النفايات في لبنان: أزمة بيئية أم سياسية ؟
تشهد الأراضي اللبنانية منذ الأسبوع الماضي حراكاً شعبياً قوياً، حيث خرج عشرات آلاف اللبنانيين إلى الشوارع والميادين وفي ساحات المقرات الحكومية مطالبين بإقالة حكومة تمام سلام؛ بسبب عجزها عن إيجاد حلولٍ لأزمة القمامة، إذن تنتشر أكوام القمامة منذ أسابيع في غالبية شوارع لبنان، لدرجة أنها جعلت من لبنان مشهداً يتناقض تماماً مع حقيقة البلد الذي يضم عدداً كبيراً من المراكز الثقافية والأدبية والبحثية والإعلامية ودور النشر وغيرها من المعالم التي تدلل على حضارة وثقافة لبنان.
طلعت ريحتكم
اندلعت الأحداث والحراكات يوم 23 اغسطس تحت شعار "طلعت ريحتكم"، وأصيب في نفس اليوم أكثر من 70 من المحتجين جرَّاء احتكاكهم المباشر برجال الأمن والشرطة، إذ استخدمت القوات الأمنية لتفرقة المتظاهرين خراطيم المياه والرصاص المطاطي والحي والغاز المسيل للدموع. ومع ازدياد حدة التوترات خرجت الحكومة ببيان إدانة واستنكار لقمع المسيرات، ووعد رئيس الحكومة بمحاسبة المسئولين عن عمليات القمع، وكلَّف وزير البيئة اللبناني محمد المشنوق بإجراء تحقيق رسمي حول ما جرى في نفس اليوم. في حين طلب النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي سمير حمود من مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية إجراء تحقيق بشأن ما حصل و"تكليف أطباء شرعيين بالكشف على المصابين تمهيداً لوضع تقارير مفصلة عن هذه الاصابات ولتحديد نوعية القذائف التي أصيب بها المدنيون".
وجدير بالذكر أن منسق الحملة هو "عماد بزي"، أحد تلامذة منظمة "أوتبور Otpor" وهي منظمة مرتبطة بمعهد السلام الأميركي (USIP) وتُعنى بشئون المقاومة الشعبية، نشطت في عملية إسقاط الرئيس ميلزوفيتس في صربيا، وعملت على تدريب مئات الناشطين على قيادة وإدارة الانقلابات والثورات "الناعمة والملونة" من خلال تحريك الاحتجاجات المدنية والسلمية، انطلاقاً من مركز CANVAS في بلغراد تحت إشراف المدرب سيرجيو بوبوفيتش، ومنهم "وائل غنيم وتوكل كرمان" وأعضاء آخرين من أكثر من 37 دولة في العالم. كانَ عماد بزي مِن أشدّ المُطالبين بتَنحّي العماد إميل لحّود بعد حرب تموز 2006، واختارته مجلة فورين بوليسي العالمية من ضمن أكثر 7 أشخاص تأثيراً على الإنترنت في الشرق الأوسط عام 2011م.
اختار المحتجّون شعار "طلعت ريحتكم"، بدلاً من "طلعت ريحتها" وهذه إشارة صريحة على أن رائحة فساد القيادة السياسية في لبنان قد انتشرت في شوارع البلاد أكثر من رائحة القمامة، حيث تشير المعلومات إلى أن الحكومة تأخرت في معالجة أكوام النفايات بسبب أن أصحاب النفوذ كانوا يتقاسمون استثمار النفايات ولم ينتهوا إلا متأخرين من حسم الصفقة بينهم.
النفايات: أزمة قديمة متجددة
أزمة النفايات ليست جديدة ولا مفاجئة، فهي واحدةٌ من مظاهر الخلل البنيوي في النظام السياسي اللبناني، حيث إنه ومنذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، لم تُولِ الحكومات والسلطات الحاكمة أي اهتمام للاستثمار في البنية التحتية. كما لم تعطِ الحكومات المتعاقبة أهميةً للتخطيط والمشروعات طويلة الأجل، فاعتمد المواطن اللبناني على مزودي الخدمات من الشركات الخاصة وغير الرسمية التي يمتلكها رجال مال وأعمال مقربين من الساسة.
في عام 1994م، وقَّع مجلس الإنماء والإعمار -التابع لمجلس الوزراء- عقداً مع شركتي سوكلين وسوكومي، لمعالجة النفايات، ضمن بیروت و225 بلدة وقریة في محافظة جبل لبنان، مقابل أن تؤمن الدولة اللبنانية الآليات والحاويات اللازمة. وفي عام 1996م؛ ارتفعت قيمته لتبلغ 102 مليون دولار، فأصبحت كلفة التخلص من النفايات في بيروت ومناطق جبل لبنان الأكثر ارتفاعا، بالمقارنة مع طرابلس (شمالي لبنان) وصيدا (جنوبي لبنان) أو مع دول مختلفة أبرزها سوريا وكندا وإيطاليا.
ويشير تقرير ل"سكاي نيوز عربية" أن تمديد العقد مع الشركتين المذكورتين ظل مستمراً حتى 17 يوليو 2015م رغم الأحاديث عن قيام بعض النافذين بمنع المتعهدين من التقدم إلى مناقصة بيروت وجبل لبنان، واضعين أمامهم شروطاً "تعجيزية"، وكانت الأمور تنتهي دائماً بتبادل الاتهامات، تتلوها صفقات مشبوهة وتوزيع حصص. ولعل اللافت للنظر أن شركتي سوكلين وسوكومي ما زالتا تعملان جزئياً في شوارع بيروت رغم أن مدة العقد منتهية حاليا، وهو ما يثير تساؤلات حول مواصلة سوكلين لعملها.
وتبرر الشركتان بأن مجلس الوزراء اللبناني اتخذ قراراً، يقضي بتمديد جزئي لسوكلين، لكي تقوم بجمع النفايات وكبسها ونقلها إلى مطمر موقت، إلى أن يتم توقيع عقد مع شركة جديدة، لكن هذا الأمر يتعارض تماماً مع الأسس القانونية والإدارية السليمة، حيث تمَّ فتح باب المناقصات منذ أشهر، ولم تقدم شركتي سوكلين وسوكومي عروضهما للعمل في بيروت، في حين تقدمت شركات أخرى للعمل.
وكتب وزير السياحة السابق "فادي عبود" في مقال له أن "انعدام الحلول" لمشكلة النفايات في لبنان "مرتبط ارتباطا مباشراً بلعبة المصالح، وقد بات الموضوع واضحاً وضوح الشمس"، محذراً من أن "غياب أي خطة واقعية" قد يقود إلى "كارثة بيئية حقيقية".
وتجدر الإشارة إلى أن أزمة النفايات ما هي إلا واحدة من عشرات الأزمات التي تعيشها لبنان، وبخصوص الكهرباء؛ يدفع لبنان أكثر من ملياري دولار سنوياً على مؤسسة الكهرباء، لتضيء بيروت ب21 ساعة يومياً، وتنخفض في بعض المدن لتصل إلى 4 ساعات فقط، وبالتالي يبقى الشمع سلعة ضرورية للمواطن اللبناني. أما الماء؛ فتعاني معظم بيوت لبنان من انقطاع مستمر للمياه طوال فصل الصيف، هذا في حين تشهد مناطق قليلة هدراً في المياه، في ظل الأعطال المختلفة التي تعاني منها شبكات المياه. أما الصرف الصحي؛ لا تزال مناطق مختلفة خارج تمديدات شبكات الصرف الصحي، كما أن مناطق في بيروت نفسها تفتقر حتى اليوم الى هذه الشبكات. والمحروقات؛ ترتفع أسعارها بشكل مفاجئ وخاصة خلال فصل الشتاء، والمبرر هو ازدياد الطلب عليها بدلاً من محاربة الاحتكار ومعاقبة المحتكرين. وليس أخيراً الاتصالات والانترنت؛ يدفع اللبنانيون فاتورة أغلى فواتير الاتصال والانترنت في العالم (حوالي 11 - 25 سنتاً على الثانية)، علماً بأن خدمات الاتصالات والانترنت لا ترقى للمستوى المطلوب.
أبعاد أزمة النفايات
مهما يكن من أمر، فقد كشفت أزمة النفايات عن عوامل ثلاثة متداخلة تضافرت في تعزيزها؛ بعدما انتقصت من هيبة الدولة ودورها، وهي:
أولاً: العامل السياسي: تعيش لبنان بلا رئيس منذ أكثر من 450 يوما وتعطلت الانتخابات الرئاسية. وفشلت الجلسة البرلمانية الـ27 لاختيار رئيس في أغسطس كما فشلت الجلسات السابقة وتعطل عمل البرلمان، ومددت فترة النواب مرتين، مع تجاهل الدعوة لإجراء انتخابات والتمثيل الشرعي. وعجز النواب المتحالفون مع قوة فاعلة أو اخرى في المنطقة، عن اختيار رئيس لهم، وهو دور بسلطات تنفيذية ضعيفة يتولاه مسيحي في نظام حكم يقوم على تقاسم سلطة بين الطوائف.
ثانياً: العامل التمثيلي: يعاني لبنان من انقسامات سياسية حادة، وهي انعكاس للتباينات الإقليمية المختلفة، حيث ما زالت القوى اللبنانية مرتبطة بالأطراف الخارجية ومرتهنةٌ قراراتها للخارج. ولم ينجح اللبنانيون في معالجة أيّ من الأزمات رغم مضي أكثر من عشر سنوات على خروج الجيش السوري من لبنان، في حين أن سلاح حزب الله الشيعي ما زال يهدد السيادة اللبنانية ويجعلها مرتهنة بالخارج ومنقسمة على القوى والأطراف اللبنانية، باختصار لأن دولة القانون ترفض أي وجودٍ لسلاح القوى أو الميليشات.
ثالثاً: العامل الإصلاحي: تحوَّل لبنان إلى بلد مثقل بالديون بسبب الاخفاقات الدستورية، وما زالت عديد من المؤسسات الرسمية بحاجة إلى إصلاح، وعديد من القوانين بحاجة إلى تعديل بما يتوافق مع روح العصر وبما يؤدي إلى بناء دولة القانون. وتشهد حكومة سلام حالة من التعثر جراء الخصومات الحزبية والطائفية وغياب البرنامج الإصلاحي. ويقول ماريو أبوزيد باحث بمركز كارنيغي: "الموقف الدستوري هو الأسوأ منذ استقلال لبنان"، فقد استقال ميشيل سليمان من منصبه كرئيس للبلاد في مايو 2014 ولم يخلفه أحد حتى الآن في تولي المنصب ومن المقرر أن تنتهي المدة الحالية لقائد الجيش، وهو منصب مسيحي آخر، في سبتمبر، لكن قرر وزير الدفاع بشكل منفرد، تمديد فترة منصب القائد الحالي، وذلك أشهر من خلافات في الحكومة حول تعيين قائد جديد لم تفلح بالتوصل إلى نتيجة، وهو ما يعني عملياً تأجيل الأزمة لمدة عامٍ واحدٍ، أو وضع العصي في دواليب الإصلاح السياسي والدستوري في لبنان.
وخلاصة القول؛ كشفت أزمة النفايات المنتشرة في شوارع بيروت عن مجموعة من الأزمات البيئية والاجتماعية الأخرى التي تنغِّص حياة اللبنانيين، وهي ازمات في الأصل عائدة إلى الفساد الذي ينخر بنية النظام السياسي اللبناني بفعل نفوذ أباطرة الفساد وحيتان المال وأصحاب المصالح ورؤيتهم الشخصانية والمصلحية للمشهد اللبناني.