القرن الإفريقي وتصارع القوى العالمية
شهدت السنوات الثلاث الماضية عودة قوية للاهتمام الروسي بالقارة السمراء بصفة عامة، وبمنطقة القرن الإفريقي على وجه الخصوص؛ في محاولة من موسكو - على ما يبدو - لاستعادة مناطق نفوذها القديم في القارة الإفريقية؛ والتي غابت عنها بشكل كبير عقب انتهاء الحرب الباردة مع غريمتها واشنطن مطلع تسعينيات القرن الماضي.
رأى خبراء وسياسيون أفارقة في أحاديث منفصلة، أنها تأتي في سياق التنافس الروسي مع أمريكا، منافسها التقليدي، ورغبة من موسكو في حماية تجارتها الدولية في منطقة ذات موقع استراتيجي هام في حركة الملاحة الدولية، وحاجتها إلى حشد التأييد الإفريقي لمواقفها من الأزمتين الأوكرانية والسورية، لكنها قد تصطدم بالنفوذ الصيني والأمريكي والغربي القوى هناك.
اهتمام روسيا بالقارة - وخاصة دول القرن الإفريقي - خلال الفترة الأخيرة، برزت ملامحه في تعيين سفراء جدداً فيها، وعقد ما يشبه الشراكات والتحالفات مع دول أخرى، والتدخل لحلحلة أزمات سياسية في القارة الإفريقية؛ فبعد الإطاحة بالرئيس المصري "محمد مرسي" في 3 يوليو/ تموز 2013م، توطدت العلاقات بين موسكو والنظام في القاهرة، إلى حد وصفه البعض بـ "التحالف" بين البلدين.
وفي فبراير/ شباط 2014، عينت موسكو، سيرغي شيشكي، سفيراً لها في دولة جنوب السودان؛ ليصبح أولَ سفير لها في هذا البلد الإفريقي الوليد.
أيضاً، سجل وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" نشاطاً دبلوماسياً متصاعداً في القارة الإفريقية؛ حيث زار تونس في مارس/ آذار 2014، وإثيوبيا في سبتمبر/ أيلول 2015؛ حيث وقع اتفاقاً مع مفوضية الاتحاد الإفريقي للدفع بالعلاقات الدبلوماسية بين روسيا والاتحاد الإفريقي، والجزائر في نهاية فبراير/ شباط 2016، بينما استقبل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نظيره المغربي، الملك محمد السادس، في مارس/ آذار المنصرم.
وخلال الشهر الماضي أيضاً عينت روسيا سيرغي كزندسوف، سفيراً جديداً لها في جيبوتي، واعتمدت السفير ذاته سفيراً غير مقيم في الصومال للمرة الأولى بعد غياب دام نحو ثلاثة عقود.
لكن ما هي حدود دول القرن الإفريقي، وما هي الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة التي تدفع موسكو نحو ترسيخ أقدامها بها؟
تضم منطقة القرن الإفريقي من الناحية الجغرافية 4 دول هي: الصومال، وجيبوتي، وإريتريا، وإثيوبيا، لكن تعريفات سياسية أخرى تضيف إلى هذه الدول دولاً أخرى هي: السودان، وكينيا، وأوغندا، وتنزانيا، وغيرها.
وتكتسب هذه المنطقة أهميتها الإستراتيجية من كونها تطل على المحيط الهندي من ناحية، وتتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر حيث مضيق باب المندب من ناحية ثانية؛ ومن ثَمَّ فإن دول هذه المنطقة تتحكم في طريق التجارة العالمية، خاصة تجارة النفط القادمة من دول الخليج، والمتوجهة إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا.
أيضاً، تعتبَر هذه المنطقة ممراً مهماً لأي تحركات عسكرية قادمة من أوروبا أو الولايات المتحدة في اتجاه منطقة الخليج العربي.
وتعني السيطرةُ على القرن الإفريقي السيطرةَ على ممرات مائية حيوية، وهي مركز عبور السفن والطائرات العابرة من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، وكذلك نقطة تزود بالوقود.
وحول مؤشرات الرغبة الروسية في العودة إلى هذه المنطقة، رأى الدبلوماسي الصومالي السابق "عبد الله طاهر" أن اعتماد روسيا سفيراً لها في كلٍّ من جيبوتي والصومال "مؤشر على اهتمامها المتزايد بالمنطقة".
وفي حديثه أشار "طاهر" إلى أن الصومال كان حليفاً استراتيجيا لروسيا في السبعينيات من القرن الماضي، وكذلك كانت روسيا حليفة استراتيجية لنظام "منجستو" السابق في إثيوبيا؛ لذا فإن التحركات الروسية الأخيرة في المنطقة، تحمل رسائل على رغبة لدى موسكو في العودة بقوة إلى المنطقة من جديد.
وحول الأسباب التي دعت موسكو إلى السعي نحو العودة بقوة لمنطقة القرن الإفريقي، رأى الدبلوماسي الصومالي السابق أن اهتمام روسيا بمنطقة القرن الإفريقي "يعد تطوراً هاماً يعكس التنافس بينها وبين واشنطن وروسيا".
"طاهر" لم يستبعد أيضاً أن يكون التحرك الروسي الجديد في منطقة القرن الإفريقي - بشكل خاص - مرتبطاً بالصراع المحتدم في الشرق الأوسط بين موسكو وقوى شرق أوسطية، خاصة حول الملف السوري.
وكان السفير الروسي الجديد لدى جيبوتي والصومال "سيرغي كزندسوف" أكد رغبة بلاده القوية في العودة إلى منطقة القرن الإفريقي.
ففي كلمة له عقب تسليم أوراق اعتماده للرئيس الجيبوتي، "إسماعيل عمر جيله"، في 17 مارس/ آذار الماضي، قال "كزندسوف": إن روسيا "تسعى لأن تكون شريكاً رئيسياً في منطقة القرن الإفريقي".
ووعد السفير الروسي بأن تساهم بلاده في تحقيق الاستقرار والتنمية والسلام في منطقة القرن الإفريقي. مشيراً إلى هدفين من أهداف بلاده من الوجود في هذه المنطقة. قال "كزندسوف": إن جيبوتي هي في موقع تتقاطع فيها مصالح كل الدول؛ نظراً لموقعها الاستراتيجي على الطرق الرئيسية للتجارة العالمية.
وأضاف أن موسكو "تحاول دوماً توحيد جهود جميع الدول في إطار تحالف واسع مناهض للإرهاب على أساس قواعد ومبادئ القانون الدولي، وميثاق الأمم المتحدة". وجود روسيا في منطقة القرن الإفريقي يعد مهماً – أيضاً - للحفاظ على قاعدتها البحرية الموجودة في المحيط الهادئ، ومنها تنطلق مجموعات إلى خليج عدن أو القرن الإفريقي؛ للمشاركة في القوات الدولية التي تستهدف محاربة القراصنة، التي قد تتعرض لها قوافل تجارية روسية.
في السياق ذاته رصد محمد حبيب "أستاذ القانون في جامعة أديس أبابا" تنامياً في الاهتمام الروسي بالقرن الإفريقي، وقال: إن روسيا بدأت تعود بقوة إلى القارة الإفريقية ومنطقة الشرق الأوسط عبر تدخلها في الأزمة السورية "في سبتمبر/ أيلول 2015"، واليوم تقدم دعمها لدول القرن الإفريقي في محاربة الإرهاب العابر للحدود.
واعتبر أن الدبلوماسية الروسية نجحت في استضافة اجتماع في موسكو لوزير خارجية السودان "إبراهيم غندور"، ووزير خارجية جنوب السودان "رنابا ماريال بنجامين" خلال سبتمبر/ أيلول الماضي؛ في أول إطلالة للجانب الإفريقي في أزمات القرن الإفريقي.
كذلك، لفت "حبيب" إلى الزيارة التي أجراها "لافروف" إلى مقر الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا، خلال الشهر ذاته، والتي قدم خلالها دعوات لزيارة بلاده، شملت وزراء خارجية: إثيوبيا وإريتريا والسودان وجنوب السودان.
وأشار إلى أن روسيا تسعى لإقامة منتدى تعاون إفريقي - روسي، كما تسعى، من خلال دبلوماسيتها النشطة في القارة السوداء، إلى حشد التأييد الإفريقي لصالح موقفها في الأزمة الأوكرانية والأزمة السورية.
ولفت في هذا الصدد إلى أن "لافروف" توصل خلال زيارته الأخيرة إلى مقر الاتحاد الإفريقي إلى تفاهمات مع رئيسة مفوضية الاتحاد الإفريقي "نكوسازانا دلاميني زوما" لدعم مواقف الاتحاد الإفريقي في الأمم المتحدة؛ مقابل دعم الاتحاد الإفريقي لموسكو من خلال التصويت ضد أي مشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإدانة التدخل الروسي في أوكرانيا.
وحول الفرص المتاحة أمام روسيا لاستعادة نفوذها القديم في القارة السوداء، رصد زريهون كبدي "أستاذ الإعلام والصحافة في جامعة أديس أبابا" جانباً منها.
وفي هذا الصدد، قال "كبدي" إن روسيا دولة محورية كانت لها علاقات قوية مع دول القارة الإفريقية في القرن الماضي، والآن هي من الدول المهمة، وهناك قواسم مشتركة بينها وبين القارة الإفريقية من أهمها: مكافحة الإرهاب، وتأمين مصالح موسكو في القرن الإفريقي والبحر الأحمر.
ولفت إلى دعم الاتحاد السوفييتي السابق "الذي خرجت روسيا من رحمه" لحركات التحرر الإفريقية من الاستعمار الأوروبي خلال القرن الماضي، وأن الثوار الذين وصلوا إلى السلطة في بلدان إفريقيا، عبر حركات التحرر هذه، لا زالوا على سدة الحكم في شرق وشمال وجنوب القارة الإفريقية، وهذا من عوامل قوة موسكو في إفريقيا.
أيضاً، اعتبر "كبدي" أن الخدمات المتنوعة التي يمكن أن تقدمها روسيا لدول القارة الإفريقية من عناصر قوتها؛ حيث لم يعد الروس يتعاطون مع صفقات التسليح فقط، وإنما يهتمون – أيضاً - بتزويد بلدان المنطقة بالتكنولوجيا النووية، وتعزيز التعاون الأمني في مكافحة الإرهاب، وتكثيف المبادلات التجارية.
وأفاد بأن روسيا يمكنها، من خلال موقعها في مجلس الأمن الدولي، تقديم كثير من الدعم لحل النزاعات والأزمات في القرن الإفريقي، خاصة في تحقيق الاستقرار في الصومال، وجنوب السودان.
لكن السفير "حبيب" يعتقد أن الساحة الإفريقية لن تكون خالية لموسكو لتعزيز نفوذها هناك. ورأى أن الوجود الروسي في إفريقيا "لا يزال متواضعاً وخجولاً" أمام السيطرة الصينية اقتصادياً، والنفوذ الأمريكي والغربي سياسياً.
وقال: "التوجه الروسي نحو إفريقيا في الوقت الراهن قد يكلفها الكثير في ظل السيطرة الصينية على القارة السمراء؛ إذ أصبحت الصين الدولة الأولى في التمويل الدولي لهذه القارة، وتليها في المنافسة الهند والبرازيل وتركيا".
واعتبر أن المحاور التي يمكن أن تدخل منها روسيا إلى القارة الإفريقية محدودة؛ فأمريكا ودول الغرب لهم حضور فاعل في القضايا السياسية وقضايا الأمن والاستقرار والهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب، بينما تملك الصين نفوذاً اقتصادياً واسعاً في القارة، ويبقى دور روسيا - المتاح حتى الآن - محصوراً في خطوات قامت بها، وتمثلت في إعفاء دول إفريقية من ديون كانت مرتبطة بصفقات بيع السلاح.