عقد الغرب الخمسة بلسان الفيلسوف "ريجيس دوبري"
طالب الفيلسوف الفرنسي "ريجيس دوبري"
بنقل مقر منظمة الأمم المتحدة إلى مدينة القدس المحتلة، بإعتبارها مهد الحضارات العالمية،
مشيرا إلى أنّ اختيار نيويورك، العاصمة الاقتصادية لأكبر قوة عسكرية في العالم، ينبع
من "خلط غريب" بين الحق والقوة.
وأوضح "دوبري"، خلال مؤتمر عقد في نهاية
هذا الأسبوع بتونس، أنّ "مقر منظمة الأمم المتحدة التي تمثل أداة للقانون الدولي
بامتياز، موجود في قلب أقوى قوة عسكرية، وأمر نقله لا يتطلب سوى تنظيم تصويت في الجلسة
العامة، غير أنّ مجلس الأمن وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، سيرفع الفيتو أمام القرار.
"ريجيس دوبري" الذي قدم، بالمناسبة ذاتها،
أحدث مؤلفاته الصادرة تحت عنوان "ما الذي تبقى من الغرب؟"، قام أيضا بعرض
دعائم الهيمنة الغربية التي يصفها بأنّها "فن ترغيب السيطرة في قلوب المسيطر عليهم
"، معتبرا أنّ الغرب الذي تتمثل إحدى أهم أهدافه في "تحويل العالم إلى سوق
كبيرة يتحول بموجبها جميع سكانه إلى مستهلكين، مجردين من الذاكرة، و من القيم"،
يعتمد في ذلك على خمس ركائز عبّدت أمامه الطريق لبسط هيمنته، تقابلها خمس نقاط ضعف تشوب هذا النفوذ، يمكن عرضها كما يلي:
1) تماسك غير مسبوق:
لا تتمتع أي منطقة حضارية أو جغرافية في العالم
بمثل هذا التناغم والتماسك الذي يبرهن عليه الغرب، بحسب دوبري، وقد تبلور ذلك من خلال
منظمة "حلف شمال الأطلسي" الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة الأمريكية، حيث
أكّد "دوبري" أنّه "ليس هناك أي قارة تتمتع بمثل هذا القدر من التماسك،
فآسيا لا يمكنها الإقرار حقا بسيطرة الصين عليها، كما أنّ إفريقيا التي لا يمكنها أن
تقبل بأن تكون نيجيريا ممثلتها، فيما تبرز الولايات المتحدة في العالم الغربي كقوة
مهيمنة بفكرة سيطرتها، ولا أدل على ذلك من أنّ 21 من بين 27 من الدول المكونة لحلف
شمال الأطلسي، يبدون رضاهم الشديد بالانتماء إليه.
2) احتكار العالمية:
يمتلك العالم الغربي ملكة تقديم مصالحه الخاصة
على أنها تعبير عن مصالح الإنسانية جمعاء. ويتحول بهذا المفهوم إلى "الكتلة الوحيدة
التي يمكنها أن تقدم نفسها على أنها هي ذاتها المجموعة الدولية"، فـ "حين
صوت مجلس الأمن على قرار الحظر الجوي على ليبيا، لم تكن نسبة الدول التي صوتت لصالح
القرار تتجاوز الـ 10 % من عدد سكان العالم"، بحسب المصدر ذاته.
3) الغرب مدرسة كوادر العالم:
عبر جامعاته ومؤسساته المالية على غرار صندوق النقد
أو البنك الدوليين، يستقطب الغرب جميع نخب العالم
ويتموقع تباعا كحاضنة للإطارات الوافدة من جميع أصقاع الدنيا.
"دوبري" علق على ذلك بالقول: "هو
انفتاح للآفاق لم يحالف الحظ أي امبراطورية في العالم للتمتع به".
4) تكوين الرأي العام العالمي:
الأمر يتعلق بالـ "القوة الناعمة" التي
تظهر عبر "قوة الدولار"، عملة العالم منذ 1945، و بـ "موافقة طبيعية"
يبديها الجميع، وكل ذلك عائد بشكل كبير إلى القوة العسكرية الأمريكية، وهو ما يمكّن
الولايات المتّحدة الأمريكية من التداين دون أن يؤثّر ذلك عليها بشكل كبير،على حد رأي
الفيلسوف الفرنسي.
5) التقدم العلمي والتكنولوجي:
شبّه "دوبري" هذا التفوّق التكنولوجي
والعلمي الذي رسّخ سيطرة العالم الغربي، بالـ "الفكر الفاوستي" الذي يرمي
إلى إدارة العالم عبر التقنية، قائلا "الغربي هو ذلك الذي يرغب في الاستحواذ على
العالم عبر التحالف مع الآلة وحتى مع الشيطان ذاته، والتقنية التي أنتجت فيما أنتجت،
القنبلة الذرية، هي الشيطان. ولم تقم الثورة المعلوماتية سوى باستكمال عملية الاستحواذ
على العقول".
وفي المقابل، لفت الفيلسوف الفرنسي إلى
حدود قوة العالم الغربي، مستعرضا 5 نقاط ضعف تلازمه، وهي:
و أولى نقاط الضعف بحسب الفيلسوف الفرنسي عقدة
"الغرور"،هو ذلك الادعاء بالسيطرة على العالم، بحسب دوبري، والذي يرى أنّ
هذا النمط من التفكير يمكنه أن ينقلب على صاحبه، وضرب مثالا على ذلك الفيتناميين الذين
تمكّنوا من هزم الولايات المتحدة الأمريكية، في حين كانت موازين القوى بعيدة كل البعد
عن التكافؤ.
أما العقدة الثانية من وجه نظر "دوبري"
فهي عقدة "التفوق" ولجئ الفيلسوف الفرنسي إلى شخصية "آنتي" في
الميتولوجيا اليونانية لطرح تصوره، و"آنتي" هو ذلك العملاق الذي يسترجع قواه
متى لامس الأرض. مقابل ذلك، يعتبر الفيلسوف الفرنسي أنّ الغرب، ما إن يلامس الأرض،
حتى يفقد جميع قواه، ويقول في تهكم واضح "لأجل ذلك هم يستعملون الطائرات من دون
طيار".
وأشار أيضا إلى أن الغرب يرفض قيمة
"التضحية، مشيرا إلى أنه خلال الحرب العالمية الأولى كان ألفا من الفرنسيين يسقطون
يوميا، لمدة 4 سنوات، في المقابل، يعتبر اليوم مقتل جنديين أو 3 في كمين بأفغانستان،
مأساة وطنية، تطالب على إثرها أسر الجنود بالتعويضات لينتفي بذلك مفهوم التضحية، ما
يعني أنّ "الغرب ترك جانبا قيمة الشجاعة".
ويعتقد دوبري عقدة "الوقت المختزل"
على حد وصفه ترتبط وثيقا بالرغبة في إرضاء الرأي العام المتقلّب والفاقد لسمة الصبر.
فهي ظاهرة تتفاقم مع تقلص آجال الفترات الرئاسية والتداول على السلطة بين الرؤساء والوزراء،
ويعيب "دوبري" على هذا النمط نفيه للذكاء الاستراتيجي الذي يتطلب وقتا أكبر
للتحقّق.
وعلق الفيلسوف على ذلك بالقول: "يجب القيام
بذلك بسرعة لأن الرأي العام سريعا ما يشعر بالسأم. الوقت يلعب إذا ضدّ الهيمنة الغربية.
الغرب هو سيد المكان ولكنه ليس سيد الزمان، لقد تحول إلى رهينة بيد اللحظة الآنية".
أما العقدة الخامسة الملازمة للغرب فهي عقدة
التدخل المدمر في سيادة الدول، وعن ذلك يقول الفيلسوف الفرنسي، : "حين نتوقّف
عن التفكير بطريقة استراتيجية، نجنح إلى أسلوب تفكير قيمي، عندئذ نسقط في فخ الرؤية
الثنائية للأمور التي تقوم على منطق أن العالم ينقسم إلى "طيبين" و
"أشرار"، في إشارة إلى تصريح الرئيس الأمريكي السابق "جورج بوش"
الإبن: "من ليس معنا، فهو ضدنا"...