المصالحة والحل السلمي في ليبيا
من المعلوم أن الثورات في المنطقة العربية لا تكتمل ولا تحقق كامل أهدافها، وذلك لأسباب داخلية خاصة بكل دولة أو خارجية متعلقة بأهداف القوى الكبرى ومدى تحقيق أو ضمان مصالحها في المنطقة.
لقد مضى أكثر من أربع سنوات على اشتعال الثورة في ليبيا دون أن تستكمل تحقيق أهدافها رغم أنها تمكَّنت من خلع نظام معمر القذافي والقضاء عليه يوم 20 أكتوبر 201م، أي بعد فترة حكم دامت لنحو 42 سنة. وما تلى ذلك من انتخاب (المؤتمر الوطني العام) في يونيو 2012م، وهو البرلمان الأول الذي فاز فيه تحالف القوى الوطنية (الليبرالية) بعدد أصوات أكثر من حزب البداء والتنمية المقرب من جماعة الإخوان المسلمين، وتمَّ تشكيل أول حكومة ليبية في 14 أكتوبر 2012م، بعدما اتفقت القوى السياسية الممثلة في هذا البرلمان على تكليف على زيدان بتشكيل الحكومة، وبالتالي تكون المرحلة الانتقالية قد انتهت، فيما أصبحت ليبيا جاهزة للممارسة الديمقراطية.
كان من الطبيعي أن تتكلف الحكومة بفرض الأمن والاستقرار وتوفير مناخ ديمقراطي للشعب الليبي الذي خرج على حكم الطاغية؛ إلا أن ليبيا لم تشهد الاستقرار الأمني بسبب ارتباط القوى السياسية والعسكرية الليبية بقوى خارجية عربية وغربية، ولعب المال السياسي دوراً بارزاً في زعزعة الأمن والاستقرار.
في حين أن حفتر الذي عاد إلى ليبيا في مطلع 2011م، وكان مرشحاً لقيادة الجيش الليبي من بعض الأطراف هناك؛ لم يكن موضع ثقة من الأطراف الأخرى، وهو ما حال دون جعله رئيساً للجيش، ومن هنا ومن أجل إجبار الأطراف الليبية على تعيينه قاد ما يمكن تسميته بحالة من الانفلات الأمني، وكأنه أراد ربط أمن واستقرار البلاد بوجوده أو عدم وجوده على رأس المؤسسة العسكرية.
وفي غمرة ما تشهده دول الشرق الأوسط من تغولٍ وسيطرةٍ للمؤسسات العسكرية على زمام الأمور؛ قام اللواء خلفية حفتر (في صبيحة يوم 14 فبراير 2014م) بتحركٍ عسكريٍ أعلن فيه إيقاف عمل المؤتمر الوطني، شارحاً طبيعة هذا التحرك الذي لا يمكن وصفه حسب تعبيره بالانقلاب العسكري وانما هو استجابة لمطلب شعبي شغل الشارع الليبي من أسابيع بإيقاف تمديد عمل المؤتمر الوطني.
وفي 16 مايو 2014م أعلن حفتر عن انطلاق عملية عسكرية تحت مسمى "عملية الكرامة" أو "كرامة ليبيا" من أجل (تطهير ليبيا من الارهاب والعصابات والخارجين عن القانون والالتزام بالعملية الديمقراطية ووقف الاغتيالات خصوصا التي تستهدف الجيش والشرطة). زاعما أن العملية (ليست انقلاباً وأن الجيش لن يمارس الحياة السياسية) حسب زعمه، كما أعاد التأكيد على «تجميد» عمل المؤتمر الوطني العام.
قوبلت خطوات حفتر بالرضا من طرف الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الله الثني الذي أعلن في مؤتمر صحفي عن تحميل المؤتمر الوطني العام في ليبيا مسؤولية الفشل في بناء الجيش والشرطة في البلاد. وهو نفس موقف رئيس الوزراء السابق علي زيدان الذي كان قد أبدى تأييده التام لعملية الكرامة شريطة ألَّا تتدخل في العمل السياسي في البلاد.
أدَّت تلك العمليات العسكرية إلى تكريس حالة من غياب الاستقرار والأمن في ليبيا، وذلك إثر الاشتباك المسلحة التي كانت تحصل بشكل يوميٍ بين قوات الجيش الوطني الليبي أو الميليشات التي يقودها حفتر بجانب قيادات في القوات المسلحة الليبية وضباط جيش أغلبهم معزولون سياسيًّا وميلشيات قبلية تنتمي في الأساس لمناطق على أطراف بنغازي ومدينة المرج الواقعة شرق بنغازي، وبين جماعات إسلامية مختلفة مثل أنصار الشريعة وجماعة 17 فبراير وراف الله السحاتي ومجموعات مسلحة من درنة، وكانت الاشتباكات تدور رحاها في المرج وطبرق وطرابلس والزنتان وبنغازي وغيرها.
حاولت ميلشيات اللواء حفتر أكثر من مرة دخول بنغازي من الجهة الجنوبية الشرقية من منطقة "سيدي فرج"؛ إلا أنها فشلت بسبب تصدِّي القوات الثورية لها، وتكبدت قوات حفتر خسائر بشرية ومادية كبيرة؛ فلجأت إلى قصف مواقع تقول: إنها تابعة لمتطرِّفين إسلاميين. لكن أغلب المواقع المقصوفة في الواقع إما كانت منازل مدنيين، أو مؤسسات حكومية، أو أراضي خالية.
أما من ناحية الجنوب، فالصراع مختلف نوعاً ما عن شرق وغرب ليبيا، إذ إنه يتعلَّق بمحاولة إحكام السيطرة على منافذ التهريب بين ليبيا وتشاد، أو ليبيا والنيجر، أو ليبيا والجزائر؛ حيث تشهد تلك المناطق صراعات على تجارة الممنوعات من مخدرات وسلاح فضلاً عن هجرة غير الشرعية؛ أي على العكس تماماً مما حاولت الأطراف الخارجية تصويره.
أما الوضع في الغرب وبالعاصمة طرابلس على وجه الخصوص؛ فيشهد حالة من التوازن العسكري، ولعل مرد ذلك هو وجود قوات عسكرية موالية للمؤتمر الوطني العام ومناهضة بالكامل لميلشيات "تحالف القوى الوطنية".
وفي مثل تلك الحالات كان من الطبيعي جداً أن يتعرض اللواء خليفة حفتر لمحاولة اغتيال بسيارة محملة بالمتفجرات قادها انتحاري صباح 4 يونيو 2014م، محاولاً الدخول إلى مقر قيادة أركان عملية الكرامة المؤقت في منطقة (غوط السلطان) قرب الأبيار شرقي بنغازي، حيث حاول المهاجم الاقتراب من المقر إلا أن الحراسة انتبهت له فقام بتفجير السيارة وهو بداخلها مخلفاً خمسة قتلى من الجنود الليبيين وجرح 23 آخرين، وهو ما أدَّى إلى مزيد من الفلتان الأمني.
فرص الاستقرار السياسي
تؤكد التجارب التاريخية أن كافة الانقسامات الداخلية والحروب الأهلية انتهت بالمصالحة والوفاق الوطني، كما الحال بالنسبة للبنان وايرلندا الشمالية والجزائر وغيرها، وهو ما يعني أنه لا مفر لليبيا من الدخول في مصالحة وطنية، وبالتالي لا يمكن استبعاد أن تدخل في المصالحة في وقت ليس ببعيد، خاصة وأن الشعب الليبي خرج لتوه من الثورة وتخلَّص من حكم الطاغية. وعليه يمكن القول أن المصالحة الوطنية وفرص الحل السلمي تتوقع على جملة من المسائل، أبرزها:
- تغليب الوطني على الحزبي أو الشخصي، مع الابتعاد قدر الإمكان عن دوائر التأثير الإقليمي والدولي؛ حيث تعتبر المؤثرات الخارجية أهم دوافع تعزيز الانقسام، إذ لعبت أطراف أوروبيةً كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا دورا سلبياً، بجانب المال السياسي الذي قدمته اطراف عربية للقوات المسلحة وميليشيات حفتر.
- حصول حفتر على مكاسب سياسية لضمان تنازله عن حالة التمرد التي يقودها، و التي بسببها يتم إفشال أي خطوة لقيادة ليبيا نحو تحقيق الأمن و الإستقرار، أو التخلص منه سواء من خلال القانون الدولي بإتهامه بإرتكاب جرائم حرب من خلال المليشيات التي يقودها أو من خلال القضاء المحلي، فلا يجب أن يختلف مصيره عن مصيره زعيمه السابق معمر القذافي.