقول بعضهم: لم يرد عن الرسول عليه الصلاة والسلام أو الخلفاء الراشدين أنهم وضعوا عقوبة للمجاهر بفطره في رمضان
فنقول: جريمة الزنا لم يأت الحد عليها كثيراً في عصور الرسالة والخلافة الراشدة؛ إلا في حالات نادرة ؛ وهي أعمال تُعمل في الخفاء؛ ولم يصلنا منها إلا الشيء القليل من إقامة الحد؛ لصلاح ذلك المجتمع في الجملة؛ ولانعدام من يُجاهر بالمعصية والفواحش؛ فهل نريد أن نتطلّب لذلك إيجاد عقوبة للمجاهر بفطره في نهار رمضان؟!
فإن قيل: كان يمكن أن يصلنا الأمر بالعقوبة حتى لو لم يتم تطبيقها؟ ثم من يُحدد العقوبة؟
فيُقال: من يُحدد العقوبة الحاكم المسلم بعد الشورى مع أهل الرأي والعقل.
فليس من اللائق أن يترك الحاكم المسلم من ينتهك حرمة نهار رمضان ويقوم بالأكل والشرب في وضح النهار عياناً بياناً وكأنّ الأمر لا توجد فيه أية مخالفة.
العقوبة من الحاكم ليست في ترك الشخص صيامه فقط؛ بل مجاهرته وإعلانه أمام مجتمع مسلم ملتزم بحكم الله حيث يفاخر ويجترئ على الإفطار أمامهم.
لهذا كان رأي جمهور فقهاء المذاهب الأربعة وغيرهم يرون وجوب اتخاذ الحاكم أو الإمام صلاحيات تدبيرية في رعايته للرعية لعقوبة المجاهر بترك العبادة أو المُفرّط بها علناً.
ويرون وجوب اتخاذ الأحكام الرادعة التعزيرية لثني وتأديب مرتكب المجاهرة لمناقضته حقيقة هذه العبادات؛ على خلافٍ بينهم في مقدار العقوبة.
ولعل مما يشهد لذلك من فعل الصحابة الكرام أنّه ثبت أنّه أُتيَ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – برجل شَرِب الخمر في رمضان، فلمَّا رفع إليه عثر الرجل، فقال عمر: على وجْهِك، ويْحَك! وصبيانُنا صِيام! ثم أمر به فضُرِب ثمانين سوطًا، ثم سيَّره إلى الشام، وكان - رضي الله عنه – إذا غَضِب على إنسان سيَّره إلى الشام.
وثبت في سنن البيهقي أنّ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جلد شخصاً شرب الخمر ثمانين، وفي اليوم الثاني زاده عشرين سوطًا.وحين سئل لِمَ زاد العشرين سوطاً قال علي بن أبي طالب: لِجُرأتِك على الله، وإفطارِك في شهر رمضان.
وإذا كان والد الابن له أن يضربه للتعويد على الصلاة لعشرٍ؛ فكيف بالوالي المسلم والراعي لرعيته حين يراهم ينتسبون للإسلام ثم يُجاهرون بالكبائر في ترك فريضة الصيام والافطار عمداً أمام الناس في نهار رمضان؛ فحريٌ به أن يقوم ويعاقب المجاهر بترك تلك الفريضة المتعمد بانتهاك حرمة اليوم الرمضاني.
بقي أن أقول؛ ثبت في الحديث الصحيح عند ابن حبّان وغيره عن أبي أمامة الباهلي، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بينا أنا نائم إذ أتاني رجلان، فأخذا بضبعي، فأتيا بي جبلا وعرا ، فقالا لي: اصعد حتى إذا كنت في سواء الجبل، فإذا أنا بصوت شديد، فقلت: ما هذه الأصوات؟ قال: هذا عواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دما ، فقلت: من هؤلاء ؟ فقيل: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم".
فإذا كانَ هذا العذاب على من يصوم ثم يُفطر قبل موعد الإفطار؛ وهو عذاب لا تستطيع النفس تحمُّل سماعه؛ فكيف برؤيته ومواقعة العذاب؛ فكيف إذا كان هذا لمن يترك الصوم عمداً ويُفطر يومه كلّه؛ ويُجاهر بالإفطار في نهار رمضان؟!