• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مجزرة التضامن.. جريمة جديدة تُضَاف إلى ذاكرة الآلام

تظهر مقاطع الفيديو المسربة تفاصيل مخيفة وغير مسبوقة ارتكبها عناصر من الشبيحة مع أفراد من الجيش السوري، مذبحة مرعبة وقعت في 16 أبريل 2013، راح ضحيتها 288 مدنيًا، بينهم 7 نساء و12 طفلا


عندما بدأت الاحتجاجات بالظهور في مختلف أحياء المدن السورية في ربيع 2011، كان العنف هو الرد الأول للنظام السوري على المتظاهرين السلميين، أنشأ النظام ما عُرِفَ لاحقًا بـ"الشبيحة"، وهي ميليشيات موالية للنظام يرتدي أفرادها ملابس مدنية، كانت تساعد القوات النظامية في قمع الاحتجاجات، اقتحم الشبيحة الأحياء وفرقوا المظاهرات وارتكبوا جرائم عديدة من تعذيب وخطف واغتيالات وقتل جماعي وصل إلى حد المذابح، وفي الإطار كان النظام هو من يحرضهم ويوجههم ويمولهم، ويغط الطرف عن جرائهم مهما بلغت فداحتها بحق السوريين، بعد عدة شهور تم إضفاء الطابع الرسمي على الشبيحة من خلال ضمّهم إلى ما يُعرف بقوات الدفاع الوطني، وتم منحهم طوق نجاة للإفلات من العقاب، وبالتوازي حصلوا على ترخيص قانوني لممارسة القتل، المؤسف في هذا التحول هو أنه بدلًا من تحول عناصر الشبيحة إلى العمل الأمني والعسكري النظامي وفقًا لقواعده، أضفوا صبغتهم الفوضوية في القتل والتعذيب وارتكاب الجرائم على قوات الأمن والجيش، استحضار التاريخ القريب في هذه المقدمة البسيطة يأتي تزامنًا مع الكشف مؤخرًا عن مجزرة مروعة وقعت أحداثها في حي التضامن، جنوب العاصمة السورية دمشق.

بالرغم من أن نظام الأسد كان يتمتع بخبرة عالية وكفاءة في قمع المدنيين، إلا أنه كان أقل مهارة في الحرب، وقد ظهر ذلك بشكل جليًا في عام 2012، عندما فقد بشكل مطرد مساحات شاسعة من الأراضي في جميع أنحاء سوريا، بحلول أوائل العام 2013، كانت نصف البلاد تحت سيطرة مجموعات المعارضة، ومع مرور الوقت اقترب خط المواجهة من دمشق، لأن معظم الغوطة الشرقية والضواحي الجنوبية كانت في أيدي المعارضة بالفعل، كان حي التضامن، كغيره من أحياء دمشق، يشهد من وقت لآخر احتجاجات عامة سلمية، كانت قصيرة ومتفرقة وفوضوية في بعض الأحيان، لطالما أطلق السوريون على مدينة حمص لقب "عاصمة الثورة"، لا سيّما وأنها قد اشتهرت بمظاهراتها السلمية الحاشدة، واعتصاماتها المشهورة التي كان لها لونها وطابعها المميز، لكن اندلاع المظاهرات في عاصمة النظام، أو العاصمة الرسمية كان خطرًا بالغًا استشعره النظام مبكرًا، فدأب من خلال شبيحته ووحداته القذرة كشعبة الاستخبارات العسكرية على وأد هبّة الغضب في دمشق منذ مهدها ومهما كلّف الأمر، ولعل هذا ما أدى إلى مجزرة التضامن التي وقعت في عام 2013، وتم الكشف عن تفاصيلها قبل أيام قليلة.

تظهر مقاطع الفيديو المسربة تفاصيل مخيفة وغير مسبوقة ارتكبها عناصر من الشبيحة مع أفراد من الجيش السوري، مذبحة مرعبة وقعت في 16 أبريل 2013، راح ضحيتها 288 مدنيًا، بينهم 7 نساء و12 طفلا، في مقاطع الفيديو التي تم تسريبها إلى عدد من المنافذ الإخبارية في 2019 والتي عملت على تقصي الحقائق وإجراء مقابلات متعددة قبل نشر تقارير مطوّلة عنها، يظهر بعض الجنود بوجوههم أمام الكاميرا، يبدو عليهم الهدوء الكامل قبل أن يقوموا بإعدام المدنيين أمامهم بدم بارد، تظهر اللقطات الصادمة بسبب فظاعتها أن الجناة أعدوا موقع الإعدام لظروف مثالية للقتل دون أي مقاطعة حيث يبدو أن المنطقة تحت سيطرتهم بالكامل، لا يبدو أن القتلة كانوا في عجلة من أمرهم لإنهاء مهمتهم، ولا يبدو أن لديهم أي قلق بشأن أي تهديدات، لم يقتصر الأمر على إعدام الضحايا في وضح النهار ولكن أيضًا لحرقهم وعدم ترك أي أثر للجريمة، الأمر المثير للصدمة بشكل خاص في مقاطع فيديو مجزرة التضامن ذات جودة التصوير عالية الدقة هو أن ضباط الاستخبارات الذين ارتكبوا المذبحة كانوا في الخدمة، وكانوا يرتدون الزي العسكري، ويبدو أن هذه الفيديوهات ستكون جزءًا من تقاريرهم إلى قادتهم، لذلك اختاروا إظهار وجوههم، بل وكانوا في بعض الأحيان ينظرون مباشرة إلى الكاميرا وهم يبتسمون، ولا غرابة أن بعض الجلادين الذين شاركوا في الجريمة ما زالوا يعملون في مواقعهم الوظيفية دون تغيير.

كان الأسد محاصراً في دولة متقلصة حتى جاءت إيران أولًا ثم روسيا لاحقًا من أجل إنقاذه، صارت البلد في حالة خراب بعدما أدى القصف الروسي إلى تحويل مدن مثل حلب وحمص إلى ركام، نزح نصف السكان، مشردين في الداخل ولاجئين في الخارج، تسلط المجزرة الأخيرة مزيدًا من الضوء على بعض المجازر التي ارتكبها نظام الأسد طيلة السنوات الماضية ولم يتم التركيز إعلاميًا عليها، فالاهتمام بالجرائم المترتبة على الاشتباكات والقصف خلال الغارات الجوية كثيرًا ما كان منصبًا بشكل مركز على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة أو على خطوط التماس، لكن الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام لم تأخذ نصيبها من التغطية الإعلامية التي تستحقها، كان التعتيم إلى جانب الإهمال النسبي يمنعان وصول صوت المعارضة من تلك المناطق إلى الخارج.

بالصواريخ الموجهة والبراميل المتفجرة المليئة بالشظايا والقنابل القذرة وحتى بالسلاح الكيماوي، تم تمزيق أجساد آلاف السوريين وتشويه جثثهم، هذا بخلاف التدمير الهائل للمباني والبنية التحتية بكامل البلد وهو ما سيحتاج إلى عمر أجيال بأكملها حتى تُعاد الأمور إلى سابق عهدها، وقد كشف تقرير لمنظمة "وورلد فيجن" العام الماضي أن التكلفة الاقتصادية لعقد من الصراع في سوريا تقدر بأكثر من 1.2 تريليون دولار، وحتى لو انتهت الحرب في ذلك الوقت (أي العام الماضي)، فإن تكلفتها كانت ستستمر لتصل إلى مبلغ إضافي قدره 1.7 تريليون دولار، وستستغرق عمليات إعادة الإعمار لجعل سوريا مكانًا مناسبًا للعيش مرة أخرى حتى عام 2035، وحتى إذا افترضنا جدلًا أن الأمور قد هدأت، سيبقى السؤال الأهم: من سيدفع فاتورة إعادة الإعمار؟، فالأنظار الآن مركزة على الأزمة في أوكرانيا، ولا أحد يبدو مهتمًا بالصراع السوري حاليًا، حتى مجزرة التضامن تلك التي تم الكشف عنها مؤخرًا لم تحظى بنصف التغطية الإعلامية التي حظيت بها مجزرة بوتشا التي ارتكبتها القوات الروسية في أوكرانيا قبل أسابيع، الكيل بميكالين ليس بجديد على هذا العالم، وإلا لكانت المآسي والمجازر التي ارتكبت في أفغانستان والعراق وفلسطين، ومن قبلهم غالبية الدول العربية والإسلامية في زمن الاستعمار، قد نالت نصيبها من التحقيق والمحاسبة، أو على الأقل التوثيق والتذكير بها.

من المحتمل أن تواجه سوريا سنوات طويلة من عدم الاستقرار، خاصةً بعد أن تلاشت الآمال في تغيير النظام إلى حد كبير، ولم تنجح محادثات السلام في أن تثمر عن شيء يُذكر، استعاد النظام السيطرة على معظم أنحاء البلاد، ويبدو أن قبضة الأسد على السلطة قد باتت آمنة لفترة طويلة قادمة. لقد كشفت مجزرة التضامن أن هناك عملية تطهير كاملة كانت تحدث بهدوء بعيدًا عن أعين العالم، لقد أدرك العالم الآن فجأة أن هذه المجزرة كانت نقطة في بحر سياسة أوسع بكثير للتدمير والإبادة كان ينتهجها النظام في المناطق التي يسيطر عليها، لقد واصلت التقارير ونشرات الأخبار والتغطيات الصحفية الليل بالنهار خلال الشهور الأولى للحرب، لكنها لم تلتقط الواقع الوحشي للجرائم التي تحدث، كانت الضحايا والمباني المدمرة مجرد أرقام تُتلى في النشرات، لكن لم يكن هناك ما يروي الواقع البائس للمشردين بسبب منازلهم التي تهدمت أو قلوبهم التي انفطرت بعد فقدانهم للأب والأخ والصديق والابن، كل ما على العالم فعله الآن هو أن يُضيف مجزرة التضامن إلى ذاكرة الآلام السورية، ريثما تظهر مجزرة جديدة كانت طي الكتمان.

 

 

أعلى