أندونيسيا .. ديمقراطية ناشئة
كغيرها من بلدان العالم الإسلامي، قدمت اندونيسيا الكثير من التضحيات وخاض شعبها الكفاح المسلح لينال استقلاله عن الاستعمار الهولندي عام 1949، فكان "أحمد سوكارنو" الذي شكل امتداداً للحقبة الاستعمارية، أول رئيس للبلاد، ثم خلفه الجنرال "سوهاروتو" الذي نجح في إجهاض الانقلاب العسكري المدعوم من الشيوعيين، ونجح في التأسيس لنظام سلطوي مكنه من حكم البلاد لمدة 33 عاماً بدايةً من عام 1965، انتهت بالاحتجاجات الشعبية ضد الفساد وما صاحبه من أزمات اقتصادية دفعته للتنحي في 21 مايو 1998 لتدخل البلاد بعدها في مرحلة جديدة من الاستقلال الفعلي والتحول الديمقراطي الذي اعتبره الكثير من المتابعين، نموذجاً حقيقياً قدمه أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان البالغ 253 مليون نسمة، 88% منهم من المسلمين.
وبالرغم من التنوع العرقي والمذهبي، استطاعت إندونيسيا تلمس خطواتها نحو التحرر من التبعية الى الغرب، وقد ساعدها على ذلك ثرواتها الطبيعية والبشرية الهائلة وموقعها المهم في قارة آسيا، وصولاً إلى الديمقراطية الناشئة التي شهدتها البلاد بعد التخلص من الاستعمار ووكلاءه من العلمانيين.
المكون القومي والمذهبي
شكلت الجماعات المهاجرة عبر التاريخ نحو الأرخبيل الإندونيسي توليفة فريدة ومتنوعة تجاوزت حد المائة عرق ذات تباين لغوي وديني وثقافي، لكن الجاويون ظلوا يشكلون أكبر جماعة عرقية في البلاد، حيث بلغت نسبتهم حوالي 45% من إجمالي عدد السكان، لكن ما يميز هذه القومية عن غيرها، أنها كانت مقيمة في قلب وشرقي جزيرة جاوا، بينما يمثل السندان اللذين يقطنون غرب تلك الجزيرة نحو 14%، في حين تصل نسبة المادور الذين يقطنون الساحل الشمالي الغربي لنفس الجزيرة إلى 7.5% من عدد السكان، ونفس الأمر بالنسبة إلى الملايو المنتشرين في معظم الجزر الاندونيسية، وتقدر نسبتهم بحوالي 7.5%، علاوة على حوالي 26% من إجمالي سكان إندونيسيا موزعين على عرقيات أخرى كـ الباتاق في جزيرة سومطرة والميننجاب في مرتفعات الجزيرة الغربية والآتشيون في أقصى الشمال لجزيرة سومطرة، وأخيراً اللامينج في المناطق الجنوبية. كما يتمركز المكاسار في السواحل الجنوبية والتورج في المناطق الداخلية لنفس الجزيرة.
أما جزيرة كالمنتان فتحوي عدة عرقيات أخرى، أهمها الملايو في المناطق الساحلية والداياك في المناطق الداخلية، بينما جزيرة ايريان والجزر الشرقية الصغيرة فمعظم سكانها من أصول ميلانيسية. الجدير بالذكر أن هناك عدة ملايين من السكان، من أصول صينية يتمركزون في المناطق الحضرية، إضافة إلى أعداد محدودة من الهنود والعرب والأوربيين منتشرين في أرجاء الأرخبيل الأندونيسي.
هذا التنوع العرقي يلقي بظلاله على ثقافة ولغة السكان التي تصل إلى نحو 300 لغة ولهجة محلية، لكن لغة الباجاسا الأندونيسية هي اللغة الرسمية للبلاد، حيث تم نشرها على نطاق واسع بعد الاستقلال عام 1949، من خلال استخدامها في التلفزيون والصحف والمدارس والجامعات، وهي لغة مشتقة من لغات متعددة " الصينية والهندية والهولندية والانجليزية" لكن انتشار تلك اللغة لم يلغي وجود اللغات الأخرى، الجاوية واللغة السندانيسية والملاوية، والعديد من اللغات الأخرى المنتشرة في البلاد.
من ناحية أخرى تعتبر اندونيسيا أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان، لكن الكثير من الدراسات تقسم المسلمين هناك إلى نوعان، الأول "سانتري" هو الأكثر تمسكاً بتعاليم الدين الاسلامي، بينما الثاني "الأبنجان" هم مسلمين بالاسم كما يقال، كونهم خلطوا الكثير من القيم والمعتقدات غير الإسلامية مع الإسلامية، كما أن النوع الأول يركز على تعليم الأبناء العلوم الدينية في المدارس الإسلامية، بينما النوع الثاني مهتم بتعليم الأبناء في المدارس والجامعات العلمانية.
بالإضافة إلى الديانة الإسلامية الذي يتشكل منها غالبية المجتمع الاندونيسي، هناك بعض الديانات الأخرى، كالديانة المسيحية، حيث تمثل حوالي 10% من عدد السكان، موزعين بين بروتستانت 7% و 3% كاثوليك، أما الهندوس فتصل نسبتهم من عدد السكان إلى حولي 1.7% بينما لا تتجاوز الديانات الأخرى حد الـ 1% وهي موزعة على البوذيين وغيرهم من الديانات الأخرى.
الاقتصاد ومعدلات النمو
تشكل إندونيسيا واحدة من الدول ذات التأثير السياسي والاقتصادي والثقافي في منطقة جنوب شرق آسيا، لأنها خاضت تجربة تنموية امتدت لأكثر من خمسين عاماً من التفاعلات المحلية والإقليمية والدولية، حيث تحولت من الاعتماد على الاقتصاد الزراعي إلى الصناعي خلال ستينات القرن الماضي، ثم طورت من نفسها وبدأت أكثر اعتماداً على الاقتصاد الصناعي الخدماتي مع بداية الألفية الثالثة لتصبح رابع أكبر اقتصاد في القارة الصفراء والسادس عشر على مستوى العالم.
ولعل امتلاكها مقومات طبيعة وبشرية هائلة، كان من أهم العوامل التي وضعتها في مكان متقدم على الخريطة الاقتصادية، حيث تصل نسبة الغابات من مساحة البلاد إلى 60%، ما يجعلها أكبر مصدري الخشب في العالم، إلى جانب تصديرها للنفط والكثير من المعادن كالقصدير والألمنيوم والنيكل والذهب والنحاس، بالإضافة إلى احتلالها لمركز متميز في تصدير الفحم الحجري، هذا إلى جانب امتلاكها لقطاع سياحي طبيعي يساهم في نمو اقتصادها بشكل كبير.
لكن اعتمادها على الصناعات التحويلية بعد عام 2009 وتراجع تصديرها للنفط، بل والتحول نحو استيراد النفط لسد احتياجاتها الصناعية، كان له مردود كبير على القطاعات والمستويات الاقتصادية المختلفة، حيث تراجعت نسب البطالة عام 2013 إلى 6% فقط، كما تراجعت مستويات الفقر إلى أقل من 11% وانخفض معدل التضخم من 10,3% عام 2010 إلى 4% فقط عام 2013، وتراجعت نسبة الديون الخارجية إلى 12,99 مليار دولار.
وعلى مستوى علاقاتها الاقتصادية الخارجية، شكل حجم الاستثمارات الهائل علامة فارقة في تطور اقتصادها، فبلغ إجمالي الاستثمارات الأمريكية في اندونيسيا حوالي 300 مليار دولار، في حين تحظى الأخيرة بمعاملة تفضيلية لدى شريكها الأوروبي، كونها حققت فائض في صادراتها لدى الشريك الأوروبي وصل إلى 7 مليار دولار عام 2006، لكنها حققت قفزة كبيرة على مستوى صادراتها لدى الاتحاد الأوربي وصلت إلى 12 مليار يورو عام 2009، كما تخطى عدد الشركات الأوروبية العاملة في اندونيسيا حاجز الـ 700 شركة عام 2012.
بناءاً على هذا النمو الكبير في اقتصادها، باتت اندونيسيا مرشحة بقوة للوصول إلى سابع أكبر اقتصاد في العالم لتكون بديلاً عن بريطانيا مع حلول عام 2030، وذلك لأنها تحافظ على مستوى نمو الناتج المحلي الإجمالي الذي تجاوز الـ 5.8%، وهو ما يتفق مع توقعات معهد ماكينزي العالمي، الذي أرجع ذلك إلى أن اندونيسيا هي رابع أكبر بلد في العالم من حيث عدد السكان، ويحتل اقتصادها المرتبة السادسة عشر حالياً، كما أن استمرار التوسع الحضري ونمو مستويات الدخل لدى الطبقة الوسطى وارتفاع نسب الشباب، يدفع باتجاه تلك التوقعات، لكن المعهد المذكور اشترط نمو الناتج المحلي الإجمالي عند مستوى 6%، كما أكد على أنها بحاجة لتطوير قطاع خدماتها والبنية التحتية، الأمر الذي دفعها لتخصيص 250 بليون دولار خلال الفترة 2011-2025 للاستثمار في البني التحتية، بهدف إصلاحها وتطويرها، وذلك عن طريق تشجيع الاستثمارات الخارجية والداخلية والتركيز على تطوير اليد العاملة، والسعي نحو خلق تنمية متوازنة بين الجزر المختلفة.
عملية صنع القرار
وهنا يمكن التركيز على الخريطة الحزبية وطبيعة نظام الحكم بعد مرحلة سوهارتو عام 1998، لأن البلاد خلال هذه الحقبة الزمنية شهدت تحولات سياسية كبيرة، أفرزت ظهور عشرات الأحزاب السياسية، ودخلت في مرحلة جديدة من الحكم، استطاع خلالها الشعب الاندونيسي التعبير عن نفسه من خلال تعديلات دستورية تتناسب إلى حد ما مع حالة التحول الديمقراطي الذي شهدته البلاد.
1- الخريطة الحزبية
في إندونيسيا ما يزيد على 40 حزباً سياسياً تأسست غالبيتها بعد عهد سوهارتو أواخر التسعينيات، وتتراوح اتجاهاتها بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وتتبع هذه برامج هذه الأحزاب منهجين أو اتجاهين رئيسيين:
الأول: مُستمد من العقيدة "الدين" ويضم هذا التوجه 12 حزباً إسلامياً، أهمها حزب التنمية المتحدة وحزب العدالة والرفاهية، إلى جانب حزبين مسيحيين " الحزب المسيحي الاندونيسي والحزب الكاثوليكي الديمقراطي". وغالبية هذه الأحزاب تأسست بعد عام 1998.
أما الاتجاه الثاني علماني يأخذ من مذهب "البانكسيلا" عقيدة أساسية له، وهي أيديولوجية علمانية تنادي بوحدانية الإله والمساواة والعدل والإخاء، ويُعتبر حزب النضال الديمقراطي الذي تتزعمه "ميجاواتي سوكارنو" أكبر هذه الأحزاب، وعلى الرغم من وجود قيادات إسلامية على رأس هذه الأحزاب العلمانية إلا أنها لا تأخذ من الإسلام منهجاً، ومن هذه الأحزاب "حزب التفويض القومي وجماعة المحمدية" وهي جماعة ترفض الحكم على أساس ديني إسلامي.
وبالرغم من هذا العدد الكبير للأحزاب السياسية، إلا أن الأحزاب التي تمثل الثقل السياسي تنحصر في عدد قليل من الأحزاب الكبيرة ، هي حزب جولكار الحاكم وحزب التنمية المتحد الإسلامي، والديمقراطي اليساري وحزب نهضة الشعب ويأتي خلفه حزب النضال القومي، بالإضافة إلى حزب التفويض القومي وأخيراً يأتي حزب التنمية المتحدة الذي يقوم على أساسٍ إسلامي، كما أنه أحد الأحزاب الثلاثة التي كان معترفًا بها في عهد سوهارتو.
2- النظام السياسي
يجمع الرئيس في اندونيسيا بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة، ويتم توكيل السلطة التنفيذية للحكومة، في حين تتقاسم الحكومة والبرلمان السلطة التشريعية، تحظى السلطة القضائية باستقلال عن السلطات الأخرى، لذلك يعتبر النظام السياسي رئاسي نيابي جمهوري ديمقراطي.
يتم انتخاب الرئيس لدورتين، مدة كل دورة خمس سنوات حسب دستور البلاد، حيث تتم عملية انتخاب الرئيس ونائبة معاً في انتخابات مباشرة من قبل الشعب، ويُمنح الرئيس صلاحية تشكيل الحكومة ولا يُشترط أن يكون الوزراء أعضاء في البرلمان، فالأخير هو أعلى سلطة في الدولة، ويسمى مجلس الشعب الاستشاري، مكوناً من 700 عضوا يمثلون البرلمان المركزي ومندوبين عن 34 برلمانا إقليميا، ومدة ولايته خمس سنوات.
ما يميز اندونيسيا عن غيرها في هذا الصدد، أن الانتخابات تجري على مدار العام، نظراً لاتساع البلاد جغرافيا، ولأن الدستور يشترط الإشراف القضائي عليها، يصعب إجراء انتخابات البرلمانات الإقليمية والمحافظات في آن واحد، فيتم إجراء هذه الانتخابات بالتوالي في 34 إقليما، وتوزع على خمسة أعوام.
التحول الديمقراطي
هبت رياح التغيير على اندونيسيا في 21 مايو 1998 بعد استقالة سوهارتو، على خلفية المظاهرات التي شهدتها البلاد اعتراضاً على حكمه، والفساد المستشري في مؤسسات الدولة، فكان تعين سوهارتو لأبنته كوزيرة في حكومة الإنقاذ التي شكلها، القشة التي قسمت ظهر البعير، وعلى إثرها تم حصار البرلمان من قبل المتظاهرين، كما أن الأزمة المالية التي ضربت آسيا، كان لها تأثير كبير على البلاد دفعت الرئيس لتقديم استقالته، ودخلت البلاد في مرحلة جديدة من المسار الديمقراطي.
ترتب على هذا الحدث المهم دخول البلاد في مرحلة فقدان التوازن على المستويين الاقتصادي والسياسي، لكنها عرفت أربعة استحقاقات انتخابية مهمة، أولها عام 1999، تمكن خلالها 21 حزباً من الوصول إلى قبة البرلمان، لكن حزب الرئيس الأسبق أحمد سوكارنو "النضال من أجل الديمقراطية" حصل على 33% من المقاعد، وهي أكبر نسبة، لكنه فشل في الوصول للرئاسة بسبب تحالف الأحزاب الإسلامية مع حزب "غولكار القومي" مما أعطى الفرصة للقوى المتحالفة لاختيار الرئيس عبد الرحمن واحد، بينما جاءت ميغاواتي ابنة سوكارنو نائبة للرئيس على الرغم من فوز حزبها بأكبر عدد من المقاعد.
ربما كان الأمر مشابه في انتخابات 2004، حين استطاع حزب "غولكار" برئاسة ميغاواتي، أن يحقق الفوز بنسبة 23 % من المقاعد وهي أكبر نسبة، لكنها عجزت في الانتخابات الرئاسية أمام الوزير السابق في حكومتها "سوسيلو بامبانغ يوديونو" زعيم الحزب الديمقراطي الذي فاز بنسبة 60 % مقابل 39% لميغاواتي. الجدير بالذكر أن انتخابات الرئاسة عام 2004، كانت أول انتخابات مباشرة عرفتها البلاد بعد التعديلات الدستورية التي أجريت في هذا الشأن.
وخلال انتخابات 2009 استطاع "يوديونو" الفوز بنفس نسبة انتخابات 2004، كما تقدم حزبه "الحزب الديمقراطي" للمرة الأولى على حزب غولكار، محققاً الفوز بنسبة 27% من مقاعد البرلمان، لكن الانتخابات الأخيرة عام 2014 شهدت تراجع لحزبه بسبب تهم الفساد، وعاد حزب النضال من أجل الديمقراطية إلى الواجهة من جديد متصدراً لنتائج الانتخابات البرلمانية بنسبة 19%، وتمكن "جوكوي" مرشح الفقراء من الوصول إلى كرسي الرئاسة، جراء الدعم الذي حصل عليه من تحالف الأحزاب الكبرى، لكنه يُعاني من معارضة قوية في البرلمان، لأن أحزاب المعارضة تسيطر على 60% من المقاعد.