ضباط فرنسا ومفارقات ثورة المليون شهيد
من هم ضباط فرنسا؟
ضباط فرنسا، هم ضباط وضباط صف جزائريون، فروا من الجيش الفرنسي، والتحقوا بجيش ثورة التحرير الجزائرية، بعد اندلاعها في أول تشرين ثاني1954، وبخاصة بعد قيام الحكومة المؤقتة عام 1958، ولغاية تموز عام 1962، وهم يشكلون إلى جانب السياسيين والمثقفين والإعلاميين المتفرنسين والمتغلغلين في المرافق الحكومية الحيوية، ما بات يعرف في الجزائر باسم "حزب فرنسا"، أو "حراس المعبد". وليس المقصود بهؤلاء، الضباط الذين كانوا قد انضموا للجيش الفرنسي مضطرين قبل عام 1954، وبمجرد ما اندلعت الثورة، فروا بأسلحتهم من الجيش الفرنسي، والتحقوا بكتائب المجاهدين، عن غيرة دينية وحمية وطنية، ولكن المقصود بهم أولئك الضباط، الذين تلقوا تعليمهم في المدارس الفرنسية، ثم التحقوا بالجيش الفرنسي، وحاربوا الثورة إلى جانبه، ونالوا رتبا عسكرية فيه، ثم هربوا منه، والتحقوا بجيش التحرير، بإيعاز من جنرالات فرنسا، وبخاصة، "دفعة لاكوست"، المتعلقة بهروب جماعي لمجموعة من الضباط الجزائريين، الذين كانوا في الجيش الفرنسي بألمانيا، والتحقوا بجيش التحرير، وذلك لأجل التغلغل في صفوفه، وبالتالي، تولي قيادة الجزائر، بعد الاستقلال، وذلك بعد فشل الرئيس الفرنسي ديغول (1958-1970)، في إجهاض الثورة عن طريق استخدام القوة العسكرية المفرطة، وسياسة الأرض المحروقة، وأيضا فشل مشروعه في ترويضها، والذي سماه "سلام الشجعان"، في 23 أكتوبر 1958. ومهما كان من أمر، فقد لقي الضباط الفارون من الجيش الفرنسي، رعاية كبيرة من العقيد كريم بلقاسم، وزير دفاع الثورة. ومع ذلك، فقد كان المجاهدون خلال الثورة يحذرون منهم، وبخاصة أنهم كانوا يفضلون أن يتكلموا بالفرنسية فيما بينهم، ولذلك، لم يدمجوهم بجيش التحرير، وإنما أبقوهم خارجه في دوائر الحكومة المؤقتة أو جيش الحدود، ولهذا لم يستطيعوا التأثير على مسار الثورة وخطها العام، أو التغلغل في جيش التحرير، قبل الاستقلال، ولكنهم تمكنوا بعد تقرير مصير الجزائر في 5 تموز 1962، وبعد أن تكتلوا خلف العقيد بومدين وزير الدفاع، ثم رئيس الجمهورية لاحقا، والذي، بدوره، قربهم إليه، وفضلهم على ضباط جيش التحرير، ومن خلال التساند والعمل المنسق والمنظم، واستغلال التناقضات الموجودة بين قادة الثورة، تمكنوا من اختراق الجيش الجزائري. ويذكر البعض أنه يوجد حاليا الآلاف من هؤلاء الضباط، والذين يستلمون مرتباتهم التقاعدية من صندوق معاشات المستعمر الفرنسي.
بومدين وضباط فرنسا:
وترجع علاقة بومدين، بضباط فرنسا واستعانته بهم، إلى ما قبل الاستقلال، فبومدين، الذي نزل بالمظلة على الثورة الجزائرية، بعد أن كان (طالبا) في مصر، وصار قائدا للمنطقة الغربية عام 1957، وزعيما لمجموعة وجدة، التي كانت تدين له بالولاء المطلق، قام بتعين بعض أولئك الضباط، مستشارين له، وبخاصة عندما صار رئيسا للأركان في مطلع عام 1960، وزعم بومدين وقتها، أنه يوظفهم لأن لديهم خبرة عسكرية، وأنه سيستخدمهم كمفك براغي، وأنهم لا يشكلون خطرا عليه، ولن يستطيعوا أن يفعلوا شيئا. وبعد الاستقلال، وبعد أن استولى بومدين وجماعته على السلطة بقوة الدبابة، ألغى جيش التحرير، وأسس الجيش الوطني الشعبي، وجعله تحت إشراف حوالي 15 ضابطا من الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، قبيل وغداة الاستقلال. ولم يفعل بومدين ذلك عن سذاجة أو جهل، وإنما فعله عن قصد، فقد كان يهاب أي ضابط جزائري لديه توجه إسلامي، ويعتبره خطرا عليه، وكان إبعاد الإسلام من واقع الحياة، قضية جوهرية، في مشروع بومدين، ولذلك عمل بومدين على إقصاء ضباط جيش التحرير، أو قتلهم، واستبدلهم بضباط فرنسا، لدرجة أنه أمر بإعدام العقيد شعباني، قائد الولاية السادسة (الصحراء) عام 1964، بعد مطالبته بتطهير الجيش من ضباط فرنسا، والمفارقة أن الضابط الذي حقق مع شعباني، والقاضي العسكري، الذي حكم بإعدامه، والضابط الذي نفذ عملية الإعدام، والضابط الذي شغل منصبه، كلهم من ضباط فرنسا. وبعد أن أطاح بومدين بصديقه ابن بلا عام 1965، وانفرد بالسلطة، وصار الحاكم بأمره، مضى في هذه السياسة، دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض، فقد عين العديد من ضباط فرنسا، في مناصب حساسة في وزارة الدفاع وغيرها، أبرزهم عبد القادر شابو، وهو أشهر وأقذر ضباط فرنسا، وكان من المعروفين بولائهم لفرنسا أبا عن جد، فقد عينه بومدين أمينا عاما لوزارة الدفاع، وقام بزج الكثير من ضباط فرنسا في الجيش، قبل أن يلقى مصرعه في حادث سقوط مروحية عام 1971. كما أن بومدين، عين عبد المجيد علاهم، وهو من ضباط فرنسا أيضا، رئيسا للتشريفات الخاص به، وهو المتهم بوضع السم لبومدين، والذي أدى إلى هلاكه في نهاية ديسمبر 1978، كونه كان كاتم أسراره، والشخص الوحيد الذي يدخل بيته.
جنرالات فرنسا يحكمون الجزائر
وظل ضباط فرنسا، يزدادون قوة مع مرور الأعوام، ونتيجة لتساهل الرئيس (التوافقي) الشاذلي بن جديد (1979-1992)، وتسليمه أكثر شؤون الحكم للعربي بالخير، الملصق به، تحت مسمى، أمين عام رئاسة الجمهورية، حتى سيطروا على الجيش الجزائري، وبخاصة بعد عام 1989، بعد أن تخلى لهم الشاذلي، عن منصب وزير الدفاع، الذي كان يشغله منذ العام 1979. وخلال هذه الفترة تمكّنوا من ترقية الكثيرين من إتباعهم، لمناصب أعلى، وصارت لهم الكلمة العليا في قيادة البلاد، وظهر ذلك بوضوح بعد توقيف الانتخابات عام 1992، عقب فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية، وإقالة الرئيس الشاذلي، وكان رموز هذه العملية الانقلابية، من جنرالات فرنسا الذين كان بومدين قد جعلهم مشرفين على الجيش الوطني، وهم: خالد نزار: وزير الدفاع، والعربي بالخير: وزير الداخلية، وعبد المالك قنايزيه: قائد الأركان، ومحمد العماري: قائد القوات البرية، وبن عباس غزيل: قائد الدرك الوطني، ومحمد مدين المدعو توفيق: رئيس المخابرات، ومحمد التواتي: مستشار وزير الدفاع، وحسين آيت عبد السلام: مسئول الصناعة العسكرية. وقد استبدلوا الشاذلي، برئيس صوري، هو محمد بوضياف، وهو أحد قادة الثورة التاريخيين، وكان مقيما بالمغرب منذ الاستقلال، ليكون واجهة لهم في معركتهم الكبرى، لوأد الصحوة الإسلامية، وإعادة الجزائر إلى حظيرة فرنسا، وليس لتصفية جبهة الإنقاذ، فحسب. لكنه كان من ضحاياهم عندما تجاوز الخط الأحمر، الذي رسموه له. وأولئك الجنرالات لم يعودوا موجودين في الواجهة الآن، وبعضهم صاروا بين يدي ربهم، ولكن أفعالهم القذرة، التي فعلوها، وجرائهم الشنيعة التي ارتكبوها، والأساليب المرعبة التي لجئوا إليها، خلال العشرية السوداء، والتي تفوقوا فيها على سيدهم الفرنسي، لا تزال ماثلة في الأذهان، ولا تزال آثارها قائمة، ولا تزال كابوسا رهيبا يقض مضاجع الجزائريين، الذين عايشوا تلك المرحلة. ولم يكتف أولئك الجنرالات الذين كسبوا الجولة، بخنق الصحوة الإسلامية، وإعادة الجزائر إلى حظيرة فرنسا، من جديد، وإنما حشروا البلاد، في نفق مظلم، وسلموها لزمرة من الفاسدين والأوغاد والمنحطين، من الجيل الثاني من حزب فرنسا، من العسكريين والسياسيين والمثقفين، والذين هم أكثر عمالة وتبعية للسيد الفرنسي، وأكثر حقدا على الهوية الإسلامية، وأكثر شراسة في محاربتها، وأكثر إيغالا في الفساد والنهب، والذين صاروا هم واجهة المشهد الجزائري اليوم، تحت إمرة السفير الفرنسي في الجزائر.
الدرس والعبرة
تلك كانت لمحة عابرة عما حدث في الجزائر بعد الاستقلال عام 1962، وكيف نجح ضباط فرنسا في السيطرة على الجيش، وبالتالي، الهيمنة على البلاد، وذلك نتيجة لسلسلة من الأخطاء الكارثية التي وقع فيها الثوار، والذين صنعوا أعظم ثورة في التاريخ، ولكن الخطأ الأكبر، بل والأهم، هو استبعاد الإسلام، وعدم تحكيمه في شئون الثورة، وفي الشأن العام، بعد الاستقلال. لذلك، فالمسئولية لا تقع على ضباط فرنسا، في إيصال البلاد إلى ما وصلت إليه اليوم، ولا على الطاغية بومدين وحده، ولكنها تقع على عواتق كل قادة الثورة من المدنيين والعسكريين، الذين قبلوا أن يكون الإسلام أمرا ثانويا في تسيير دفة ثورتهم ودولتهم الناشئة، وأن يكون الفكر الاشتراكي اليساري، هو المهيمن عليهما، فلو أن الثورة قامت على أساس العقيدة الإسلامية، لما وجدت مشكلة ضباط فرنسا، أساسا، لأن موقف الإسلام واضح من هؤلاء وأشباههم. فالعقيدة الإسلامية، وبخاصة العقيدة الصافية النقية، هي الحصن الحصين، الذي يحمي الثورة، والذي يحمي الدولة، والذي يحمي المجتمع، والذي يحمي الفرد، ويجعل كل منهم عصيا على الاختراق. والحقيقة أن ما حدث في الجزائر، كان طبيعيا، مادامت الأمور قد جرت على ذلك النحو، فإن المقدمات تدل على النهايات، وما بني على باطل فهو باطل، بل إن هذا هو السبب الأساسي، لفشل كل الثورات في البلدان العربية والإسلامية، والتي قامت بعد منتصف القرن الماضي، تلك الثورات التي أفرزت لنا طغاة العصر، كعبد الناصر، وبورقيبة، والأسد، والقذافي، وصالح، والذين شقيت بهم أمتنا، بل وحتى ثورات الربيع العربي التي قامت في 2011، فنحن أمة لا يمكن أن تنتصر إلا بالإسلام، فديننا هو كهفنا، وهو منهجنا، الذي فيه عزنا، وصلاح أمرنا في دنيانا وآخرتنا. وصدق الفاروق عمر عندما قال:" كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام، ومتى أردنا العزة في غيره أذلنا الله". وللأسف هذه الموعظة لم نستوعبها حتى الآن، ولذلك فنحن نتخبط في الظلام منذ أكثر من قرن، منذ أن قطع الاستعمار سياقنا التاريخي، وألغى نظمنا وتشريعاتنا ومؤسساتنا، وفرض علينا، نظمه وقوانينه وتشريعاته ومؤسساته، بدلا عنها. لكننا، مع ذلك، لا نقول أن الأمور انتهت، فالصراع بين الحق والباطل طويل وممتد، ولا بد أن ينتصر الحق في النهاية.