ضوابط العزلة والخلطة

ضوابط العزلة والخلطة

 

  الحمد لله والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً . أما بعد:

فإن العُزلة موجودة منذ عهد الرِّسالات،بَيْد أن الرسل والأنبياء أنفسهم عليهم الصلاة والسلام لما رأوا تكذيب قومهم لهم، واستمرارهم على كفرهم، وعدم الانقياد لطاعة ربهم، اعتزلوهم ومايعبدون من دون الله عزوجل، فحَاق بقومهم ماكانوا به يستهزؤون، وحل بساحتهم العذاب الهُون.

 

 قال تعالى:" فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا"، (مريم:49)

وقال موسى عليه السلام:"وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ"، (الدخان :21)

ولقد جاء في خبر من قبلنا أنهم ترهبنوا، فكانوا يفرون إلى الجبال والصحاري ليخلصوا من الفتنة في دينهم، فيقطعون أنفسهم عن مخالطة الناس، وعن الزواج والنسل.

 ولقد بقيت من العزلة بقايا في شرعنا، وجاءت بها نصوص وآثار، وجاءت بضدها نصوص أيضا وآثار، فكان أن تنازعهما طرفان من أهل العلم- رحمهم الله-، فبين مستحب لها على المخالطة، وبين مستحب للمخالطة على العزلة، والأمر لابد له من ضابط وإلا خرج عن حد الشرع، فبعض الصالحين قد يدفعه يأسه من عدم قدرته على التغيير إلى اعتزال أهل الباطل ولو كانوا من قرابته وإن كان يستطيع أن يغير من واقع من حوله وهدايتهم لكن مع شيء من الجهد والتعب فأحببت هنا بيان أحكام و ضوابط العزلة والخلطة الشرعية.

 العزلة - بالضم - في اللغة : "تَعَاَزَلَ القومُ انْعَزَلَ بَعْضُهم عن بَعَض والعُزْلةُ الانْعِزال نفسُه يقال العُزْلةُ عِبادة وكُنْتُ بمَعْزِلٍ عن كذا وكذا أَي كُنْتُ بموْضع عُزْلةٍ منه واعْتَزَلْتُ القومَ أَي فارَقْتهم وتَنَحَّيت عنهم "[1].

وفي الاصطلاح: "هي الخروج عن مخالطة الخلق بالانزواء والانقطاع" [2].

ونقصد بحديثنا عن العزلة هنا العزلة الدينية عزلة عن الشرِّ وفضولِ المباحِ ، وهي ممّا يشرحُ الخاطر ويُذهبُ الحزن وهي الواردة في الأثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه :"خذوا حظكم من العزلة".وقال "العزلة راحة من خليط السوء"[3].

 والحظ النصيب، فكأنه يقول لكل مسلم نصيب في العزلة فليأخذ نصيبه منها ولا يفرط فيه، فعندما يخلو الإنسان بنفسه يراجعها ويحاسبها وفي ذلك سبيل لإصلاحها.

 "ونسب إلى محمد بن سيرين و سعيد بن المسيب قولهما: "العزلة عبادة." وذكر عبد الله بن حبيق قال قال لي يوسف بن أسباط قال لي سفيان الثوري وهو يطوف حول الكعبة والذي لا إله إلا هو لقد حلت العزلة وقال بعض الحكماء الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت والعاشرة عزلة الناس قال وعالجت نفسي على الصمت فلم أظفر به فرأيت أن العاشرة خير الأجزاء وهي عزلة الناس.

 قال أبو عمر- ابن عبد البر: وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك وإن كنت بين ظهرانيهم ذكر ابن المبارك قال حدثنا وهيب بن الورد قال جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال إن الناس قد وقعوا فيما فيه وقعوا وقد حدثت نفسي أن لا أخالطهم فقال لا تفعل إنه لا بد لك من الناس ولا بد لهم منك ولك إليهم حوائج ولهم إليك حوائج ولكن كن فيهم أصم سميعا أعمى بصيرا سكوتا نطوقا وقال ابن المبارك في تفسير العزلة أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت"[4].

وهذ الذي نقله ابن عبد البر عن وهب وابن المبارك هي المفاصلة والعزلة الشعورية التي تحدث عنها سيد قطب رحمه الله و أسيء فهمها وهو الإحساس بعدم الانسجام، مع هذا النسق الاجتماعي، أو ذلك النظام الأخلاقي، والاختلاف مع هذا المجتمع في مسائل جوهرية وهو يعني بالضرورة عزلة شعورية، تشعرنا أننا لا ننتمي لذلك المجتمع، (ثقافيًا وأخلاقيًا). لكننا في الوقت نفسه نتفاعل مع مؤسساته التعليمية والاقتصادية، والسياسية كذلك .

 كما أننا نتمنى في الوقت نفسه، صلاحه وهداية أفراده، للحق الذي لدينا. هكذا ينبغي أن تُفهم العزلة الشعورية . أما الذين فهموا (العزلة الشعورية).. إن وجدوا، على أنها إنزواء وهجر للمجتمع، وقطيعة مع أفراده، فهذه مشكلتهم في الفهم، وتعبيرًا عن طبيعة شخصياتهم، التي لا تمثل بالضرورة إلا نفسها. لقد ساعد مفهوم العزلة الشعورية، الكثير منا أن يحافظ على كيانه متزنًا، وعلى قناعته سليمة، في معظم فترات حياتهم. ولم يمنعهم ذلك، أن يتفاعلوا مع البيئات التي وجدوا أنفسهم فيها. إن مفهوم العزلة الشعورية ، بعبارة أخري، هو نفسه .. أن يتمعر وجهك، لحد من حدود الله ينتهك. وهو نفسه أن تكره أن تعود إلي الكفر، بعد أن هداك الله للإسلام، مثلما تكره أن تلقي في النار. وهو نفسه الولاء لأهل التوحيد، والبراء من أهل الشرك، حتى وأنت تعيش بين ظهرانيهم، وتتعامل معهم، وتأكل من طعامهم.

 ونقل ابن حجر والعيني عن قوم : تفضيل العزلة، لكن يشترط أن يكون عارفا بوظائف العبادة التي تلزمه وما يكلف به، لما فيها من السلامة المحققة وذلك عند ظهور الفتن وفساد الناس، إلا أن يكون الإنسان له قدرة على إزالة الفتنة، فإنه يجب عليه السعي في إزالتها بحسب الحال والإمكان.

 قال الكرماني: المختار في عصرنا تفضيل الانعزال لندرة خلو المحافل عن المعاصي[5] ، واحتجوا بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا"،(سورة مريم :48 ). وبحديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما النجاة قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك[6].

 وقال ابن عبد البر في الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم" ألا أخبركم بخير الناس منزلا رجل آخذ بعنان فرسه يجاهد في سبيل الله ألا أخبركم بخير الناس منزلة بعده رجل معتزل في غنيمة له يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد الله لا يشرك به شيئا" "وأما قوله "خير الناس بعده رجل معتزل في غنيمة له" ففي ذلك حض على الانفراد عن الناس واعتزالهم والفرار عنهم  وقد فضلها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ترى وفضلها جماعة العلماء والحكماء لا سيما في زمن الفتن وفساد الناس وقد يكون الاعتزال عن الناس مرة في الجبال والشعاب ومرة في السواحل والرباط ومرة في البيوت وقد جاء في غير هذا الحديث إذا كانت الفتنة فاخف مكانك وكف لسانك ولم يخص موضعا من موضع.." [7].

قال النووي:" قوله صلى الله عليه و سلم ( ثم مؤمن فى شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره ) فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط وفى ذلك خلاف مشهور فمذهب الشافعى وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال فى زمن الفتن والحروب أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم أو نحو ذلك من الخصوص وقد كانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى وحلق الذكر وغير ذلك.."[8].

وأما في غير الفتن فقد اختلف العلماء في المفاضلة بين العزلة والخلطة:

فذهب إلى اختيار العزلة، وتفضيلها على المخالطة: سفيان الثوري، وإبراهيم بن أدهم، وداود الطائي، والفضيل بن عياض، وسليمان الخواص، ويوسف بن أسباط، وحذيفة المرعشي، وبشر الحافي.

وذهب إلي فضل المخالطة:سعيد بن المسيب، والشَّعبي، وابن أبي ليلى، وهشام بن عروة، وابن شبرمة، وشُريح القاضي، وشريك بن عبد الله، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد ابن جنبل، وجماعة.

 والصواب أن يقال أنه لا يمكن التفريق بينهما ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر، فلكل منهما أثر على المجتمع والفرد في تربية النفس.

 وقال ابن حجر نقلاً عن الخطابي: " أن العزلة والاختلاط يختلفان باختلاف متعلقاتهما ، فتحمل الأدلة الواردة في الحض على الاجتماع على ما يتعلق بطاعة الأئمة وأمور الدين وعكسها في عكسه وأما الاجتماع والافتراق بالأبدان فمن عرف الاكتفاء بنفسه في حق معاشه ومحافظة دينه فالأولى له الانكفاف عن مخالطة الناس بشرط أن يحافظ على الجماعة والسلام والرد وحقوق المسلمين من العيادة وشهود الجنازة ونحو ذلك والمطلوب إنما هو ترك فضول الصحبة ، لما في ذلك من شغل البال وتضييع الوقت عن المهمات ويجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلى الغداء والعشاء ، فيقتصر منه على ما لا بد له منه فهو روح البدن والقلب. اهـ[9]

 وقال الغزالي: "إن وجدت جليسا يذكرك الله رؤيته وسيرته فالزمه ولا تفارقه ، واغتنمه ولا تستحقره ، فإنها غنيمة المؤمن وضالة المؤمن، وتحقق أن الجليس الصالح خير من الوحدة، وأن الوحدة خير من الجليس السوء[10].

 وقال النووي : اعلم أن الاختلاط بالناس على الوجه الذي ذكرته - أي من شهود خيرهم دون شرهم ، وسلامتهم من شره - هو المختار الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وكذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء المسلمين وأخيارهم، وهو مذهب أكثر التابعين ومن بعدهم ، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر الفقهاء رضي الله عنهم أجمعين[11].

 بيان بعض النصوص الشرعية في العزلة  والخلطة وبعض اقوال اهل العلم في ذلك:

قال عز وجلّ:" إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" (الكهف:10).

قال القرطبي: "هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة وقد خرج النبي صلى الله عليه و سلم فارا بدينه وكذلك أصحاب..

قال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب مرة في السواحل والرباط ومرة في البيوت وقد جاء في الخبر: "إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك " ولم يخص موضعا من موضع وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزل الشر وأهله بقلبك وعملك وإن كنت بين أظهرهم وقال ابن المبارك في تفسير العزلة : أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت.اهـ[12]

 قال ابن كثير:

"وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه، كما جاء في الحديث: "يوشك أن يكون خيرُ مال أحدكم غنمًا يتبع بها شغف الجبال ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن" ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع."اهـ[13].

قال البخاري في صحيحه كتاب الفتن _ باب التعرب فى الفتنة _:

حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبى صعصعة عن أبيه عن أبى سعيد الخدرى - رضى الله عنه - أنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم ، يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن ".

قال ابن حجر:

" والخبر دال على فضيلة العزلة لمن خاف على دينه وقد اختلف السلف في أصل العزلة فقال الجمهور الاختلاط أولى لما فيه من اكتساب الفوائد الدينية للقيام بشعائر الإسلام وتكثير سواد المسلمين وإيصال أنواع الخير إليهم من إعانة وإغاثة وعيادة وغير ذلك.

 وقال قوم: العزلة أولى لتحقق السلامة بشرط معرفة ما يتعين وقد مضى طرف من ذلك في باب العزلة من كتاب الرقاق.

 قال النووي: المختار تفضيل المخالطة لمن لا يغلب على ظنه أنه يقع في معصية فإن أشكل الأمر فالعزلة أولى.

وقال غيره: يختلف باختلاف الأشخاص فمنهم من يتحتم عليه أحد الأمرين ومنهم من يترجح وليس الكلام فيه بل إذا تساويا فيختلف باختلاف الأحوال فان تعارضا اختلف باختلاف الأوقات فمن يتحتم عليه المخالطة من كانت له قدرة على إزالة المنكر فيجب عليه إما عينا وإما كفاية بحسب الحال والإمكان وممن يترجح من يغلب على ظنه أنه يسلم في نفسه إذا قام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وممن يستوي من يأمن على نفسه ولكنه يتحقق أنه لا يطاع وهذا حيث لا يكون هناك فتنة عامة فان وقعت الفتنة ترجحت العزلة لما ينشأ فيها غالبا من الوقوع في المحذور وقد تقع العقوبة بأصحاب الفتنة فتعم من ليس من أهلها كما قال تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" ويؤيد التفصيل المذكور حديث أبي سعيد أيضا "خير الناس رجل جاهد بنفسه وماله ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره"

 وقد تقدم في باب العزلة من كتاب الرقاق حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه آنفا فإن أوله عند مسلم" خير معاشر الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله.." الحديث وفيه "ورجل في غنيمة.." الحديث وكأنه ورد في أي الكسب أطيب فإن أخذ على عمومه دل على فضيلة العزلة لمن لا يتأتي له الجهاد في سبيل الله إلا إن يكون قيد بزمان وقوع الفتن والله أعلم" [14] اهـ

 وذكر البخاري عن أبي سعيد الخدري قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال :" رجل جاهد بنفسه وماله ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره ".

" قوله :"ورجل في شعب من الشعاب..." الخ هو محمول على من لا يقدر على الجهاد فيستحب في حقه العزلة ليسلم ويسلم غيره منه والذي يظهر انه محمول على ما بعد عصر النبي صلى الله عليه و سلم ." اهـ

 وقال أيضا:

" ولفظه هنا صريح في أن المراد بخيرية العزلة أن تقع في آخر الزمان وأما زمنه صلى الله عليه و سلم فكان الجهاد فيه مطلوبا حتى كان يجب على الأعيان إذا خرج الرسول صلى الله عليه و سلم غازيا أن يخرج معه إلا من كان معذورا وأما من بعده فيختلف ذلك باختلاف الأحوال." [15] اهـ

 لذلك نبه العلماء على ضرورة أخذ قسط من العلم الشرعي الواجب تعلمه على المكلف قبل الاعتزال.

قال الخطابي رحمه الله " قال أبو سليمان فالعزلة إنما تنفع العلماء العقلاء وهي من أضر شيء على الجهال وقد روينا عن إبراهيم ، أنه قال لمغيرة : تفقه ثم اعتزل." [16].

قال ابن قدامة المقدسي:

"فأما من تعلم الفرض ورأى أنه لا يتأتى منه الخوض في العلوم، ورأى الاشتغال بالعبادة، فليعتزل.وإن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران.ولهذا قال الربيع بن خثيم: تفقه ثم اعتزل، والعلم أصل الدين، ولا خير في عزلة العوام . سئل بعض العلماء : ما تقول في عزلة الجاهل ؟ فقال : خبال ووبال، فقيل له: فالعالم ؟ فقال : مالك ولها، دعها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها ."[17] اهـ

 وقال القاسمي: " وبالجملة فلا تستحب العزلة إلا لمستغرق الأوقات في علم بحيث لو خالطه الناس لضاعت أوقاته أو كثرت آفاته ." [18] اهـ

 قال شيخ الإسلام  ابن تيمية:

" فأما الخلوة والعزلة والانفراد المشروع فهو ما كان مأمورا به أمر إيجاب أو استحباب.

 فالأول:

 كاعتزال الأمور المحرمة ومجانبتها كما قال تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } ومنه قوله تعالى عن الخليل: { فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا } وقوله عن أهل الكهف: { وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف } فإن أولئك لم يكونوا في مكان فيه جمعة ولا جماعة ولا من يأمر بشرع نبي فلهذا أووا إلى الكهف وقد قال موسى: { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } . وأما اعتزال الناس في فضول المباحات وما لا ينفع وذلك بالزهد فيه فهو مستحب وقد قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيه بصره وسمعه. وإذا أراد الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة فهذا حق كما في الصحيحين: { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الناس أفضل ؟ قال : رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعة طار إليها يتتبع الموت مظانه ، ورجل معتزل في شعب من الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس إلا من خير } [19].اهـ

وقال أيضا:

" فحقيقة الأمر : أن " الخلطة " تارة تكون واجبة أو مستحبة والشخص الواحد قد يكون مأمورا بالمخالطة تارة وبالانفراد تارة . وجماع ذلك : أن " المخالطة "  إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات: كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله . وكذلك الاختلاط بهم في الحج وفي غزو الكفار والخوارج المارقين وإن كان أئمة ذلك فجارا وإن كان في تلك الجماعات فجار وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانا: إما لانتفاعه به وإما لنفعه له ونحو ذلك.  ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه  وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه؛ إما في بيته، كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه ، وإما في غير بيته. فاختيار المخالطة مطلقا خطأ واختيار الانفراد مطلقا خطأ.

وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا وما هو الأصلح له في كل حال فهذا يحتاج إلى نظر خاص [20]. "اهـ

قال ابن القيم في بيان قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز به منه وأن من أسباب دخول الشيطان على ابن آدم فضول المخالطة: " ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.

 أحدها:

من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم العلماء بالله تعالى وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله .

 القسم الثاني:

من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من

 القسم الثالث:

وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد من أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربا عليك فإذا فارقك سكن الألم ومنهم من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: "ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر" ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله وقد ضعف القوى عن حمله فالتفت إلي وقال: "مجالسة الثقيل حمى الربع ثم قال: لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة" أو كما قال وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا.

 القسم الرابع:

من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم فإن اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها" [21] اهـ

وقال الملا علي القاري:

" والمختار هو التوسط بين الغزلة عن أكثر الناس وعوامهم ، والخلطة بالصالحين والإجتماع مع عامتهم في نحو جمعهم وجماعاتهم." [22] اهـ

وقال الخطابي:

" ولسنا نريد، رحمك الله ، بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات وترك حقوقهم في العبادات وإفشاء السلام ورد التحيات وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم ووضائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم فإنها مستثناة بشرائطها جارية على سبلها ما لم يحل دونها حائل شغل ولا يمنع عنها مانع عذر، إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة ونبذ الزيادة منها وحط العلاوة التي لا حاجة بك."[23] اهـ

 وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين:

"ولكن لا يعني ذلك أن الإنسان إذا أعطاه الله علما أن يتقوقع في بيته ولا يعلم الناس، هذا يعارض التقي فتعليمه الناس خير من كونه يقبع في بيته ولا ينفع أحدا بعلمه أو يقعد في بيته ولا ينفع الناس بماله .

لكن إذا دار الأمر بين أن يلمع نفسه ويظهر نفسه ويبين نفسه، وبين أن يخفيها، فحينئذ يختار الخفاء، أما إذا كان لابد من إظهار نفسه فلابد أن يظهرها وذلك عن طريق نشر علمه في الناس وإقامة دروس العلم وحلقاته في كل مكان، وكذلك عن طريق الخطابة في يوم الجمعة والعيد وغير ذلك، فهذا مما يحبه الله عز وجل ." [24] اهـ

وقال عبد الكريم الخضير _ حفظه الله _في أحد دروسه:

" العزلة والخلطة جاءت النصوص بهذا وهذا، النصوص الصحيحة جاءت بالخلطة مخالطة الناس، ونفع الناس، والصبر على آذاهم، وشرعت الجمع والجماعات والأعياد والحج، كل هذا من أجل الخلطة وهي الأصل؛ لكن إذا خشي الإنسان على دينه؛ فالسلامة لا يعدلها شيء، (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن) فبعض الناس المتجه في حقه المخالطة، وبعض الناس المتجه في حقه العزلة، والشراح من القرن الثامن، وهم يقولون: والمتعين في هذه الأزمان العزلة! لاستحالة خلو المحافل من المنكرات، يعني مجتمعات الناس ما تسلم فكيف بهم لو رأوا زمننا هذا؟!" اهـ

 وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في شرحه  لحديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :" يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال مواقع القطر يفر بدينه من الفتن "

"واعلم أن الأفضل هو المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم هذا أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، ولكن أحيانا تحصل أمور تكون العزلة فيها خيرا من الاختلاط بالناس، من ذلك إذا خاف الإنسان على نفسه فتنة مثل أن يكون في بلد يطالب فيها بأن ينحرف عن دينه أو يدعو إلى بدعة أو يرى الفسوق الكثير فيها، أو يخشى على نفسه من الفواحش، فهنا تكون العزلة خيرا له .

 ولهذا أمر الإنسان أن يهاجر من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، ومن بلد الفسوق إلى بلد الاستقامة فكذلك إذا تغير الناس والزمان، ولهذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن فهذا هو التقسيم تكون العزلة هي الخير إن كان في الاختلاط شر وفتنة في الدين، وإلا فالأفضل أن الاختلاط هو الخير، يختلط الإنسان مع الناس فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يدعو إلى حق، يبين السنة للناس فهذا خير .

 لكن إذا عجز عن الصبر وكثرت الفتن، فالعزلة خير ولو أن يعبد الله على رأس جبل أو في قعر واد." [25] اهـ

واحتج القائلون بأفضلية المخالطة : بأن الله سبحانه وتعالى أمر بالاجتماع ، وحض عليه ، ونهى عن الافتراق وحذر منه، فقال تعالى ذكره:" واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا"، (سورة آل عمران: 103 ). وأعظم المنة على المسلمين في جمع الكلمة وتأليف القلوب منهم فقال عز وجل : " وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم "،(سورة الأنفال : 63 ) وقال سبحانه وتعالى: " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " (سورة آل عمران: 105)، [26]  واحتجوا بأحاديث نبوية منها : ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنه قال قال  رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" . [27]

قالوا : إن المخالطة فيها اكتساب الفوائد ، وشهود شعائر الإسلام ، وتكثير سواد المسلمين ، وإيصال الخير إليهم ولو بعيادة المرضى ، وتشييع الجنائز ، وإفشاء السلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتعاون على البر والتقوى ، وإعانة المحتاج، وحضور جماعاتهم، وغير ذلك مما يقدر عليه كل أحد[28].

 من خلال عرض أقوال العلماء في العزلة والخلطة يمكن أن نستخرج جملة من الفوائد في باب العزلة والخلطة:

فوائد العزلة:

 الفائدة الأولى:

تقوية الصلة بالله عز وجل وهذا أهم الجوانب وآكدها، فكل مابعده إنما هو ثمرة ونتيجة له، ومن وسائل تحقيق ذلك: عناية الإنسان بالفرائض واجتناب المعاصي، ومحاسبة النفس على ذلك ومبادرتها بالعلاج حين التقصير، وبعد ذلك استزادته من النوافل كنوافل الصلاة، ونوافل الصدقة والصيام والتلاوة والذكر.

 الفائدة الثانية:

التفرغ للفكر والاستئناس بمناجاة الله تعالى عن مناجاة الخلق فإن ذلك يستدعى فراغاً، ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إلى ذلك خصوصاً في البداية. قال أويس القرني رضى الله عنه: ما كنت أرى أن أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره، ومن تيسر له بدوام الذكر الأنس بالله، أو بدوام الفكر تحقيق معرفة الله، فالتجرد لذلك أفضل من كل ما يتعلق بالمخالطة.

 ويتضح هذا جليا في الحث على قيام الليل والناس نيام والحث على صلاة المرء في بيته عدا المكتوبة . ومن الأمثلة في ذلك قصة أصحاب الكهف الذين اعتزلوا قومهم فرارا بدينهم وتفرغا لعبادة الله، قال تعالى : " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا "،( الكهف : 16). وكذلك اعتزال أهل الفسق والباطل ومفاصلتهم وخاصة أثناء مقارفتهم للمعاصي والمنكرات كي يسلم المرء من أذاهم وباطلهم كما قال إبراهيم عليه السلام لقومه : " وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا "،( مريم : 48).

 قيل لبعض الحكماء ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة فقال يستدعون بذلك دوام الفكرة وتثبيت العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة ويذوقوا حلاوة المعرفة. وقيل لبعضهم : ما أصبرك على الوحدة . فقال : ما أنا وحدي . أنا جليسي الله تعالى إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت، وقال الفضيل: إذا رأيت الليل مقبلا فرحت وقلت: أخلو بربي ، وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لقاء الناس وأن يجيئني من يشغلني عن ربي

 الفائدة الثالثة:

الابتعاد بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالبًا بالمخالطة، ويسلم منها في الخلوة، مثل: الغيبة، والنميمة، والرياء، والتزين للناس، ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة، والأعمال الخبيثة التي يوجبها الحرص على الدنيا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تجد من شرار الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه .[29]

وقال الخطابي : ولو لم يكن في العزلة إلا السلامة من آفة الرياء والتصنع للناس وما يدفع إليه الناس إذا كان فيهم من استعمال المداهنة معهم والخداع المواربة في رضاهم لكان في ذلك ما يرغب في العزلة ويحرك إليها. [30].

الفائدة الرابعة:

الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين والنفس عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها، وقلما تخلو البلاد عن تعصبات وفتن وخصومات، فالمعتزل عنهم في سلامة منها وقد روى ابن عمر رضى الله عنه، أن النبى صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الفتن، ووصفها وقال: "إذا رأيت الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم، وكانوا هكذا " وشبك بين أصابعه، فقمت إليه فقلت : كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك ؟ فقال : " الزم بيتك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة، نفسك ودع عنك أمر العامة " [31].

ويتأكد اعتزال الناس حينما تظهر الفتن برؤوسها ، قال صلى الله عليه وسلم : إن بين أيديكم فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي . قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : كونوا أحلاس بيوتكم [32].

فيتعين على الإنسان الاعتزال وذلك عندما لا يكون هناك فائدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس من المستطاع الاحتفاظ بالمبادئ والقيم ويكون في هذه الحالة من الأولى التزام البيوت سلامة للدين وحفظا للذات من الانسلاخ .

 الفائدة الخامسة:

السلامة من شرور الناس وحسدهم ، فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة، ومرة بالنميمة، ومرة بسوء الظن، ومرة بالتهمة، ومرة بالأطماع الكاذبة، ومن خالط الناس لم ينفك من حاسد وعدو، وغير ذلك من أنواع الشر التي يلقاها الإنسان من معارفه، وفى العزلة خلاص من ذلك، وبالجملة أن ينقطعَ الناسُ عنك ، وينقطع طمعك عن الناس .

وهذه الفائدة متحصلة في كل حال من اعتزال الناس. قال تعالى: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى " ( طه : 131 ).

وقال صلى الله عليه وسلم : انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله [33].

كما قال بعضهم :

عدوك من صديقك مستفاد      فلا تستكثرن من الصحاب

فإن الداء أكثر ما تراه              يكون من الطعام أو الشراب

وقال عمر رضى الله عنه : في العزلة راحة من خلطاء السوء [34].

 وقال إبراهيم بن أدهم : لا تتعرف إلى من لا تعرف، وأنكر من تعرف .

 وقال رجل لأخيه : أصحبك إلى الحج ؟ فقال : دعنا نعش فى ستر الله، فإنا نخاف أن يرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه . وهذه فائدة أخرى في العزلة، وهى بقاء الستر على الدين والمروءة وسائر العورات.

 بل إنها تعين المرء على عدم حب الاشتهار والظهور بين الناس[35].

 وبالجملة فالعزلة استثمارُ العقلِ ، وقطْفُ جَنَى الفكرِ ، وراحةُ القلبِ ، وسلامةُ العرْض ، وموفورُ الأجرِ ، والنهيُ عن المنكر ، واغتنامُ الأنفاسِ في الطاعةِ ، وتذكُّرُ الرحيمِ ، وهجرُ الملهياتِ والمشغلاتِ ، والفرارُ من الفتنِ ، والبعدُ عن مداراةِ العدوِّ ، وشماتةِ الحاقدِ ، ونظراتِ الحاسدِ ، ومماطلةِ الثقيلِ ، والاعتذارِ على المعاتِبِ ، ومطالبةِ الحقوقِ ، ومداجاةِ المتكبِّرِ ، والصبرِ على الأحمقِ .

 وفي العزلةِ سَتْرٌ للعوراتِ : عوراتِ اللسانِ ، وعثراتِ الحركاتِ ، وفلتاتِ الذهنِ ، ورعونةِ النفسِ .

 فالعزلةُ حجابٌ لوجهِ المحاسنِ ، وصدَفٌ لدُرِّ الفضلِ ، وأكمامٌ لطلْع المناقبِ ، وما أحسن العزلةَ مع الكتابِ ، وفرةً للعمرِ ، وفسحةً للأجلِ ، وبحبوحةً في الخلوةِ ، وسفراً في طاعةِ ، وسياحةً في تأمُّلٍ .

 وفي العزلةِ تحرصُ على المعاني ، وتحوزُ على اللطائفِ ، وتتأملُ في المقاصدِ ، وتبني صرح الرأيِ ، وتشيدُ هيْكلَ العقلِ .

 والروحُ في العزلةِ في جَذلٍ ، والقلبُ في فَرَحٍ اكبرَ ، والخاطرُ في اصطيادِ الفوائدِ .

 ولا تٌرائي في العزلةِ : لأنهُ لا يراك إلا اللهُ ، ولا تُسمعِ بكلامِك بشراً فلا يسمعك إلا السميعُ البصيرُ .

 كلُّ اللامعين والنافعين ، والعباقرِة والجهابذةِ وأساطين الزمنِ ، وروَّادِ التاريخِ ، وشُداةِ الفضائلِ ، وعيونِ الدهرِ ، وكواكبِ المحافلِ ، كلُّهم سَقَوْا غَرْسَ نُبْلهم من ماءِ العزلةِ حتى استوى على سُوقِهِ ، فنبتتْ شجرةُ عظمتِهم ، فآتتْ أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها .

 قال أحمدُ بنُ خليلٍ الحنبليُّ:

مَنْ أراد العزَّ والراحةَ مِن همِّ طويلِ              ليكُنْ فرداً من الناسِ ويرضى بالقليلِ

كيف يصفو لامرئٍ ماعاش مِنْ عيشٍ وبِيلِ     بين غمزٍ مِنْ ختولٍ ومداجاةِ ثقيل ِ

ومداراةِ حسودٍ ومعاناةِ بخيلِ                      آهِ منْ معرفةِ الناسِ على كلِّ سبيـــلِ

وقال القاضي عليُّ بن عبدالعزيزِ الجرجانُّي:

ما تطعَّمتُ لذةَ العيشِ حتَّى صرتُ للبيتِ والكتابِ جليسا

ليس شيءٌ أعزّ من العلم فما أبتغي سواهُ أنيسا

إنَّما الذُّل في مخالطةِ الناسِ فدعْهُم وعِشْ عزيزاً رئيساً

وقال الحميدي المحدِّث:

لقاءُ الناسِ ليس يُفيدُ شيئاً         سوى الإكثارِ منْ قيلٍ وقالِ

فأقْلِلْ منْ لقاءِ الناسِ إلاَّ              لكسبِ العلمِ أو إصلاحِ حالِ

فوائد الخلطة:

 الفائدة الأولى:

 التعلم والتعليم، هناك علوماً لا يعذر المرء المسلم بجهلها وينبغي عليه أن يتعلمها وهذه غالبا لا يمكن تحصيلها بغير المخالطة. ووسائل تحصيله لا تخفى علينا إما من خلال الدراسة النظامية، أو من خلال مجالس العلم وحلقاته المقامة في المساجد، أو من خلال الأنشطة الشبابية حيث تقام فيها دروس علمية وحلقات علمية، أو من جانب البحث الفردي الذي يبذله صاحبه، من خلال القراءة والإطلاع، أو من خلال الاستماع للأشرطة العلمية والدروس العلمية .

كما يجب على من آتاه الله علما أو فقها ألا يكتمه ويحجر عليه ، بل الواجب مخالطة أفراد المجتمع لتعليمهم وإفادتهم.

 الفائدة الثانية:

 التأدب والتأديب،  وهاتان اللفظتان تحمل معنى أخص من التعلم والتعليم. فالتأدب كما قال الإمام الغزالي - رحمه الله - يعني : الارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم كسرا للنفس وقهرا للشهوات[36] .

والمقصود من ذلك ترويض النفس على التحلي بالأخلاق الفاضلة التي لا تظهر إلا بالاحتكاك مع الآخرين وكثرة التعامل معهم . ومن هذه الأخلاق التضحية والإيثار والتعاون والصفح عن الإساءة وغير ذلك.

أما التأديب فتعني ترويض الآخرين وتأديبهم وتهذيبهم. وهذا المقام يناسب حال المعلم مع طلابه والمربي مع مريديه أو العالم والشيخ مع أفراد مجتمعه، فيصبر على كثرة مخالطتهم وشغل أوقاته احتسابا لله ومتأسيا في ذلك بأحوال الدعاة الأوائل من سلف هذه الأمة الذين ندبوا أنفسهم وأوقاتهم في الدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير. قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين " ( يوسف : 108). وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" [37].

 الفائدة الثالثة:

 التربية على العمل ، إن الإنسان في حياته الخاصة حين يريد إتقان نشاط أو حرفة معينة، كالسباحة، أو قيادة السيارة - على سبيل المثال- حين يريد ذلك فإنه لايقتصر على الجانب النظري، وعلى سؤال من يجيدونها، بل يعتني بالتدريب والممارسة، والمهارات الدعوية كذلك فهي تُتقن من خلال التدريب والممارسة فحسن الإدارة والتدريس والخطابة كلها مهارات في حاجة للتدريب عليها.

الفائدة الرابعة:

نيل الثواب وترويح النفس،  ففي مخالطة الناس أداء بعض الفرائض والواجبات كحضور الجمع والجماعات وأداء الحقوق المفروضة بين المسلمين أنفسهم كعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وكذا حضور مجالس الذكر التي يباهي الله بها ملائكته، كما أن في اللقاء بالإخوان ترويحا للقلب وتهييجا لدواعي النشاط في العبادة والاستئناس بالمشاكلين والحديث معهم ولذا يوصي الإمام الغزالي في هذا المقام بوصية ثمينة فيقول: "وليحرص أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين وحكاية أحوال القلب وشكواه وقصوره عن الثبات على الحق والاهتداء إلى الرشد ففي ذلك متنفس ومتروح للنفس وفيه مجال رحب لكل مشغول بإصلاح نفسه فإنه لا تنقطع شكواه ولو عمر أعمارا طويلة ، والراضي عن نفسه مغرور قطعا" [38].

 وفي أداء الجمع والجماعات وحضور اجتماعات إخوانه المسلمين تحقيق للعبودية المطلقة للخالق، والنفس بطبعها تضعف وتفتر أحيانا ولكنها تقوى وتثبت عند مخالطة مثيلاتها ممن يسيرون على ذات المنهج.

 الفائدة الخامسة:

 معرفة الواقع المحيط بنا وكيد الأعداء، إن المسلم المعاصر يعيش في ظروف وملابسات تختلف عن تلك التي كان يعيشها إخوانه الذين سبقوه بالإيمان في العصور الماضية. فللباطل اليوم صولة وجولة ، والجاهلية المعاصرة تخطو خطوات حثيثة وبوسائل حديثة لإقصاء تيار التربية الإسلامية عن التغيير في مجريات الأحداث لتعبيد العباد لرب العباد في الوقت الذي بذلت فيه تلك الجاهلية قصارى جهودها وإمكانيتها لتعبيد العباد للشهوات والطواغيت. ولقد نجحت في ذلك إلى حد كبير.

 إن الإسلام اليوم لا يستقيم عموده فقط بدعاء شيخ في زوايا المسجد أو بإلقاء خطب رنانة جوفاء لا مكان لها في الواقع، ولا يستقيم كذلك بنشر تصريحات في الجرائد والمجلات بل لابد معرفة ورصد الخطط والمؤامرات التي يدبرها أولئك الأعداء ضد المسلمين عملا وتنفيذا لقوله تعالى: " وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين" (الأنعام : 55)

فلا يمكن لمسلم اليوم أن يعيش بمعزل عن البيئة والأحداث ولا يمكن أن ينجو من أحابيل شياطين الإنس والجن إن لم يكن يقظا فطنا لما يجري حوله وما يقع تحت بصره ويده من مستجدات وأمور، ومعرفة الواقع تشمل العناية والاهتمام بأحوال المسلمين في أرجاء المعمورة لقوله صلى الله عليه وسلم : "المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لما يصيب أهل الإيمان كما يألم الرأس لما يصيب الجسد " [39].  ولقوله صلى الله عليه وسلم من حديث النعمان بن بشير: "المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله وإن اشتكى عينه اشتكى كله" [40].

 إن دراسة الواقع وفهمه فهما جيدا من الأمور الهامة جدا في حياة المسلمين لأنها تتعلق ليس بالأفراد فحسب ولكن بالمجتمعات أيضا . وتعد مرحلة دراسة الواقع من المراحل المتقدمة المهمة في العودة بالإسلام عوداً حميداً

فالخلاصة فيما ذكر من فوائد العزلة والمخالطة أن لكل منهما حالات وأوقات ، وهي تختلف من شخص لآخر حسب وضعه الاجتماعي وعلمه وفقهه وحسب الباعث له على أي منهما.

 ضوابط العزلة:

 الضابط الأول:

أن يعتقد باعتزاله عن الخلق سلامة الناس من شره، ولا يقصد سلامته من شر الخلق، فإن الأول نتيجة استصغار نفسه، والثاني شهود مزيته على الخلق، ومن استصغر نفسه فهو متواضع ومن رأى لنفسه مزية على أحد فهو متكبر، وأن يكون خاليا من جميع الأذكار إلا ذكر ربه، خاليا من جميع الإرادات إلا رضا ربه، وخاليا من مطالبة النفس من جميع الأسباب، فإن لم يكن بهذه الصفة فإن خلوته توقعه في فتنة أو بلية [41] .

 الضابط الثاني:

أن يترك الخصال المذمومة ؛ لأن العزلة الحقيقية هي اعتزال الخصال المذمومة ، فالتأثير لتبديل الصفات لا للتنائي عن الأوطان [42]   ، وأن يأكل الحلال، ويقنع باليسير من المعيشة ، ويصبر على ما يلقاه من أذى الجيران ، ويسد سمعه عن الإصغاء إلى ما يقال فيه من ثناء عليه بالعزلة وليكن له أهل صالحة ، أو جليس صالح لتستريح نفسه إليه في اليوم ساعة من كد المواظبة ، ففيه عون على بقية الساعات وليكن كثير الذكر للموت ووحدة القبر.

 الضابط الثالث:

عدم المبالغة في العزلة لكي لا يقع في الحرام.

كذلك العزلة، فإذا بالغ الإنسان في العزلة يقع في الحرام، فيترك الجمعة والجماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء حقوق الأخوة، وزيارة الأقارب والجيران، وصلة الرحم، وبر الوالدين، وأداء الحقوق وما أشبه ذلك؛ فالعدل مطلوب في هذه الأشياء.

 الضابط الرابع:

أن يكون عارفاً بوظائف العبادة التي تلزمه وما يكلف به لما فيها من السلامة المحققة وذلك عند ظهور الفتن وفساد الناس.

 ضوابط الخلطة:

 الضابط الأول:

 حفظ الوقت والاعتناء به، ويتأكد هذا الأمر في حق من اشتغلوا بدعوة غيرهم وتربيتهم؛ فهذا العمل يأخذ عليهم زبدة أوقاتهم، لكن الاعتناء بتنظيم الوقت والحزم مع النفس في ذلك مما يعينهم على أن يوفروا لأنفسهم قدرا من الوقت كان يضيع سدى؛ فيستثمروه في تربية أنفسهم والرقي بها، إن استغلال الوقت مهارة وقدرة يحتاج الشاب أن يربي نفسه عليها، وليست مجرد اقتناع من الإنسان بأهمية الوقت.

 الضابط الثاني:

 التفاعل مع البرامج العامة، هناك برامج عامة يتلقاها الشاب مع إخوانه، كالدرس العلمي والمحاضرة وخطبة الجمعة واللقاءات الجماعية إلى غير ذلك، وهذه البرامج تحتاج منه إلى أن يتفاعل معها، من خلال التركيز والاستيعاب، ومن خلال أخذ النفس بالعمل والتطبيق بعد ذلك. 

الضابط الثالث:

الجماعية لمن أراد أن يختلط بالناس وكيف يكون ذلك؟ يقول محمد قطب :"وينبغي أن نذكر بصفة عامة أن التنمية النفسية الصحيحة لا تتم في كيان فرد يعيش بمفرده في عزلة عن الآخرين وفي هذه الفترة بالذات – وهو يتحدث عن فترة الشباب الباكر – كيف يتدرب الإنسان على الأخوة إذا لم يمارس الأخوة بمشاعرها؟ مع الإخوة الذين يربطهم به هذا الرباط؟ كيف يتدرب على التعاون إذا لم يقم بهذا الفعل مع أفراد آخرين؟ كيف يتعود أن يؤثر على نفسه إذا لم يكن هناك إلا نفسه؟ إن الوجود في الجماعة هو الذي ينمي هذه المشاعر وهذه الألوان من السلوك، والشاب الذي يعيش في عزلة عن الآخرين وإن حاول أن يستقيم على المنهج السليم تنمو بعض جوانب نفسه وتظل جوانب أخرى ضامرة؛ لأنها لا تعمل".

 إن بعض الشباب يقول: علي أن أنعزل لوحدي لأهتم بتربية نفسي ، وهذا غير صحيح فالجماعية مهمة للتربية الذاتية لأمور:

أولاً: هناك أمور جماعية لا يمكن أن تؤديها إلا من خلال الجماعة، كمشاعر الأخوة والتعاون والإيثار والصبر على جفاء الآخرين.

ثانياً: من خلال الجماعة تجد القدوة الصالحة وهي مهمة للتربية .

ثالثاً: من خلال الجماعة تجد القدوة السيئة وهي أيضاً مهمة للتربية؛ فحين ترى فرداً سيء الخلق تدرك كيف يخسر الآخرين، ومن ثم تدرك شؤم سوء الخلق، وترى إنساناً كسولاً فتدرك أثر الكسل والتفريط، إذاً أنت تحتاج إلى القدوة السيئة لا تلازمها وتعاشرها لكن عندما ترى هذا النموذج تجتنبه.

رابعاً: اكتشاف أخطاء النفس، وترويضها؛ فالإنسان الذي يعيش في عزلة يكون في الأغلب إنساناً حاداً في تعامله مع الآخرين، مثاليّاً في أحكامه وفي المشروعات التي يطرحها وعندما ينتقد الآخرين وعندما يوجههم، فهو مهما امتلك من القدرات تبقى لديه جوانب قصور واضحة، من خلال العزلة والسياج الذي فرضه على نفسه، ومن هنا نقول لابد من الجماعة في التربية الذاتية [43].

 إذاً فمهما كنت في ميدان من ميادين الخير: ميدان أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، أو ميدان تعليم علم ، أو ميدان جهاد في سبيل الله، فلابد أن يكون لك نصيب - ولو كان يسيراً - تخلو فيه مع الله عز وجل، فتتلو فيه كتاب الله عز وجل وتتدبره، وتقوم الليل أو تصوم، فهذا زاد لك يعينك على هذا العمل الذي تفرغت له.

 الضابط الرابع:

ترك فضول الصحبة: لما في ذلك من شغل البال وتضييع الوقت عن المهمات وأن يجعل الاجتماع بمنزلة الاحتياج إلي الغذاء والعشاء فيقتصر منه على ما لابد منه فهو روح البدن والقلب.

 الضابط الخامس:

القصد في حالتي العزلة والخلطة: لأن الإغراق في كل شيء مذموم وخير الأمور أوسطها ، والحسنة بين السيئتين .

 قال الخطابي : والطريقة المثلى في هذا الباب ألا تمتنع من حق يلزمك للناس وإن لم يطالبوك به ، وألا تنهمك لهم في باطل لا يجب عليك وإن دعوك إليه، فإن من اشتغل بما لا يعنيه فاته ما يعنيه، ومن انحل في الباطل جمد عن الحق ، فكن مع الناس في الخير، وكن بمعزل عنهم في الشر، وتوخ أن تكون فيهم شاهدا كغائب وعالما كجاهل .

 

 

المراجع خلاف الهوامش

1- مقال: لأبي الفضل لقمان الجزائري  .

2- التربية الذاتية من الكتاب والسنة الدكتور:  هاشم علي الأهدل.

3- دروس للشيخ عائض القرني الشاملة.

4- عبادتُ السِّر: فيصل بن علي البعداني.

5- استجمام يعين على مواصلة السير لاتحزن لعائض القرني.

 6- ضوابط في العزلة والخلطة الشيخ عبد الكريم الخضير.

7- ضوابط العزلة والاختلاط  محمد حسن يوسف.

8- مجلة جامعة أم القرى للبحوث العلمية المحكمة- العدد (14)1417هـ موضوع العزلة(الفكر والتطبيق)د.محمد بن سعد ص(13).

9- المفصل في شرح آية (لا إكراه في الدين).

 


[1] لسان العرب لابن منظور دار صادر – بيروت الطبعة الأولى.
[2] التوقيف على مهمات التعاريف لمحمد عبد الرؤوف المناوي دار الفكر - بيروت - دمشق الطبعة الأولى، 1410 تحقيق: د. محمد رضوان الداية
[3] فتح الباري شرح صحيح البخاري 11/331.
[4] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر تحقيق مصطفى بن أحمد العلوى و محمد عبد الكبير البكرى مؤسسة القرطبه 17/446 وإحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي 3/154
[5] فتح الباري 13/42-43 ، وعمدة القارئ 1 / 163 ط . المنيرية ، والقرطبي 10 / 360 ، 17 / 264 .
[6] أخرجه الترمذي 4 / 605 ، وقال : ( حديث حسن ) وقال الألباني صحيح ، الصحيحة  888  .
[7] التمهيد لابن عبد البر بتصرف يسير وقال هذا حديث مرسل من رواية مالك لا خلاف عنه فيه وقد يتصل من وجوه ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عطاء بن يسار وغيره وللحديث شواهد يرتقي بها للصحة .
[8] شرح النووي على مسلم باب فضل الجهاد والرباط 13/34 دار إحياء التراث العربي ، بيروت الطبعة الطبعة الثانية ، 1392. 
[9] الفتح 11/ 332 -333 ط، السلفية.
[10] إحياء علوم الدين 2 / 232.
[11] دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين 3 / 46 - 47 ط ، الحلبي ، وعمدة القاري 1 / 163
[12] الجامع لأحكام القرآن 10/312.
[13] تفسير ابن كثير 5/142 .
[14] صحيح البخاري بشرح فتح الباري كتاب الرقاق باب العزلة راحة من خلاط السوء 13/ 42-43.
[15] فتح الباري 11/332.
[16] العزلة ص225، وانظر الأمر بالعزلة في آخر الزمان ، لابن الوزير ص 49 وما بعدها.
[17] مختصر منهاج القاصدين 2/53.
[18] موعظة المؤمنين2/164.
[19] مجموع الفتاوى 10/404.
[20] مجموع الفتاوى 10/425
[21] بدائع الفوئد 2/274.
[22] مرقاة المفاتيح 4/743، وانظر مدارج السالكين لابن القيم 2/3554  منزلة البسط والتخلي عن القبض
[23] العزلة 11،12.
[24] شرح رياض الصالحين 1/629
[25] شرح ابن عثيمين لرياض الصالحين باب استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان وخوف الفتنة.
[26] انظر العزلة للخطابي بتحقيق ياسين محمد السواس ص53 نشر دار ابن كثير ، وإحياء علوم الدين 2 /223.
[27] أخرجه أحمد 5 / 365  وقال الألباني صحيح / صحيح الجامع الصغير وزيادته للألباني، 6651.
[28] عمدة القاري 1 / 163 ، وفتح الباري 13 / 42 - 43  ط . السلفية.
[29] رواه البخاري : 4/102 .
[30] العزلة 1/61.
[31] صحيح السلسلة الصحيحة مختصرة 1/444 .
[32] أبو داود : 4/ 459  وصححه الألباني4262.
[33] رواه مسلم : 4/2275.
[34] مصنف ابن أبي شيبة 13/275 (35618).
[35] أنظر رسالة ابن رجب الحنبلي :"شرح حديث إن أغبط أوليائي" في مجموع رسائله 2/757 .
[36] إحياء علوم الدين 3/183
[37] رواه ابن ماجة 2/1338، وأورده الألباني بإسناد حسن في الصحيحة برقم 939.
[38] إحياء علوم الدين 3/183.
[39] رواه أحمد وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم 6535 .
[40] رواه أحمد : 4/271 ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 6544.
[41] الرسالة القشيرية 1 / 300 .
[42] الرسالة القشيرية 1 / 299 .
[43] موسوعة الإدارة والتطويير والتربية 25/10 نقلاً عن منهج التربية الإسلامية لمحمد قطب.

أعلى