نار الآخرة (شراب أهل النار)
الحمد لله الخلاق العليم؛ جعل في الدنيا دلائل على الآخرة، وأذاق العباد من نعيمها ليشتاقوا لنعيم الجنة، ومسهم من عذابها ليخافوا النار وأهوالها؛ تذكرة للعباد وموعظة وترغيبا وترهيبا {وَمَا نُرْسِلُ بِالآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء:59] وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عرفه المؤمنون بأسمائه وأوصافه وأفعاله فأحبوه وعظموه وعبدوه، ولم يشركوا به شيئا، وجهل به أهل الجحود والإعراض والهوى، فضلوا ضلالا بعيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، { وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:46] فدعا إلى الإيمان والإذعان، وحذر من الكفر والعصيان، وبشر بالرضوان والجنان، وأنذر من عذاب النار، فمن أطاعه نُجِّي وفاز، ومن عصاه خسر وخاب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعتبروا بحر الدنيا لحر يوم القيامة، واعملوا ما يكون سببا لظلكم في الموقف العظيم، وخذوا من عطش الدنيا عظة لعطش يوم القيامة، فتمسكوا بالسنة؛ لتردوا حوض النبي صلى الله عليه وسلم «فَمَنْ وَرَدَ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا».
أيها الناس: المؤمن في الدنيا ليس بعابث لاهٍ، ولكنه متفكر معتبر، ينظر في كل ما يمر به من تغيرات في الفصول والأجواء فيأخذ منها العبر والعظات، فتكون دافعا له في اكتساب الحسنات، ومجانبة المحرمات.
يتوضأ المؤمن لصلاة الظهر فينزل الماء عليه كأنه مسخن من شدة حرارته فيستعيذ بالله تعالى من نار جهنم، ويركب سيارته فلا يطيق المكث فيها من حرارتها حتى يُبردها فيتذكر حبس المعذبين في النار، ويمكث تحت الشمس قليلا فلا يطيق ذلك حتى يبحث عن ظل يأوي إليه فيتذكر دنو الشمس من رؤوس الخلائق يوم القيامة حين يغرق بعضهم في عرقه، وهكذا في كل ما يمر به من أحداث يجعلها عظات وعبرا.
وإذ يحس الناس في هذه الأيام حرارة المياه عند الوضوء والاغتسال حتى سعوا إلى تبريده وتخفيف حرارته فهذا حديث عن شراب أهل النار، أعاذنا الله تعالى ووالدينا وآلنا والمسلمين منها.
لقد ذكر الله تعالى شراب أهل النار في آيات عدة، وهو شراب منوع متعدد؛ ليتعدد العذاب عليهم. وأكثر ما ذكر في القرآن من شرابهم الحميم، فأهل النار يُضيفون عند دخولها بالحميم ويستقبلون به { وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة:93] أَيْ: فَضِيَافَةٌ مِنْ حَمِيمٍ، وَالْحَمِيمُ هو: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ.
وهو شرابهم الدائم في النار { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:4] وفي آية أخرى { أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [الأنعام: 70] والمعنى: أَنَّهُمْ يَعْطَشُونَ فَلَا يَشْرَبُونَ إِلَّا مَاءً حَارًّا يَزِيدُهُمْ حَرَارَةً عَلَى حَرَارَةِ الْعَطَشِ.
وقد يُضم إلى الحميم غساق، ومعه أشكال أخرى من العذاب؛ ليُضعَّف عذابهم، ويزداد ألمهم وهوانهم؛ كما قال تعالى { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص:57-58].
وَالْغَسَّاقُ: سَائِلٌ يَسِيلُ فِي جَهَنَّمَ، قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا يَسِيلُ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ، وَلُحُومِهِمْ، وَفُرُوجِ الزُّنَاةِ.
وهو غاية ما يكون من البشاعة والقبح، حتى قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهَرَاقُ فِي الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلَ الدُّنْيَا" رواه أحمد. فكيف بمن هو شرابهم؟! نعوذ بالله تعالى من النار.
وقد أخبر الله تعالى عن شراب الكافر فقال سبحانه { وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} أَيْ: مِنْ مَاءٍ هُوَ صَدِيدٌ في لونه وريحه وطعمه، مع شدة حرارته، وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ أَبْدَانِ الْكُفَّارِ مِنَ الْقَيْحِ وَالدَّمِ حال تعذيبهم. ومن قبح لونه وريحه وطعمه { يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17]. وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: " {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ} [إبراهيم: 17] قَالَ: يُقَرَّبُ إِلَيْهِ فَيَتَكَرَّهُهُ، فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] وَيَقُولُ اللهُ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29]" رواه أحمد وصححه الحاكم.
ولأهل النار عين يسقون منها؛ كما قال الله تعالى [تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ] {الغاشية:5} أي: متناهية في الحرارة.
وإذا عطش أهل النار استغاثوا وطلبوا السقيا، فيجابون بسقيا تزيد عذابهم عذابا { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهْلِ} أي: كالرصاص المذاب، أو كعكر الزيت، من شدة حرارته. { يَشْوِي الوُجُوهَ} فكيف بالأمعاء والبطون {بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29].
وإذا أكلوا الزقوم فعطشوا بسبب حرارته في بطونهم سقوا بما هو أشد منه حرًّا وهو الحميم { فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} [الصَّفات:67-67].
وليس عذابهم بماء الحميم شربا فقط، بل ويصب على رؤوسهم، حتى يذيب أحشاءهم وجلودهم من شدة حرارته { يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالجُلُودُ} [الحج:20] وروى أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ الحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رُءُوسِهِمْ فَيَنْفُذُ الحَمِيمُ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ فَيَسْلِتُ مَا فِي جَوْفِهِ، حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ وَهُوَ الصَّهْرُ ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ» رواه الترمذي وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وأهل الدنيا إذا اشتد الحر تبردوا بالماء، وأهل النار من شدة ما يجدون من حرها يلجئون للحميم من أجل التبرد، فيزيدهم حرا إلى حرهم، وعذابا إلى عذابهم، { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا المُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ} [الرَّحمن:44] وَالْمَعْنَى: أنهم يَمْشُونَ بَيْنَ مَكَانِ النَّارِ وَبَيْنَ الْحَمِيمِ، فَإِذَا أَصَابَهُمْ حَرُّ النَّارِ طَلَبُوا التَّبَرُّدَ، فَلَاحَ لَهُمُ الْمَاءَ فَذَهَبُوا إِلَيْهِ، فَأَصَابَهُمْ حَرُّهُ، فَانْصَرَفُوا إِلَى النَّارِ دَوَالَيْكَ.
هذه أشربة أهل النار كما ذكرها الله تعالى في القرآن، وهي أشربة بلغت الغاية في حرارتها، وخبث ريحها، وسوء طعمها، وبشاعة منظرها، بحيث يتجرعها أهل النار ولا يسيغونها، وتُقطع أمعاءهم من شدة حرها.
هذا؛ وقد توعد الله تعالى من شرب الخمر في الدنيا بشراب في النار؛ كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: «عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ» أَوْ «عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» رواه مسلم.
وكذلك المتكبرون موعودون بشراب في النار؛ كما في حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ» رواه الترمذي وحسنه.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من النار، ومن عمل أهلها، وأن يأخذ بنا إلى ما يرضيه عنا، ووالدينا والمسلمين { رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان:65-66].
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131، 132].
أيها المسلمون: الاستدلال بأحوال الدنيا على أحوال الآخرة طريق الموقنين، والاعتبار بحرها لحر يوم القيامة ديدن المعتبرين، فيدفعهم للعمل الصالح؛ توقيا لعذاب شديد دائم، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلكم الاعتبار حين أخبرنا أن أشد ما نجد من الحر ما هو إلا نَفَس واحد من نَفَس النار، فكيف بالنار كلها؟ وما أحوال ساكنها؟ نعوذ بالله تعالى منها ومن حال أهلها.
ولسلفنا الصالح أحوال عجيبة في الخوف من النار، حتى نغص الخوف منها عيشهم، وأخبت قلوبهم، وأضعف شهواتهم، وقادهم للعمل الصالح، ولما فسر قتادة قول الله تعالى: { وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:16-17] قال رحمه الله تعالى: هل لكم بهذا يدان -أي قدرة-، أم لكم على هذا صبر؟ طاعة الله تعالى أهون عليكم، يا قوم فأطيعوا الله ورسوله.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه شرب ماء بارداً فبكى واشتد بكاؤه، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت آية من كتاب الله تعالى { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئاً، شهوتهم الماء البارد. وأُتي الحسن البصري بكوز من الماء ليفطر عليه، فلما أدناه إلى فيه بكى وقال: ذكرت أمنية أهل النار وقولهم: { أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ} وذكرت ما أجيبوا به { إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِرِينَ} [الأعراف:50]
وعن عطاء السلمي رحمه الله تعالى قال: إنني إذا ذكرت جهنم ما يسيغني طعام ولا شراب.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب فلا أشتهيه.
فلنعتبر -عباد الله- كما اعتبروا، ولننافسهم فيما عملوا، فكل عامل يجد ما عمل {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلزلة:7-8].
وصلوا وسلموا على نبيكم...