الموقف التركي من فصائل الثورة السورية
يُعتبر التغير الدائم في مواقف أنقرة من فصائل الثورة السورية الثابت شبه الوحيد، لأن ما فرضه الواقع الميداني في المشهد السوري، إلى جانب تدخلات الأطراف الدولية المختلفة وما صاحبها من متغيرات هامة على المشهد السياسي التركي خلال السنوات القليلة الماضية، انعكست بلا شك على الموقف التركي، ولم يعد الدافع الأيديولوجي أو المشروع السني محركها الأول في سوريا، لأن مصالح أمنها القومي ظلت حاضرة وبقوة في مقاربتها تجاه الثورة السورية.
حملت الحكومة التركية خلال السنوات الأولى للثورة شعار عدم الانزلاق في المستنقع السوري، واكتفت بتسهيل تدفق المهاجرين السوريين إلى أراضيها، مع حرصها على تصدير موقف سياسي واضح يدعم فصائل الثورة التي حظيت بدعم سياسي وعسكري تركي، فضلاً عن إيواء أنقره للجسد السياسي والعسكري لتلك الفصائل، وهو ما أجبرها رويداً رويداً على التخلي عن شعار "صفر مشاكل" مع دول الجوار، فتجنُّبُها للتدخل المباشر لم يعد يُجدي نفعاً في ظل تصاعد خطر الأكراد وضبابية الرؤية لمستقبل سورية، وخاصةً أن تدخل جميع الأطراف الإقليميين والدوليين كان قد أطال من أمد الصراع وأفرز قوى وتوازنات جديدة أضحت بمثابة مهدد مباشر للأمن القومي التركي.
إذا كان استقبالها أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري قد رسم صورة إيجابية عنها وعن دورها على مستوى العالم السُني، وخاصةً أنها تمسكت لأطول مدة ممكنه برفض بقاء نظام بشار، فإن المتغيرات التي شهدتها الثورة السورية فرضت عليها واقعاً جديداً دفعها لتغيير سلوكها تجاه الوضع في سوريا، ومنذ يناير 2016 بدأ الحديث عن تحول جذري في الموقف التركي من نظام بشار، فدعمها المُعلن لقوى الثورة السورية المطالبة بإسقاط النظام العلوي لم يعد قائماً خلال عام 2015، ومنذ ذلك الحين أصبحت المعطيات الميدانية في سورية أكبر من الطموحات التركية، وهو ما يُفسر قبول أنقره لما يُعرف بالحل السياسي للأزمة، لكنها مع ذلك ظلت تشترط رحيل بشار.
لم تنجح الحكومة التركية في الحفاظ على موقفها الرافض لبقاء نظام بشار، وعادت لُتبدي قبولاً ضمنياً ثم علنياً يقضي ببقائه خلال المرحلة الانتقالية، لأن الوثيقة الأمريكية المسربة حول مستقبل النظام العلوي كانت قد أكدت في يناير 2016 على بقاء بشار خلال تلك المرحلة، وهو ما لم تعترض عليه أنقره آنذاك، إلا أنها اضطرت إلى الإعلان عن نفاذ صبرها في أغسطس 2016 وتدخلت عسكرياً في الأراضي السورية في ما يُعرف بعملية درع الفرات.
تلك التحولات الجذرية في الموقف التركي من الثورة في سوريا ظهرت جلياً بعد فشل الانقلاب في تركيا على شرعية الرئيس والحكومة المنتخبين يوليو 2016؛ بدأت بالأسابيع القليلة التي أعقبت عملية الانقلاب الفاشلة وما سبقها من استقالة رئيس الوزراء السابق "أحمد داود أوغلو" وتولي "بن علي يلدريم" في 24 مايو 2016، حيث أخذت حكومته على عاتقها إحداث تحولات كبيرة في سياسة بلادها الخارجية، بدءاً بإعادة تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، مروراً بالتخفيف من حالة العداء مع موسكو ووصولاً جملة من التفاهمات معها بشأن الثورة السورية، وقد تُوجت زيارة أردوغان لمدينة سان بطرسبرغ الروسية في 9 أغسطس 2016، ذلك التقارب بين الجانبين.
لقد أكدت تصريحات الرئيس الروسي "بوتن" في 16 ديسمبر من العام الفائت ذلك التحول في الموقف التركي بشأن سوريا، حينما أكد على وجود تفاهمات مع أردوغان بشأن فصائل الثورة السورية شرق مدينة حلب، مؤكداً اتفاق الطرفين على فتح مسار تفاوضي يوازي مسار جنيف بعيداً عن تدخل الإدارة الأمريكية وغيرها من القوى الإقليمية والدولية.
ولعل ذلك التعاطف الذي أبدته القوى الأوروبية مع الأطراف التي دبرت الانقلاب الفاشل في تركيا وتأزم العلاقة بين أنقره وكثير من العواصم الأوروبية، كان قد ساعد على التقارب بين الجانبين التركي والروسي، حيث اندفعت أنقرة نحو تطوير علاقاتها مع موسكو، وهو ما أحدث تأثيراً على موقفها من القوى المختلفة في الثورة السورية؛ فإسقاط نظام بشار أو مساعدة فصائل الثورة لتحقيق تقدم نوعي، لم يعد أهم أولويات تركيا في سوريا لأن هناك ما هو أهم، فنزعة الأكراد الانفصالية باتت تُشكل خطراً داهماً يهدد أمن تركيا القومي، لذلك جاء التدخل العسكري التركي في سوريا 24 أغسطس الماضي لتأمين حدودها مع سوريا في مسافة يبلغ طولها 100كم وعمقها نحو 16 كم لمنع الأكراد من الوصل بين الأقاليم الثلاثة "عفرين والقامشلي والحسكة"، وقد تحقق ذلك للقوات التركية التي وصلت إلى مدينة الباب وطهرتها من تنظيم الدولة "داعش".
وأغلب الظن أن روسيا كانت قد ساعدت تركيا على نجاح عملياتها العسكرية، مقابل تجاهل تركي واضح للمجازر التي تعرضت لها قوى الثورة السورية في مدينة حلب.
رُغم إعلان مجلس الأمن القومي التركي عن نهاية عملية درع الفرات نهاية مارس 2017، إلا أن الهدف الثاني المتعلق بالمواجهة مع الأكراد في مدينة منبج لم يعد قائماً، لكن القوات الجوية التركية كانت قد وجهت عدة ضربات جوية إلى مواقع وحدات تحالف "قوات سوريا الديمقراطية"، التي يشكل "حزب الاتحاد الديمقراطي" هيكلها السياسي الأساسي، بينما تمثل "وحدات حماية الشعب" الكردية قوته الرئيسية، فجميع هذه القوى حليفة لـ "حزب العمال الكردستاني، غير أن الضغط الأمريكي نجح في وضع حد للتدخل التركي خصوصاً في ما يتعلق بالاشتباك مع أكراد سوريا، لذلك لم تخف الإدارة الأمريكية انزعاجها من المواجهة التركية الكردية، وهذا ما يُفسر امتناع التحالف الدولي عن تقديم دعم عسكري أو لوجستي ملموس لعملية درع الفرات.
وبالعودة إلى طبيعة العلاقة بين تركيا وفصائل الثورة السورية، فإن تخلي تركيا عن حلفائها التقليديين أو التراجع عن تقديم الدعم لهم كما كان يحدث في السابق، بات أمراً أكثر وضوحاً، فقمة أستانة التي عُقدت مطلع مايو الماضي أظهرت ذلك الجفاء في العلاقة، خاصة مع حالة التوافق التي ظهرت في مواقف تركيا وروسيا؛ فالأخيرة نجحت في فرض مقترحاتها حول المناطق الأربعة الآمنة في ثماني مدن سورية، لكن الأهم من ذلك أن تلك المقترحات التي رفضتها المعارضة السورية، مكَّنت روسيا وإيران من السيطرة على سوريا!
إن إبقاء المقترحات الروسية التي طُرحت في الأستانة على الوجود الروسي والإيراني، وكذلك بقاء بشار الأسد حتى نهاية مدة حكمه وبموافقة تركيا أيضاً، منح روسيا وإيران مزيداً من الشرعية الإقليمية والدولية للعب أدوار أساسية في الصراع السوري، لأن دور هاتين القوتين جاء بموافقة أطراف مؤتمر الأستانة بما فيهم تركيا، لذلك فمن غير المستبعد أن تضمن هذه الأطراف ولاية جديدة لبشار بانتخابات شكلية على غرار سابقاتها.
لذلك جاءت موافقة تركيا على ما تُعرف بالمناطق الأربعة الآمنة التي لا تشمل مناطق الشمال والشمال الشرقي، في إطار مساعيها للتقارب مع روسيا رغم اختلاف موقفيهما من طرفي الصراع السوري، ورغبتها كذلك في الاستفادة من الفكرة بتعميمها مستقبلًا لتشمل مناطق تمثل أهمية حيوية لها؛ فتركيا تراهن على عامل الوقت في تلك المناطق التي تشهد وجوداً عسكرياً أمريكياً، وهذه المناطق لا تدخل في إطار المناطق الآمنة، لأنها تحتاج للخروج العسكري الأمريكي الداعم للأكراد فيها، فهذه المناطق ما زالت مسرحاً لعمليات قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من قبل وحدات المارينز الأمريكية بحجة مواجهة تنظيم "داعش".
لكن على أي حال فإنه من الواضح أن التحولات الميدانية في سوريا قد فرضت مساراً تقاربياً بين الروس والأتراك والإيرانيين، ومن ناحية أخرى لم تكن تركيا لتترك حلب تواجه مصيرها لو كان هناك توافق بين قوى الثورة السورية، غير أن هذا التقارب التركي الحالي مع الأطراف الدولية والإقليمية ليس حتمياً، فقوى الثورة في سوريا بإمكانها تحسين موقف تركيا ودفعها لاستعادة دورها الحقيقي، لأن نقل تركيا من دولة وسطية الموقف إلى ظهير سياسي داعم لقوى الثورة، يحتاج إلى توحيد صفوف قوى الثورة ومواقفها السياسية.