"معسكر السلام" الصهيوني ينافس اليمين في قتل الفلسطينيين
مثلت الحرب على غزة مناسبة أخرى للتدليل على تهاوي الفروق الأيدلوجية بين اليسار
واليمين الصهيوني في كل ما يتعلق بالمواقف العنصرية الإجرامية من الشعب الفلسطيني.
وعلى الرغم من أن حاييم أورون، الذي كان رئيساً لحركة "ميريتس"،التي
تمثل أقصى اليسار الصهيوني، ظل يدعي لعقود حرصه على "حقوق الانسان"
الفلسطيني، فأنه تباهى خلال الحرب بأن "كتيبة من المقاتلين" من أبنائه
وأحفاده قاتلت الفلسطينيين في غزة، ولا يجد أورون ثمنة تناقض بين تبنيه لأيدلوجية
اليسار وبين تشجيعه لأبنائه وأحفاده لمواصلة القتال ضد الفلسطينيين، مع إدراكه أن
الحرب الأخيرة استهدفت بشكل خاص المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ. ولا يبدي أورون،
الذي بلغ من العمر عتيا، في مقابلة أجرتها معه صحيفة "هارتس" في
24-8،أي قدر من الندم ازاء حقيقة مشاركة أبنائه وأحفاده،المنضوين في ألوية النخبة
الصهيونية،في ارتكاب الفظائع ضد العزل من الفلسطينيين. ويرفض غالؤون بشدة الدعوات
التي أطلقتها بعض هوامش اليسار غير الصهيوني لرفض الخدمة في الجيش لأسباب
"ضميرية" بسبب جرائم الاحتلال خلال الحرب،ويعتبر أن مثل هذه الدعوات
تمثل "تجاوزاً للخطوط الحمراء". وقد قاطعت "ميرتيس" المظاهرة
التي نظمتها هوامش اليسار غير الصهيوني في تل أبيب بعد بدء الحرب للمطالبة
بوقفها،وحرصت على اصدار بيانات التأييد لأهدافها المعلنة. ولا تأخذ زهافا
غالؤون،زعيمة "ميريتس" حالياً على نتنياهو إلا حقيقة أنه يتجنب الشروع
في عملية سياسية تفضي في النهاية إلى تمكين السلطة الفلسطينية من الحصول على موطئ
قدم في قطاع غزة. ولم يصدر عن غالؤون،التي تدعي إيمانها "المطلق بحقوق
الإنسان بدون تمييز" أي انتقاد لعمليات القتل الجماعي التي استهدفت الأطفال
والنساء والشيوخ. إن حماسة نخب اليسار الصهيوني السياسية والثقافية لارتكاب
المجازر ضد الغزيين لا تقل عن حماسة اليمين بشقيه العلماني والديني،بل أن بعض نخب
اليمين-في حماسها- تبدو أكثر اعتدالاً من النخب اليسارية. فعندما شرع الكيان
الصهيوني في حملتها البرية على قطاع غزة بعد أسبوعين على اندلاع الحرب، كان حاييم
هيرتزوغ،زعيم حزب العمل،الذي يدعي تمثيله "معسكر السلام" الصهيوني ينتقل
من محطة تلفزيونية أجنبية إلى أخرى ليدافع عن قيام الجيش الصهيوني بتدمير منازل
الفلسطينيين على رؤوس ساكنيها،ويخرج عن طوره لكي يحمل "حماس" المسؤولية
عن هذا الواقع. ومثل غالؤون، فأن النقد الوحيد الذي يوجهه هيرتزوغ لرئيس الوزراء
اليميني بنيامين نتنياهو يتمثل في عدم استعداده للقيام بخطوات جادة لبناء تحالف
راسخ مع القوى الإقليمية العربية وتوظيف هذا التحالف في تغيير البيئة السياسية
السائدة في قطاع غزة عبر إحلال السلطة الفلسطينية محل حركة حماس. وقد وصل الأمر
ببعض النخب اليسارية إلى حد المزاودة على حكومة اليمين وتوجيه انتقادات حادة لها
بزعم "تقاعسها" في الحرب على غزة وعدم توظيف التفوق العسكري الصهيوني في
تنفيذ مزيد من المجازر ضد العمق المدني الفلسطيني من أجل حسم المواجهة بشكل أسرع.
وقد هاجم ميخائيل بارزوهر،أحد قيادات حزب "العمل" السابقين،والذي كان
نائباً عنه في الكنيست لمدة طويلة، نتنياهو لأنه وافق على التفاوض غير المباشر مع
"حماس"،حيث يرى بارزوهر أنه يتوجب القضاء على الحركة تماماً لضمان نزع
سلاح غزة. وفي مقال نشره موقع صحيفة "يديعوت أحرنوت" في 24-8،شدد
بارزوهر على أنه يتوجب عدم التوصل لاتفاقات وقف إطلاق نار مع حماس،زاعماً أنه في
حال عدم حسم المواجهة ضد الحركة الآن،فأنها ستحرص في المواجهات القادمة على
استخدام أسلحة غير تقليدية ضد الجبهة الداخلية الصهيونية. ويرفض بار زوهر بشدة
الاعتماد على مجلس الأمن أو أي تحرك دولي آخر لضمان نزع سلاح "حماس" في
غزة،معتبراً أن تحقيق هذا الهدف لن يتحقق بدون الحسم العسكري الواضح. ورغم فظاعة
المجازر التي ارتكبت حتى الآن، فأن حجاي ميروم،أحد القادة السابقين في حزب العمل،
يصب جام جام غضبه على القيادات السياسية والعسكرية في تل أبيب ويتهمها بـ
"الجبن" لأنها تتردد في القيام بحملة برية في عمق قطاع غزة. وفي مقال
نشرته صحيفة "ميكور ريشون" في 24-8 يشدد ميروم، الذي كان رئيساً للجنة
الخارجية والأمن التابعة للكنيست على أن حقيقة انتمائه لليسار الصهيوني تجعله أكثر
إيماناً بضرورة القيام بكل العمليات العسكرية التي تضمن حسم المواجهة عبر مزيد من
القوة. أما الإعلاميون الصهاينة اليساريون،الذين لازالوا يهيمنون على منابر
مهمة،رغم التحولات في سوق الإعلام الإسرائيلي،فأنهم قد تجاوزوا زملاءهم اليمينيين
من حيث الحماسة لاستهداف غزة،علاوة على أنهم يتجنبون طرح الأسئلة التي تسلط الضوء
على الأسباب الحقيقية للحرب،ناهيك عن تجاهل شبه مطلق لحجم الفظائع التي يتعرض لها
المدنيون الفلسطينيون خلال الحرب. ليس هذا فحسب،بل أن بعض الإعلاميين اليساريين
استغل هذه الحرب لمحاولة محو الانطباعات التي تكرست عنهم لدى الجمهور الصهيوني
بشأن مواقفهم "الإنسانية" من معاناة الفلسطينيين. فيونيت ليفي، مقدمة
نشرة الأخبار الرئيسة في قناة التلفزة الثانية،والتي أغضبت المشاهدين عندما بكت
خلال حرب 2008 إثر عرض صورة أطفال فلسطينيين مزقت قذائف الاحتلال أشلاءهم،حرصت
خلال هذه الحرب بشكل تظاهري على تبرير فظاعة المجازر التي ارتكبها الجيش
الصهيوني،والتي تجاوزت بكثير ما تم ارتكابه خلال حرب 2008. وللتعبير عن سعادتها
بالحرب، فقد اختارت ليفي أن تنشر صوراً لها بمعية زميلها روني دانئيل، المعلق
العسكري في القناة، تحديداً بالقرب من بطاريات المدفعية الصهيونية التي كانت في
الأثناء تدك الأحياء الشرقية لمدينة غزة. ومع ذلك،فأن الانصاف يستدعي التأكيد أن
على عدداً من الكتاب الصهاينة،لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، من اللذين ينتمون
لمدرسة "ما بعد الصهيونية"، قد أظهروا قدراً كبيراً من المثابرة
الأخلاقية،وظلوا يفندون مزاعم الاحتلال ويكشفون أكاذيبه ويفضحون ازدواجية معاييره.
وقد برز بشكل خاص جدعون ليفي، الكاتب في "هارتس"،الذي يتعرض لهجمة شرسة
وصلت إلى حد وصفه بـ "الخائن"، ناهيك عن تلقيه اتهامات بالقتل من
متطرفين صهاينة.
إجرامهم يفاقم أوضاعهم
النفسية سوءاً
لكن على الرغم من حماسة
الصهاينة للحرب وارتكاب الفظائع ضد الفلسطينيين،فقد تبين أنه على الرغم من الخسائر
الفادحة التي تكبدها الفلسطينيون،فأن المجتمع الصهيوني قد أصيب بمظاهر خلل نفسي
جمعي شامل. ويؤكد البرفسور يائير كاسبي أستاذ علم النفس السياسي أنه بات مصدوماً
أمام حجم وعمق تأثير الحرب على غزة على الأوضاع النفسية للصهاينة. ويقول كاسبي أن
تجذر اليأس من تواصل الحرب لأكثر من 50 يوماً، قد أثقل نفسياً على المجتمع
الصهيوني،مشيراً إلى أن الصهاينة باتوا يفرون من الواقع عبر "إنكاره".
ويوضح كاسبي في مقال نشره في صحيفة "هارتس" بتاريخ 26-8 أن
"الإنكار" كخلل نفسي، يتجسد في طرح الصهاينة حلولاً غير واقعية، خيالية
توفر إحساساً مضللاً بوجود ثمة مخرج،دون أن تحقق أي نتيجة. ويرصد كاسبي ، مظاهر
سلوك تعكس حالة "الإنكار" التي يحياها المجتمع الصهيوني. ويشير إلى أن
أول هذه المظاهر يتمثل في الدعوة إلى "تدمير غزة"،مشيراً إلى أن
الصهاينة الذين يرددون هذه الدعوة يعون أن تحقيق هذا الهدف غير ممكن. أما مظهر
"الإنكار" الثاني، كما يرصده كاسبي، فيتمل في تجذر "الشعور
بالذنب" لدى قطاعات من المستوطنين،الذين تعرضوا لإطلاق الصواريخ من غزة،حيث
يشير إلى أن هؤلاء باتوا يعتبرون أنهم يتحملون مسؤولية عن المعاناة التي تتعرض لها
"الدولة" بأسرها،لذا لا يترددون في الدعوة للاستجابة لمطالب
"حماس"،لافتاً أن هذا السلوك يتناقض مع الدعوة لتدمير غزة. ويشير كاسبي
إلى أن الاحباط من إجبار "حماس" على وقف الحرب، أفضى إلى ثالث مظهر من
مظاهر "الإنكار"، والذي يتمثل في بحث قطاعات من الإسرائيليين عن
"عدو داخلي"،وهو ما وجد تعبيره في شيطنة كل من يصدر عنه سلوك يفسر على
أنه "تعاطف" مع الفلسطينيين، حيث يتم اتهامه بـ "الخيانة". وأشار
كاسبي إلى أن التأزم النفسي الناجم عن العجز عن الصمود في ظل استمرار الحرب، دفع
الكثيرين للتعبير عن رغبة في الفرار من إسرائيل، كحل مريح. ويلفت كاسبي الأنظار
إلى أن "الإنكار" كمظهر من مظاهر الإحباط لم يكن من نصيب رجل الشارع
الصهيوني فقط،بل أن النخب السياسية والعسكرية الحاكمة طورت مظهراً من مظاهر الإنكار
يتمثل في ادعاء تحقيق الانتصار،مشيراً إلى أن حكام تل أبيب من أجل إضفاء شرعية على
مزاعم النصر، باتوا يعدون الجمهور بهدوء طويل سيسود بعد انتهاء الحرب،بفعل تأثير
الردع لاحقاً.