كيف يتعامل أوباما مع تركيا؟
ستيفن سيستانوفيتش مجلس العلاقات الخارجية
(سفير سابق للولايات المتحدة في حقبة الحرب الباردة)
من الصادم أن نرى أحد أعمدة السياسة الخارجية يتهدم أمام أعيننا.. فيبدو أن هذا ما يحدث الآن في العلاقة ما بين الولايات المتحدة وتركيا، تلك العلاقة التي طالما اعتبرها صناع السياسات في البلدين من المسلمات لعقود مديدة. وكثيرًا ما يقال أن التحالفات الرسمية أصبحت تفقد موقعها المركزي في السياسات الدولية، فإذا كان ذلك صحيحًا فربما ما يحدث الآن من خلافات سياسية بين أنقرة وواشنطن هو جزء من ذلك الاتجاه، ويبدو أنه شيء سنعتاد عليه على الرغم من عدم ارتياحنا له، ولكن الأمر يبدو أكثر أهمية وضررًا من ذلك، ربما سيكون شيء سنندم عليه ولسنوات قادمة.
فمنذ وقت طويل كنا ننظر إلى تركيا على أنها أصل استراتيجي هام للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين؛ حيث إنه حليف انضم إلى المسار الديموقراطي الحقيقي بينما ينتمي في الوقت ذاته إلى التراث الإسلامي، ولكن يبدو أن تلك التوليفة تحولت إلى النموذج السلبي منها، ففي تركيا الآن أصبح نسمع عن الهوية القومية التركية كما جعلت السياسات العامة التركية من الولايات المتحدة دولة أقل شعبية مقارنة ببقية مناطق العالم الإسلامي، والتي يحافظ فيها أصدقاؤنا الشموليين على إبقاء المشاعر المعادية للولايات المتحدة تحت السيطرة.
فمن بين كل دول مجموعة العشرين ـ تلك المجموعة التي أضافت القوى الأسرع نموًا في العالم إلى مجموعة الثمانية ـ فإن تركيا هي الدولة الوحيدة التي تدهورت علاقاتها مع الولايات المتحدة منذ أن أتى الرئيس باراك أوباما إلى الحكم. وهي الحليف الأمريكي الوحيد الذي صوّت ضد العقوبات الجديدة على إيران في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الشهر الماضي، بل حتى قبل أن يغادر أسطول الحرية من تركيا إلى غزة، نأى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان بنفسه عن الدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط، وعامل حماس على أنها الصوت الحقيقي للقومية الفلسطينية.
والولايات المتحدة لا تواجه عادة تحديًا مثل ذلك ـ أي خلاف واسع مع حليف كبير ـ ذلك الخلاف الذي يتجذر في كل من السياسات الداخلية وفي تعارض الطموحات الجيوسياسية بين البلدين، حيث إننا أكثر اعتيادًا على التعامل مع الحلفاء الذين يواجهون مشكلات أمنية، والذين يريدون الولايات المتحدة أن تكون إلى جانبهم. ولكن مشكلتنا مع الاتراك ليست عدم شعورهم بالأمان، ولكن تكمن في ثقتهم، فهم يريدون الولايات المتحدة بعيدًا عن طريقهم.
في البداية شعرت بتلك الثقة، وإلى أين يمكن أن تقودنا، عندما التقيت بإردوجان في عام 2002، بعد فترة قصيرة من تشكيل حزب العدالة والتنمية وقبل أن يصبح رمزًا مهيمنًا على السياسات التركية. فقد أتى إلى الولايات المتحدة ليلتقي مسئولين أمريكيين وصحفيين وباحثين، ولتقديم نفسه، بالرغم من خلفية حزبه الإسلامية، على أنه رجل سياسي معتدل يتماشى مع الأفكار الغربية. وفي تلك الأيام التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر، كان الحديث الجريء عن الإسلام والحداثة هو العلامة المميزة لتلك الفترة، وألقى أحد أصدقائنا على المائدة التي كنا نجلس عليها سؤالاً صريحًا وواضحًا على أسماع ضيفنا إردوجان: ألا يمكن للديموقراطية الإسلامية أن تنتخب بالضرورة أشخاصًا متطرفين دينيًا؟
وكان لإردوجان إجابة قوية، ربما أكثر شؤمًا وصدمة مما توقعت في ذلك الوقت. فقد قال أن المتطرفين لابد أن يفوزوا بالانتخابات، ولكن فقط إذا كانوا يتنافسون ضد حكام شموليين. فلكي تتصرف الولايات المتحدة بحكمة في تلك المنطقة يجب عليها أن تفهم ذلك،وإذا ظننا أن الديموقراطية سوف تدعم الحالة الراهنة في الشرق الأوسط ـ بأن تعطيها شرعية بدون تغيير الكثير فيها ـ فإننا من المؤكد أننا سوف نصدم ونشعر بالإحباط، وذلك لأن السياسات العصرية والتي تلتحم بالجماهير هي وحدها التي تستطيع هزيمة الإسلاميين في الشرق الأوسط.
وبعد ذلك بسنوات، لا تزال تلك المحادثة القصيرة تشكل التحدي الذي يمثله إردوجان. فهو يزعم أنه يعلم، أكثر من الولايات المتحدة، كيف يتعامل مع تلك المشكلة الأساسية المتعلقة بالسياسة الخارجية الأمريكية، ولكن مظهره يضعه ـ وإذا ما اتبعنا منطقه يضعنا أيضًا ـ في تناقض مع أقرب أصدقاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فلواشنطن بالطبع طريقتها في إظهار الامتعاض من بعض الخلافات البسيطة، وبالفعل قامت الإدارة الأمريكية ببعض من ذلك تجاه تركيا. ففي الأسبوع الماضي بعدما التقى أوباما وإردوجان في قمة العشرين في تورنتو، صرح البيت الأبيض أنهما عقدا "مناقشات متنوعة و’صريحة‘" (ربما المعنى أنها كانت "قاسية للغاية").
وقد حذر مسئولو الخارجية الامريكية الجانب التركي علانية من أن "الناس بدأوا يسألون أسئلة" مثل: إلى أين تتجه أنقرة؟أما سرًا، يقولون أنهم يريدون أن يبدأ الاتراك في الشعور بتكلفة ما يفعلونه، بما في ذلك تقليل الاتصالات الرسمية بين البلدين. ومثل تلك المعاملة، بدءًا من التأديب الرسمي إلى الصمت الدبلوماسي، يمكن أن تكون فعالة في حل المشكلات من المرتبة الثانية. وبقليل من الحظ، فإن خلافات الأمريكيين مع تركيا يمكن أن تظل مجرد خلافات فقط. ولكن إذا لم نكن محظوظين، فإننا من الممكن أن نرى البيت الأبيض يتبنى واحدًا من اثنين من ردود الفعل الجادة، وكلاهما لديه سابقة في تاريخ إدارة التحالفات الأمريكية.
فالخيار الأول هو ما يمكن أن نصفه بـ "نموذج شارل ديجول"، وهو تشويه صورته بالكامل ووضعه في صورة شيطان، بتأكيد كبير على الأصول النفسية لسلوكيات خصمائنا. وهذا هو ما فعلته إدارتي كينيدي وجونسون تجاه رئيس فرنسا في أوائل الستينيات، وهو التعامل مع فكرته للهوية القومية العظيمة على أنها نرجسية شخصية وأنها بسبب رغبته للوصول إلى استقلال في سياسته الخارجية كمعادي للولايات المتحدة. وقد اعتبر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك دين روسك أن ديجول هو "شيطان بقرون"، وواشنطن بالفعل على بعد خطوات من رؤية إردوجان بهذه الطريقة.
ثم بعد ذلك هناك "نموذج براندت"، والذي ابتكر في أوائل السبعينيات من كل من نيكسون وكيسينجر لتحييد ويلي براندت المستشار الألماني الغربي آنذاك وسياسة "الانفراجة" تجاه الاتحاد السوفيتي. فبالرغم من أن نيكسون وكيسينجر كلاهما شعرا بالارتياب تجاه الدوافع الألمانية ونواياها، وبالرغم من الشكوك تجاه براندت ذاته أيضًا، إلا أن كلاهما رغب في أن يوقفه لكي لا يذهب بعيدًا في علاقته مع موسكو بأن يذهبا بعيدًا هم أنفسهم بنشاط دبلوماسي محموم؛ فبالنسبة لهما كان الجواب الأفضل لخطورة سياسة "الانفراجة" تلك كانت سياسة ناجحة ونشطة للولايات المتحدة. وهنا جاءت الانفراجة (ربما تدهش ما هو وجه شبه تلك الحالة بحالة تركيا، لذا برجاء قراءة مقالة أمس الرائعة بعنوان "الفريق الأحمر" في موقع فورين بوليسي، بشأن المصالح العسكرية الأمريكية في التعامل مع حماس).
وكلا الاستراتيجيتين لهما منطقهما، ولكن أيضًا لهما مخاطرهما ونفقاتهما. فـ "نموذج ديجول" يظهر حسم الأمريكيين، ولكنه خسر فرنسا كشريك كامل في الناتو لعدة عقود. أما "نموذج براندت" فأبقانا متقدمين بخطوة على حليفنا ألمانيا، في الوقت الذي أدى إلى اندهاش الكثيرين إذا كنا بحاجة فعلاً إلى ذلك التحالف بالأساس. ومع الوقت انهارت تلك الانفراجة في النهاية، وقال العديد من الألمان أنه كان خطأ الولايات المتحدة، وليس خطأ موسكو.
وأثناء تفكير واشنطن في الحل الأمثل للتعامل مع تركيا المشاكسة، ربما نجد بعض المسئولين الأمريكيين يحاولوا الدفاع عن تبنيهم لاستراتيجية مفضلة في التعامل مع تركيا، باستدعاء أي من التجربتين التاريخيتين مع ديجول أو براندت، ولكن في النهاية سيظل أمامنا خيارين يحملان مخاطر عالية على النفوذ الأمريكي واحتمالية تقويضه، لذا يجب اختيار أفضل التوجهين وأن نتجنب الزلل الذي حدث فيهما في السابق ونفكر كيف يمكن الاستفادة من أيهما بالصورة المثلى.
http://www.brookings.edu/opinions/2010/0721_terrorism_chat.aspx?p=1