الجزائر.. بين المعارضة و حكم العسكر
تعيش الجزائر مؤخراً جدلا بشأن شروع السلطات في «التحضير لمرحلة ما بعد» الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة بسبب وضعه الصحي، رغم انقضاء عام واحد فقط على انتخابه لولاية رابعة، وكل المؤشرات في الجزائر توحي بأن تغييرا سيقع في القريب العاجل، والمرجح هو انتخابات رئاسية مبكرة بسبب مرض الرئيس.
كما أنها تعيش حراك سياسي قوي بلغ حدّ التصادم وتصلب المواقف بين أحزاب السلطة في الجزائر، خاصة مع عودة مدير الديوان في رئاسة الجمهورية، أحمد أويحيى، إلى الواجهة بتسلمه زعامة حزب التجمع الوطني الديمقراطي، وهو الحزب الثاني في البلاد والشريك الأساسي للحزب الحاكم جبهة التحرير الوطني؛ في المقابل، يرى تكتل المعارضة أن ما يحدث إعداد لسيناريو خلافة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعيداً عن إرادة الشعب، وهو ما يجعل من الجزائر تتجه نحو التصعيد.
مرض الرئيس....نقطة البداية
لنعود بالزمن إلى الوراء حتى يتسنى لنا فهم القضية من البداية، فبعد إصابة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بجلطة دماغية، جعلته يتوجه نحو مستشفيات باريس لتلقي العلاج، وقد تمكن الرئيس بالفعل من تجاوز حالته المرضية الحرجة تلك نسبيا، بعد عجزه عن الحركة، في هذه المرحلة كان من المفترض أن ينسحب الرئيس بوتفليقة بعد نهاية عهدته الثالثة بسبب حالته الصحية المتدهورة التي لا تسمح له بالقيام بالمهام التي ينص عليها الدستور، فبعد عملية جراحية أجراها سنة 2007، ثم جلطة دماغية سنة 2013، أصبح الرئيس الجزائري عاجزاً عن الحركة مع صعوبة كبيرة في التكلم، ولا يستطيع أن يترأس الإجتماعات ولا جلسات العمل المطولة ولا حتى إلقاء الخطابات تتناول مختلف القضايا المحلية والدولية.
وبالتالي أصبح الحديث عن الوضعية الصحية للرئيس الموضوع الأساسي في البلاد خاصة وأنّ زيارة الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى الجزائر في 17 جويلية الماضي يؤكد بقوله أنه تباحث مع الرئيس الجزائري بوتفليقة لمدة دامت حوالي ساعتين، وجده بصحة نفسية جيدة، رغم مشاكله الصحية، ملفتا بكلماته النظر إلى أن إقتراب نهاية خلافة الرئيس بوتفليقة، وأن المشاكل الصحية التي تكلم عنها ليس هي الإشكالية في ذاتها، وإنما من يقوم بمهامه اليوم؟ ومن سيخلفه مستقبلا ؟، بعد شلل شبه تام تعيشه المؤسسات الجزائرية.
إنّ غياب الرئيس عن المشهد السياسي بقدر ما يثير الشكوك حول أهليته القانونية لممارسة صلاحياته الدستورية فإنه يخدم مصالح الجناح العسكري المتنفذ بقصر المرادية، والذي تؤكده المعطيات المتوفرة أنه يستثمر على عادته وضع الفراغ السياسي للتحضير لمرحلة ما بعد بوتفليقة، وإيجاد الشخصية السياسية المناسبة لخلافة الرئيس المريض، والذي يؤكده واقع الساحة السياسية الداخلية أن صراعا عنيفا جمعه مع أقطاب المؤسسة العسكرية النافذة في شأن الطموحات السياسية المستقبلية لشقيقه "السعيد بوتفليقة" و ساعده الأيمن شكلت عاملا أسهم في تردي وضعه الصحي ، وأنّ الوضع الأمني في البلاد وما تعرفه من غليان وصراعات على المستوى الداخلي والخارجي، فضلا على تدني أسعار البترول وتراجع مداخيل المواطن الجزائري ما هي إلا مؤشرات لتفكير السلطة الجاد في تغيير دواليب الحكم في البلاد.
الصراع على كرسي الرئاسة
تعمل المعارضة في هذه الأوقات العصيبة التي تمر بها الجزائر اليوم بقوة، وخصوصاً أن علي بن فليس ــ المنافس للرئيس الحالي ــ عقد المؤتمر التأسيسي لحزبه "طلائع الحريات" وسط حضور كثيف من وزراء سابقين، بل حتى من أعضاء في الحزب الحاكم أعلنوا إنضمامهم إلى التشكيلة المعارضة؛ وقال بن فليس: "إن النظام يعيش حالة إرتباك لأن نهايته اقتربت".
في هذا السياق، يقول ممثل "تنسيقية الانتقال الديموقراطي" جيلالي سفيان: "إن الجزائر تواجه أزمة سياسية وأخرى إقتصادية، لذلك فإنّ الصراعات تفرض على الجميع القيام بتغييرات... على المواطنين أن يدركوا الخطر، لأن النظام الحالي عاجز عن التسيير"؛ وعلى هذا المنهج سار رئيس حزب "الإخوان المسلمين" ــ حركة مجتمع السلم ــ عبد الرزاق مقري إذ قال: " لا شك أنه يجري الترتيب لما بعد بوتفليقة، وخاصة بعد أن وضع الحزب الحاكم في الواجهة أمام الشعب ليتحمل مسؤولية الأداء الفاشل".
في المقابل، قال عمار سعداني: "إنّ الرئيس بوتفليقة سيكمل عهدته الرئاسية"، معقباً: "لا مجال في دواليب السلطة لتوريث الحكم لشقيقه"؛ ورغم هذا التأكيد، فإن ثمة ما يدور بين المعارضة وأحزاب الموالاة، إذ ظهرت على السطح بوادر أزمة بين حزبي السلطة، بعدما دعا أحمد أويحيى إلى تشكيل تحالف رئاسي لدعم بوتفليقة، وهي الدعوة التي رفضها الحزب الحاكم، وهنا قال سعداني ": جبهة التحرير الوطني تقود ولا تقاد، وهي الأغلبية في الساحة."
بعد ذلك، عقّب حزب أويحيى، عبر المتحدث الرسمي، الصديق شهاب، الذي قال": إن حزبه لا يفكر في منطق الجار ومجرور أو العربة والقطار"، مضيفاً أن تشكيلته السياسية تعمل من أجل تفعيل هيكل تنظيمي هدفه الأول والأخير دعم عبد العزيز بوتفليقة، وحكومة الوزير الأول عبد المالك سلال.
تعقيباً على ذلك، يشرح القيادي في "مجتمع السلم"، فاروق طيفور: "أن أحزاب السلطة هي أحزاب مكلفة بمهمة لكنها أثبتت أنها تعيش حالة من الارتباك في مرحلة خطيرة تعيشها البلاد، لأنها تختلف حول أهم شيء اجتمعت من أجله، وهو الرئيس"؛ كذلك قال عضو المكتب السياسي لحركة "الإصلاح الوطني" فيلالي غويني "إن تصريحات سعداني الأخيرة كشفت حالة إرباك تعيشها أحزاب السلطة، مبيناً أن التحديات التي رفعتها المعارضة عجّلت بهذا المخاض".
مما سبق يمكن القول أن مرض الرئيس بوتفليقة وفوزه في الانتخابات لولاية رابعة كانت سببا مباشرا وراء هذه البلبلة التي تعيشها الساحة السياسية في الجزائر، وكل حزب يغني على ليلاه دون مبادرات تذكر لرفع قيمة كل حزب ليشفع لها الشعب ويقف إلى جانبها، ولعل تأسيس مجموعة من الهيئات ضمت مجموعة من الفعاليات من كل ألوان الأطياف: يسارية، علمانية وإسلامية سياسية، وذلك من أجل وضع أرضية مشتركة نددت فيها بقتل الإختيار الديمقراطي الجزائري، وتفويت فرصة الانتقال السلمي والديمقراطي للسلطة، فظهرت "التنسيقية من أجل الحريات والانتقال الديمقراطي" ضمت حزبي "حركة النهضة و جبهة العدالة والتنمية" الإسلاميين إلى جانب الحزب العلماني "حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية" بالإضافة إلى حزب "جيل جديد" (حزب ديموقراطي ) وحركة مجتمع السلم ( الإخوان المسلمين). من جانبها أسست الكتلة الموالية لـ علي بن فليس المنافس لمكانة عبد العزيز بوتفليقة في الإنتخابات الأخيرة ما سموه "قطب القوى من أجل التغيير" ضم 13 هيئة سياسية وقّعوا على بيان نددوا فيه بـ "الإنحراف الخطير والتزوير الشامل والمفضوح ..وتضييع الفرصة أمام التغيير السلمي والديمقراطي" ،وإستغلت في ذلك ملفات الفساد الشهيرة التي كانت النقطة المركزية في الحرب بين جناح المخابرات الذي يقوده "توفيق مدين" وجناح "السعيد بوتفليقة" الملقب بالرئيس بالنيابة، على إعتبار أن هذا الأخير ومنذ إصابة الرئيس إستفرد بكامل الصلاحيات الرئاسية، وكادت هذه الحرب أن تخلق شرخا بين المسؤولين الكبار المتحكمين في مصدر القرار السياسي لولا تدخل كبار قادة الجيش ورموزه أسفرت عن وقف الصراعات الإعلامية بين الجناحين المتناحرين مثلما رأينا سابقا، والسكوت عن ملفات الفساد الكبيرة، التي تمس الجانبين معا، وملء الفراغ الذي تركه مرض الرئيس بتعيين عبد العزيز بالخادم كوزير للدولة ومستشار لرئاسة الجمهورية و" أحمد ويحيى" وزير دولة ومدير ديوان رئاسة الجمهورية، مقابل عدم متابعة آل بوتفليقة قضائيا وحتى بوتفليقة شخصيا في حالة إذا ما غادر كرسي الرئاسة، وعدم إعادة سيناريو ما وقع بجمهورية مصر العربية.
الوضع الإقتصادي.......إلى الهاوية
يمر النظام الحالي بمرحلة وهن وضعف شديدين عمّقها تهاوي أسعار البترول في السوق العالمية، حيث تعودت السلطة على شراء السلم الاجتماعي بمداخيل النفط ولكن الأموال التي كانت تراهن عليها مجموعة الرئيس بوتفليقة لم تعد كافية؛ ويستطرد الدكتور "عادل زقاغ" رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة باتنة قائلا: "إنّ إحتياطي الجزائر من العملة الصعبة يتهاوى بمتتالية هندسية وقد ينفذ قبل نهاية سنة 2015، ويتزامن ذلك مع تراجع احتياطي النفط المؤكد مما يرهن قدرة البلد ليس على زيادة الإنتاج بل ضمان مستويات إئتمانية ملائمة تسمح لها بالاقتراض، فالحكومة غير قادرة على كبح جماح الاستيراد وإتخاذ تدابير صارمة لوقف هذا النزيف لأنها تحت رحمة رجال الأعمال المزيفين والمستفيدين من استمرار خطاب التطمين الاحتيالي إلى أن يتم تحويل أكبر قدر من الأموال إلى جيوبهم وسيكون مصيرنا نفس مصير اليونان والكل غافل عن هذا".
وهذا ما يؤكد على أن عمر حكومة الرئيس بوتفليقة في الحكم معدودة وهناك تحضير لمرحلة انتقالية وأعتقد أن التغييرات الأخيرة التي أجراها الرئيس في الحكومة والمؤسسات المالية و الاقتصادية، تغيير بعض القيادات والجنرالات، وتنحية بعضهم الآخر هي إرهاصات المرحلة المقبلة.
دول الجوار ....ترقب بحذر
تنتظر العديد من البلدان المعنية الوضع السياسي المقبل في الجزائر بكثير من الحذر، فالمغرب الذي تربطه علاقة متوترة مع الجزائر منذ الإستقلال، يترقب طريقة تعاطي الرئيس المقبل مع ملف الحدود والصحراء الغربية خصوصًا، كما أن فرنسا تراعي الوضع عن كثب ولا سيما أن مصالح اقتصادية مشتركة تربطها بالجزائر إضافة إلى بعض الملفات المجمدة بين الطرفين نظرا لما تعانيه الجزائر، علاوة على أن الولايات المتحدة الأمريكية تراقب الوضع في الجزائر بتمعن، حتى أنها أرسلت جنود المارينز إلى قاعدة بإسبانيا تحسبًا لأي إضطراب في منطقة المغرب العربي.
كل ذلك يعني شيئا واحدا هو أن انهيار الوضع الجزائري يعني غرق المنطقة في دوامة عنف وانتشار الجماعات " الإرهابية" على طول حدودها، ولا سيما مع سوء الأوضاع وحالة الشلل التي تطبع الجزائر ضمن محيط إقليمي تهدده وضعية تفتت الدولة في ليبيا، وعدم الاستقرار في منطقة الساحل الإفريقي، وما ينتج عن المنطقتين من مخاطر تدويل العمل "الإرهابي" الذي يمس مباشرة جنوب الجزائر؛ لذلك أصبح من الضرورة على الجزائر التفكير في المرحلة المقبلة، وإعداد سيناريوهات وترتيبات كفيلة بتجنيب البلاد من أي نكوص أو إضطراب.
وأخيراً يمكن القول أنه مثلما يطرح كرسي الرئاسة في الجزائر عدة تساؤلات لوضع المشهد الداخلي في إطاره المحدود، كذلك يجب الإجابة على أسئلة دول الجوار التي لها مصالح مع الدولة الجزائرية عن قرب أو بعد، كيف سيتعامل الرئيس القادم مع الأزمة المالية؟ وكيف سيعيد تشكيل بنية إقتصادية في طريق الإنهيار؟ وهل سيستمر في التعاطي مع الأزمة الليبية بوسائل دبلوماسية رغم أنها تشكل مصدر تهديد أولي؟ كيف سيتعاطى مع الأزمات المتكررة مع المغرب والصحراء الغربية؟ وغيرها من الأسئلة التي تبحث عن إجابات دقيقة، بل لابد من الإجابة عليها في ظل ظروف عصيبة يمر بها الشعب والحكومة على السواء.
لا أحد يعلم ماذا سيحدث في الجزائر بعد مرحلة بوتفليقة، التي هي مسألة وقت فقط، وكيف ستدار العملية الانتقالية؟، ومن سيحكم؟، الأيام وحدها ستخبرنا.