اللاجئون بين سندان القهر ومطرقة الخذلان
إن أخبارهم لتفُت الفؤاد وتقذف بالأسى لأعماق الفؤاد، يشعر المسلم بالضيق كلما عرضت عليه صورهم في تجمعات هي أشبه بالسجون، تفتقر لأبسط أسباب العيش الطيب الكريم.
إنهم اللاجئون المسلمون الذين اضطرتهم الحروب وتداعيات الصراع للفرار من مساكنهم والنجاة بأنفسهم تاركين خلفهم كل ما يملكون وأحلامًا كانوا ينتظرون.
أطفالٌ فاضت أرواحهم بسبب البرد القارس ونقص الرعاية الطبية، تحذيراتٌ توالت من فرق الخدمات الطبية، نداءاتُ استغاثة كثيرة تتزاحم في فضاء الإنسانية، كل هذا لم يكن كافيًا لنجدة هؤلاء المستضعفين في الأرض.
الآلاف من اللاجئين اليوم، يتطلعون لمن يرمقهم ولو بإطلالة خاطفة، أو يرسل لهم معونة ولو بسيطة جامدة. ليس فقط في أرض الشام بل في كل أرض مسلمة تعيش الاستضعاف والحرب.
ولنا أن نتأمل إلى أي درجة أضحى حالهم مزريا، حين نسمع عن الناشطين في مجال الإغاثة يعبّرون عن صدمتهم مما رأوه من بؤس هؤلاء لم يسمعوا عنه من قبل رغم خبرتهم الطويلة في رصد نداءات الاستغاثة الإنسانية.
ثم تقرع مسامعنا الأخبار المرعبة، كخبر حرق نازحة سورية نفسها وأطفالها الثلاثة في مخيم الركبان، لأنها يئست من تأمين الطعام لعائلتها منذ أيام. ليكون الخبر توثيقا آخر لحقيقة الخذلان. ولولا تداركها الجيران لكانت اليوم وذريتها في خبر كان.
في حين ينام بعض بني جلدتنا ببطون متخمة من أصناف الأطعمة وألوان الملذات. وآخرون يرمون في المزابل ما تبقى من طعام بعد حالة من الإسراف مؤسفة، فأي حال آلت له أمتنا المسلمة!
ولا زالت أرقام اللاجئين في ازدياد، ولا نرى في الأفق ما يحسم مصيرهم، فرحى الصراع لا تميز المستضعفين، والبحث عن الأمن والاستقرار أضحى مطلبًا عزيزا ليس سهل المنال.
ويزيد الطين بلة ما نشاهده من درجة الضعف التي نالت من يد الإغاثة الإسلامية التي لا تكاد تذكر في ساحات النوازل والمصائب التي حلت بديار المسلمين.
وإن الإنسان ليشعر بالحرقة، حين يرى بعض مؤسسات الغرب الإنسانية تقدم المعونة لإخواننا في حين تصرف أموالنا على الكماليات في حياتنا الدنيا ونعجز عن مساندة مشاريع إغاثية لنجدة المستضعفين أو إقامة خطط لإيصال المساعدات لهم.
نعم فإن الحاجة لبناء مؤسسات إغاثية إسلامية أضحى شديد الإلحاح، في كل يوم، ولا يلزم هذا المشروع إلا تعاضد المسلمين وتكافلهم، والانطلاق من جمعيات ولو كانت في البداية مجرد وحدات بسيطة لجمع ما زاد عن الحاجة في بيوت المسلمين، ولا أخاله أمرًا صعبا، فقد رأينا الغرب يبرعون في جمع التبرعات ويتسابقون لوضع ما يزيد عن حاجتهم في خدمة من هو بأمس حاجة له وقد استقوا هذا المفهوم في التعاضد من ديننا وتاريخنا المجيد، فقد كنا أول من حفر مفهومه بين حضارات البشر وكنا للأسف أول من تخلى عنه اليوم!
ولم يخلو تاريخ المسلمين من مواقف ضعف وحاجة، ونوازل وفاقة، ولكنه ازدان بروعة التعاضد ورقيّ التكاتف، ورونق العطاء الإسلامي والتسابق في سبيل حفظ حياة المسلمين طيّبة آمنة، فقد ضرب القحط في عام الرمادة بلاد الإسلام حتى فتك بالكثير منهم، وكان أمير المؤمين عمر الفاروق رضي الله عنه حينها يحمل همّ هذه الأمة كأصدق ما يكون، فمنع عن نفسه الزاد حتى تغير لونه ووصفه. قَالَ أنس رضي الله عنه : تقرقر بطن عمر من أكل الزَّيْت عَام الرَّمَادَة وَكَانَ قد حرم على نَفسه السّمن فَنقرَ بَطْنه بِأُصْبُعِهِ وَقَالَ إِنَّه لَيْسَ عندنَا غَيره حَتَّى يحيا النَّاس، وَمن ثمَّ تغير لَونه فِي هَذَا الْعَام حَتَّى صَار آدم". وكان ذلك في السنة السابعة عشرة للهجرة.
ونحن لا نطالب بأن تقرقر البطون من أكل الزيت بل نطالب بحد أدنى من شعور المسؤولية والتحرك في تبرئة الذمة من المساءلة يوم القيامة (بأي ذنب قتلت).
ثم نحن أمة ربيت على مفاهيم ذم البخل، وكثرة السخاء والكرم والجود، وبذل المال والصدقات والزكوات، ومواساة الإِخوان في كل الأحوال؛ وهذا هو مفهوم التعاضد في نصرة الدِّين، ذلك الدين الذي يجزي حتى من يدخل مجرد سرور على قلب مسلم الأجر الكبير، فكيف بمن يقضي حاجته أو يرفع عنه همّا وفاقة.
لَا يَسْأَلُونَ أَخَاهُمْ حِينَ يَنْدُبُهُمْ ... فِي النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
وقال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، ولا شك أن هذا المفهوم في الآية الكريمة أكثر وجوبا في أيام المحن التي يمر بها المسلمون، واليوم نشاهد مجتمعات برمتها حوصرت وهجّرت وشرّدت، لا حول لها ولا قوة إلا بالله. في فلسطين وسوريا والعراق واليمن والصومال ومينمار وكل مخيمات اللاجئين في بلاد الإسلام.
فكيف نبقى في مقاعد المتفرجين وفي دفئ البيوت وسكون الضمير، في حين يمكننا المساهمة ولو بتبرع مادي صغير قد يرسم البهجة على قلوب يئست من تلبية نداءات استغاثتها.
وإني لأعجب للأغنياء من المسلمين وأصحاب الأموال والأملاك، من يعيش منكفئًا على هموم دنياه ولا يجعل لآخرته نصيبًا من البذل، فوالله إن فتح مشروع لإغاثة المسلمين من بين ما يديره الغني من أعمال، لهو أجدى له ومجلبة للبركة والتيسير والرزق لو كانوا يفقهون. وما نقص مال من صدقة.
ولقد رأينا الغرب على كفره، يعرض نماذج للمسابقة بالإنفاق في سبيل حيوان! أو سبيل نبتة خشية الانقراض، ونحن نرى أمة كاملة منا تكاد تباد ولا زلنا نشاهد بعين من لا يعنيه الأمر كثيرًا.
وللإنصاف فقد رأينا كيف جمع المسلمون في مناسبات شتى لإخوانهم في بعض محطات الحروب والفاقات، وكان الجمع مبهرًا، ومواقف المسابقة للإنفاق تذرف لها المقل الدموع.
ذلك أن في هذه الأمة نماذج من المحبة للدين والخدمة له، يعجز القلم عن وصفها، ولكننا بحاجة أكثر لإدارة وتنظيم لحفظ هذا العطاء من التوظيف البشع من قبل من أصابه مرض الجشع والخيانة، أو لإحراز أفضل كفاءة وأروع أمانة في إيصال هذه المساعدات لمن هو بحاجة لها. وفي الواقع نحن بحاجة لكل قوي أمين.
لا يحتاج الأمر لأكثر من نية صادقة، وعزم حديدي، وإقدام بلا تسويف، وتحريض على شغل الأوقات والأذهان بعمل صالح ينفع اللاجئين. ثم تفعيل لقضاياهم في منابر الدعاة ومنصات الناشطين حتى لا نغفل أو نستهين، ثم لتكون قضية اللاجئين سببا في وحدتنا.
فإن لم تجمعنا المصائب والنوازل والأحزان التي تمر بها أمتنا المسلمة فكيف نطمع أن تجمعنا الأفراح ومشاهد النصر والتمكين التي تنتظرها هذه الأمة بوعد من الله حق!
لا يخفى على مسلم عاقل آفاق هذا المشروع، ولا أخال ما تخفيه قابل الأيام، إلا مزيد اضطراب في عالم يوشك على الانفجار، فهلم نُعدّ ونُؤسس ونُقوي لبنات مشاريع الإغاثة مع الصادقين، قبل أن نقول قد فات الأوان فقد وصلنا بعض لهيب التفريط والاستهانة بحقوق أخوة الإسلام فنالنا ما نالهم، جزاء وفاق!