منظومة الأخلاق في خطر!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[1] والمتأمل في معاني هذا الحديث يدرك أن المجتمع الجاهلي لم يكن يخلو من بعض مكارم الأخلاق، والتي نجدها في أشعار الجاهلية ومواقف العرب القديمة الراسخة من كرم وشجاعة ومروءة وإيثار وما يدور في فلك العطاء الإنساني.
نجدها في أشعار عنترة العبسي الذي قال:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنم
أو في قوله:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مثواها
والأمثلة في هذا الباب تطول، لكن ومع ذلك كان المجتمع الجاهلي فاسدا وينقصه الكثير من الأخلاق والمكارم لتعلقه بالوثنية وعبادة الأصنام والكثير من التيه والضياع، وهو النقصان الذي أتمه وأقام نظم الحياة فيه، الإسلام ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
واكتمل صرح منظومة الأخلاق في عصر النبوة بعد أن نزلت آية (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)[2] واستلهم الجيل الفريد من الصحابة الفكرة والمعتقد، فترجم مثاليات الإسلام إلى واقع، وارتفع بالواقع البشري إلى درجة المثال. ويرجع الفضل في هذا التألق إلى الارتباط الوثيق في حس ذلك الجيل بين حقيقة الإيمان وبين القيم الخلقية التي يشتمل عليها هذا الدين. لقد كانت أخلاقهم تنبض بـ (لا إله إلا الله).
ولعل ما يثير الإعجاب بعظمة عطاء ذلك الجيل الناجح، أنهم في حقيقتهم لم يكونوا إلا بشرا، تعتمل في نفوسهم داوفع بني آدم، إلا أن حرصهم على الثبات في مستوى السموق .. فلم يستكينوا للهبوط أبدا ،كان كفيلا بتحقيق التميّز والسبق.
وهذا ما يفسر ولو جزئيا براعتهم في نشر الإسلام في ربوع الأرض الفسيحة وبين الأقوام والملل الكثيرة، حيث اجتذبت قيمهم الراقية كل من تعامل معهم. وليسجل التاريخ عبقرية الإسلام وسمو عطائه ومجد حضارته وهذا جزاء من اتبع الأثر.
أما اليوم! فقد وصل بنا خط الانحراف الطويل إلى أمة ضعيفة متفرقة، تحمل الإسلام إسما بلا معنى، إسلاما بلا أخلاق، بل إسلاما متهالك القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والمادية والروحية .. فماذا بقى فيه من حقيقة الإسلام؟!
لقد انحرف المسلمون اليوم عن حقيقة الإسلام التي عرفها العالم في عصر النبوة والصحابة، سلوكا وتصورا. وعزلوا الدين عن نظم الحياة المختلفة، وتوارت العقيدة وراء مغريات الدنيا الفانية، وحسابات البشر القاصرة، فكانت نتائج ذلك، شعوبا مهزومة مستسلمة قد هيمن عليها الغرب، وعجزا قد ضرب في صميم القلب بدت أعراضه في الأجيال المقبلة.
ولا شك أن تداعي الدول الغربية واندحار المشروع الاسلامي كان السبب الأول في موجة التغريب المظلمة التي حقنت القيم الغربية المعلبة في قوالب مخصصة للاستهلاك الإسلامي، ليظهر الانفصام في أوضح مشاهده يغذيه ذلك التفلت البشرى الطبيعي من التكاليف كلما امتد الزمان.
وحين نتأمل درجة انهيار المنظومة الأخلاقية اليوم في كل مجالات الحياة، الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والعسكرية، ندرك أن الإسلام أضحى يعيش غربته الثانية التي تحدث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد فسدت الأذواق وأصبح الإعلام يقدم ألوانا من اللهو والفساد يتذوقها البعض على أنها ثقافة وحضارة وفن وارتقاء، واستهدفت المرأة بشيء من التخصيص فتجاذبتها دعوات التسفيه والتغريب، رُسمت لها المرأة الغربية مثالا للاقتداء، لتنزع عنها ثوب الحياء وتطمس أنوار العفة والحكمة وتتسابق على سراب الدنيا الزائل وشهوات لا طائل منها ولا خلاص، وأبرزت الراقصة العارية كمثال وقدوة، بكل جرأة، واحتقرت المحتشمة المثابرة باجتهاد وهمة، بكل خسة. ليكون المقياس في نجاحات البشر فاسدا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.. الناجح فيه الأشد انحرافا وفسقا.
وباستهداف المرأة مصنع العطاء في المجتمع الإسلامي، تستهدف الأسرة ويستهدف المسلمون بجموعهم لأجيال متتالية. وكذلك يستهدف يوميا الشباب والأطفال ببرامج هدامة تبث ببهرجة تلفت الأنظار هدفها الأول والأخير سلخ ذلك المسلم وتلك المسلمة من أصالته وعقيدته وخلق الريبة والشك في صدره، وشغله عن معالي الأمور ونافعها والرمي به في حفر الشهوات والملذات وما حط من اهتمامات البشر. يسوقون مفاهيم لم يعرفها الإسلام بل يترفع عنها، ويحقنون ثقافة لا تمثلنا ولم تكن يوما سبب سعادتنا وتحررنا ورقينا بين الأمم.
لقد انقلبت المفاهيم تماما، وأصبح الالتزام بالدين كالقبض على الجمر والدفاع عنه جريمة لا تغتفر ثم الدعوة إليه تطرف في عصر علمانية تطغى وتحتقر.
وزاد الطينة بلة متنطعون سلطوا أقلامهم لترسخ القيمة فيما يراه الإنسان باجتهاد منه شخصي مهما كان شاذا أو نفعيا أو مبتدعا، وهمّشوا شرع الله، وهاجموا مصادر القيم في تشريعات السماء.
فكانت قيمهم هشّة، مادية بحتة، تستند لنزعات البشر المتغيرة والطالحة، في حين قيم الإسلام لا تتبدل مع الزمان ولا المكان، لا تتأثر بإقبال الدنيا أو إدبارها، لا في موقف قوة وظفر ولا في موقف ضعف وألم. ومع ذلك تخلوا عنها وتمسكوا بالوهن.
ثم لم نجني من الغرب من سوء كمثل تأثر المسلمين بسلطة الثقافة الغالبة، لتصبح الديمقراطية المستوردة أسمى مطالب المسلم والعيش على الطريقة الأمريكية المضطربة قمة الحضارة والتميّز.
في حين وبأدلة الواقع، أثبت الغرب فشل منظومته الأخلاقية ونفاق دعاتها وكساد سوقها، نشاهده بأوضح من الشمس في رابعة النهار في معدلات الجريمة والانحلال والفساد في مجتمعاتهم، نبصره عند كل مواجهة أو حرب، أو أزمة إنسانية أو ضعف، حيث يبرز شبح الجشع والصلف ويكشف الغربي عن وجهه الكالح، محتلا للأرض والفكر، متواريا خلف لافتات حقوق الإنسان والحريات في حين جاء بعسكره وترسانته ليهدم الإنسانية ويستعبد العباد بسياسات الإذلال والقهر وينهب ثرواتهم بدهاء ومكر. ويصطدم المسلم أمام مشهد يردد:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر
وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر
لم يعد صادما لنا أن نشاهد الألفاظ البذيئة تتقاذفها الأصوات التي تحمل أسماء مسلمة، لم يعد مثيرا للهدشة تطاول الصغار على الكبار وتجاوز حدود الاحترام والتوقير بين الفئات بفحش في القول والفعل. وهل يُسلب من إيمان الإنسان إلا بمقدار بذاءة لسانه فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان، ولا الفاحش ولا البذئ)[3].
لم يعد مستهجنا اختفاء الأخلاق والقيم لتحل محلها الواجبات الوطنية أو النفعية الأنانية باسم الحرية والتحضر.
لم يعد غريبا استشراء الكذب والافتراء، ولا نشر الإفك والبهتان ولا تسخيف الحياء والحلم، ولا تضييع الأمانة والعهد، والغاية تبرر الوسيلة.
لم يعد ينكر أحد جرائم العدوان والظلم والاحتيال حين قسى القلب وتحجر، لقد أصبح دم المسلم رخيصا وحرمته مهانة وسلب حقوقه وابتزاز ممتلكاته مستصاغا، وكثرة المساس تفقد الإحساس.
ذلك أن أزمتنا الأخلاقية قد تجذرت في عمقنا، في أنفسنا وفي كل ما يتعلق بحياتنا. نبصرها في الأسرة الواحدة بين المرء وأخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه وكل من في محيطه القريب والبعيد، نبصرها في المؤسسات والجامعات، في الأسواق والتجمعات، في مجالات العمل والتجارة والمال، في مواقع التواصل والإعلام، في ثورات الشعوب وحتى المقاومات، في كل حلقة وصل بين اثنين، نبصرها في سوريا واليمن وفلسطين وكل بلاد بها ألم أو فاقة تركناها لوحدها تستجدي الرحمة والإغاثة! لم يعد هناك من خط خشية أو تقوى، فكيف ستكون النتائج مع مثل هذه الفوضى ثم نسترجي النصر!
لقد أخطأ من جعل الأزمة الأخلاقية في هامش أزمات الأمة اليوم، بل هي محور أزماتها وسبب استضعافها كما يكون علاجها سبب عودتها ونهضتها ومقياس حضارتها ورقيها، أو لم تسمع لقول أحمد شوقي:
إنمـا الأمـم الأخلاق مـا بقيـت
فإن هم ذهبت أخلاقـهم ذهبــواً
فإن لم يتدارك كل مسلم ومسلمة نفسه ثم أسرته ثم محيطه بالحرص على القيم السامية للإسلام العظيم وبنشرها بين الجموع للتأثير، إن لم يتدارك كل راع رعيته لحفظها من هذا الخطر الداهم، فلن نحلم بتجاوز مرحلة الاستضعاف التي نحن فيها اليوم.
نعم لقد أضحت منظومة الأخلاق لدينا في خطر، وإن لم نتداركها بسرعة كي تثبت، فذاك شر مستطر.
. ________________________________________
[1] مسند البزار عن أبي هريرة، وصححه الألباني في الصحيحة
[2] سورة المائدة: الآية 3.
[3] رواه الترمذي ، والبيهقي في " شعب الإيمان "