قرن من العنف في الشرق الأوسط ؟
المصدر: دير شبيغل - ترجمة:
البيان
لقد
انتهت الحرب العالمية الأولى في عام 1918م، لكن العنف الذي أثارته في الشرق الأوسط
مازال مشتعلاً، حيث إن الحدود الاستبدادية التي رسمتها قوى إمبريالية لتحقيق
مصالحها الخاصة قد تركت إرثاً ليس باستطاعة المنطقة التخلص منه، فها هي دمشق
مازالت ترزح تحت نيران الحرب الأهلية. إن الفرقة الرابعة في الجيش السوري قد حصنت
نفسها على جبل قاسيون الذي يعتبر المكان الذي قيل إن قابيل قتل فيه أخوه هابيل.
إن
خبراء الأمم المتحدة المختصين في علم الصواريخ يقولون إن مقذوفات الغاز السام التي
أسقطت في ساعات الصباح يوم 21 أغسطس عام 2013م، على حي المعضمية وعين ترما في
مدينة دمشق قد أطلقت من مكان ما في أعلى الجبل, وأن حوالي 1,400 شخص قد لقوا حتفهم
في ذلك الهجوم، من أصل أكثر من 100 ألف شخص فقدوا حياتهم منذ بداية الأزمة.
في
بغداد في محافظة القصر السابق خلف بوابة القتلة، سنتان مرتا بعد الانسحاب الأمريكي
من العراق, وها هم العراقيون يسيطرون مرة أخرى بالكامل على ما يسمى بـ"المنطقة
الخضراء" التي تقع في منعطفٍ حادٍ على نهر دجلة. إنها محافظة بغداد التي وجد
الأمريكان أنفسهم فيها لاجئين عندما دخلت البلد التي احتلوها في دوامة من الفوضى
القاتلة. إن الوضع حالياً بالكاد يمكن اعتباره جيد. وعلى الجانب الآخر من السور
وخاصة في المنطقة الحمراء أصبح الموت مرة أخرى شيئاً اعتيادياً, حيث وُجِدَ أكثر
من 8200 حالة وفاة.
بيروت
عاصمة لبنان، وهي التي تعتبر محط أنظار واهتمام كل العرب، المدينة التي تعتبر
ولفترة طويلة موقعاً مركزياً لكل من حياة العرب ونضال العرب. إن السؤال الذي تم
طرحه قديماً ويجب أن يثار مرة أخرى هنا هو: مع كل ما يوجد في لبنان من اختلافات
حيث نرى المتدين مقابل العلماني والمسلم مقابل المسيحي والشيعي مقابل السني ومع ما
نقارنه من صراع دائر الآن في كل من ليبيا وسوريا وما نراه من أوضاع غير مستقرة في
كل من مصر والعراق هل استطاعت بيروت أن تترك ثورة العنف الماضية وراء ظهرها أم أن
الثورة القادمة أصبحت قاب قوسين أو أدنى؟
مضى
عامان على ثورات عام 2011م، ونرى كيف أن الوضع في الشرق الأوسط قد أصبح متشحاً
بالسواد تماماً كما كان عليه من قبل. بالكاد تستطيع أن تجد بلداً في منطقة الشرق
الأوسط لم تخض تجربة الحرب أو النزاع الأهلي في العقود الأخيرة. وليس هناك دولة من
بين تلك الدول ستبقى محصنة من حدوث أي ثورة أو موجة عنف محتملة في المستقبل
القريب. إن تلك الثورات التي تعرف بالربيع العربي تهدد بجر الدول العربية إلى
مستنقع الهزيمة والتمرد.
وبالرغم
من ذلك فإنه من المحتمل أن يكون فقط لمفاجأة أولئك الذين يرون الثورات التحررية في
كل من تونس وليبيا ومصر وسوريا كجزء من التحول التاريخي للأحداث في الشرق الأوسط.
ولتكن متأكداً، إن الاضطرابات كانت بداية دموية جديدة لكنها أيضا تعتبر الفصل
الأخير في الصراع الإقليمي المتواصل تقريباً والذي بدأ منذ 100 سنة ولن ينتهي.
أطفال انجلترا وفرنسا
ليس
هناك مسرحاً بعد الحرب العالمية الأولى يمكننا أن نرى فيه صراعاً تاريخياً دائراً
كما هو الحال في الشرق الأوسط هذه الأيام، كما أنه لا يوجد مكان آخر في بدايات
القرن العشرين ما زال يضع الأحوال السياسية في نفس الدرجة.
إن
ما يسمى الحرب الأهلية الأوروبية وهو مصطلح استخدم لوصف فترة العنف الدموي التي
أوجعت أوروبا منذ عام 1914 لتستمر حتى عام 1945م. لقد توقفت الحرب الباردة في عام
1990م، لكن التوتر قد أطلق ساقيه نحو العالم العربي قبل الحرب العالمية الأولى
ليبقى حاداً وقاسياً مقارنةً بأي وقتٍ مضى. لقد وجد الشرق الأوسط نفسه وبشكلٍ
أساسيٍ في نفس الحال تماماً كما كانت عليه أوروبا بعد معاهدة فرساي عام 1919، ويقف
أمام خارطة تقسم المنطقة التي تتجاهل التعددات العرقية والطائفية الموجودة هناك.
في
أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا وبعد إراقة الدماء في الحرب العالمية الثانية،
فإن معظم الناس أصبح لديهم قبول وبشكلٍ كبيرٍ للحدود التي فرضها التاريخ عليهم
ولكن لا نرى هذا القبول في الشرق الأوسط.
إن
الدول التي وجدت في المنطقة بعد عام 1914م، والحدود التي تم رسمها بعد ذلك ما زال
ينظر إليها العديد من مواطني تلك الدول وجيرانهم على أنها حدود غير شرعية. كتب
المؤرخ الأمريكي "ديفيد فرومكن" في كتابه بعنوان" معاهدة سلام
لإنهاء كل السلام", وهذا الكتاب يعتبر عملاً مميزاً يتحدث عن بزوغ الشرق
الأوسط, ويقول المؤلف: إن شرعية الدول في المنطقة إما أن تأتي من التقاليد
والأعراف ومن السلطة وجذور مؤسسيها، وإما أن لا تأتي مطلقاً.
ليس
هناك دولة في المنطقة الحدودية سوى مصر وإيران تملكان مثل ذلك التاريخ الطويل
المتواصل، حيث من الصعب أن تهز أمن دولته أي أزمة حتى وإن كانت عسيرة. كما أن هناك
دولتان مازالتا تقفان على الأساس الذي بناه مؤسسيه وهما الجمهورية التركية التي
أسسها مصطفى كمال أتاتورك والمملكة العربية السعودية التي وحَّدها وبشكل حاسم عبد
العزيز ابن سعود في عام 1932م.
هذه
الدول الأربعة تحيط بقلب الشرق الأوسط الذي قام على أساس خمس دول وواحدة لن يتم الاعتراف
بها كدولة أبدا على ما يبدو. يسمي فروكمن هذه الدول الخمسة "بأطفال انجلترا
وفرنسا", وهذه الدول هي: لبنان وسوريا والأردن والعراق وإسرائيل وفلسطين.
ليس
هناك مجموعة من الدول قد عاشت تجربة الحروب الكثيرة والحروب الأهلية والهزائم
والهجمات الإرهابية في العقود الأخيرة خصوصاً تلك التي تتسم بصغر مساحتها. ولفهم
حقيقة كيف تم تمرير ذلك الشذوذ التاريخي يجب دراسة عدة عوامل وهي: تاريخ المنطقة المهزوم
قبل الحرب العالمية الأولى، وفشل صفوة القادة العرب، والتدخل المستمر من قبل القوى
العظمى بعد ذلك، ودور الإسلام السياسي، واكتشاف البترول، وقيام دولة إسرائيل،
والحرب الباردة.
معاهدة سلام لإنهاء السلام
ومع
ذلك فربما الأمر الأكثر أهمية في ذلك الوقت هو القرار الوحشي الذي اتخذته دولتان
أوروبيتان استعماريتان وهما بريطانيا وفرنسا، حيث قامت كل منهما بترتيب وتقسيم هذا
الجزء من العالم وفقاً لمصالحهما الخاصة ورسمت "خط في التراب" كما شبهه
المؤرخ البريطاني "جيمز بار" في كتاب له يتحدث عن هذه الحادثة.
ليس
واضحاً بالنسبة لنا إلى أين يأخذنا الربيع العربي وماذا سيحصل في الشرق الأوسط في
نهاية المطاف. إن السيناريوهات المروعة تعتبر فقط أمراً تخمينياً تماماً كالأمل
الذي سوف يشق طريقه نحو حدودٍ جديدةٍ أكثر استقراراً وأنظمة سياسية أكثر تحسناً،
ولكن من أين أتى الشعور بنقص الشرعية وغياب الثقة الذي سمم الشرق الأوسط؟ وكيف
وصلنا إلى هذه الدرجة التي سماها فرومكن في كتابه "بمعاهدة السلام التي أنهت
السلام".
في
مدينة اسطنبول وتحديداً في صيف عام 1914م، كانت عاصمة الإمبراطورية العثمانية
بعيدةً عن ردهة مشمسة في قصر امبريال في اسشل حيث وقع الإمبراطور فرانز جوزيف
الأول بياناً رسمياً بعنوان "إلى شعبي" وذلك في 28 يوليو مطلِقاً بذلك
العنان لحرب عالمية بدأت في صربيا. لقد استمر حكم الإمبراطور العثماني لجنوب وشرق
البحر المتوسط لقرونٍ عديدةٍ حيث امتد حكمه من الإسكندرية للعريش ومن المغرب
للسويس في مصر. لكن الجزائر وتونس سقطت في يد الفرنسيين واحتل البريطانيون مصر.
وفي عام 1911م، أسس الإيطاليون مستعمرة في ليبيا.
وعشية
الحرب العظمى تقلَّصت مساحة الإمبراطورية العثمانية لتشمل جانباً من تركيا اليوم
والشرق الأوسط فقط والعراق في وقتنا الحالي ومساحةً صغيرةً من أرض الخليج العربي
ممتدة إلى اليمن.
إنها
تلك المناطق ونقصد جنوب تركيا اليوم التي أصبحت محل تركيز معارك الشرق الأوسط في
الحرب العالمية الأولى. لقد انغمست المنطقة وبعمق ولمدة 400 عاماً في زيف التاريخ,
ولكن في بداية القرن العشرين تحولت وبشكل سريع إلى منحنى الأزمات الذي نشهده
اليوم, والذي يعتبر مكاناً أصبحت فيه المدن كالبصرة وبغداد وحلب دمشق وبيروت وغزة
والسويس مختصرة في أجيال من المعاناة.
لم
يكن أبطال الحرب العالمية الأولى مدركين وبشكلٍ كاملٍ بعد أن الفناء الخلفي
للإمبراطورية العثمانية كان يتربع على القمة كأكبر مخزون للنفط في العالم. هل
كانوا يعلمون بأن النزاع في الشرق الأوسط من الممكن أن يكون أكثر عنفاً ووحشية حتى
مما كان عليه في السابق. وبالرغم من ذلك حتى الحرب التي يعزم عليها كلا طرفيها في
ذلك الوقت كانت تحدد بأمر دولي والذي من الممكن أن يتم إلغائه خلال السنوات الأربع
القادمة: فبريطانيا العظمى أرادت فتح مسار شحن بحري لحليفتها روسيا ولحماية
علاقاتها مع الهند عن طرق قناة السويس والخليج الفارسي، أما الإمبراطورية
الألمانية أرادت أن تمنع ذلك تماماً.
التحول الى المحيط أو الحد الخارجي
لقد
بقي الأمر غير واضحاً ولعدة أيام قليلة بعد إعلان فرانز جوزيف الحرب فيما إذا كانت
الإمبراطورية العثمانية سوف تدخل الحرب أم لا, ولأي الفريقين ستنحاز في حال دخلت
الحرب. ولكن بعد فترة قصيرة من بدء الصراع انضمت تركيا إلى برلين وفينّا. وفي
الثاني من أغسطس وقعت كل من الألمان والعثمانيين معاهدةً سريةً، وبعد وقتٍ قصيرٍ
بدأت سفينتا جيوبن وبريسالو الحربيتان الألمانيتان تبحران من غربي البحر المتوسط
نحو القسطنطينية. وبمجرد وصولهما حيث كانتا تقفان موقف حيادي وبشكل رسمي وتم
تسليمهما إلى الأسطول العثماني وأعيد تسميتهما باسم يافوز ميدللي وبقي الطاقم
الألماني كما هو ولكن ارتدى فقط الطربوش.
وبوصول
السفينتان الحربيتان إلى القرن الذهبي وبدء عملية استخراج المعادن التالية في مضيق
الدردنيل والذي كان سبباً قد أثير، لقد حظر العثمانيون والألمان العلاقة بين روسيا
وحلفائها الفرنسيين والبريطانيين. وبعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ رفرف العلم العثماني على
سفينة جيوبن وتم قصف الموانئ الروسية في البحر الأسود، وفي بداية شهر نوفمبر أعلنت
كل من روسيا وبريطانيا العظمى وفرنسا الحرب على الإمبراطورية العثمانية.
وفي
لندن بدأت الخطط الإستراتيجية تأخذ بعين الاعتبار محاولة كسر حصار مضيق الدردنيل
والسيطرة على القسطنطينية, وكانت النتيجة وصول أسطول بحري بريطاني فرنسي إلى الطرف
الجنوبي من شبه جزيرة غاليبولي بعد ثلاثة أشهر. ولكن الهجوم الذي بدأ بقصفٍ بحريٍ
ثم تبعه بعد ذلك وبشكلٍ سريعٍ اجتياح بريٌ واسعٌ على الأرض قد باء بالفشل بشكل
مفاجئ. لقد دفع نصر العثمانيين اللورد وينستون تشرشل لورد بريطانيا الأول لإمارة
البحر إلى الاستقالة وقدمت بذلك أساساً لظهور الرجل الذي أنشأ تركيا الحديثة بعد
ذلك ألا وهو مصفى كمال أتاتورك. إن الصراع الدموي أدى إلى حدوث صدمةٍ لأستراليا
ونيوزيلندا بسبب فقدان آلاف من جنودهما في جزيرة غاليبولي.
إن
دفاع الحلفاء في شبه جزيرة غاليبولي وضعت نقطة تحول إستراتيجية في الحرب في الشرق
الأوسط لأن خطتهم بضرب قلب الإمبراطورية العثمانية فشلت وبدأ الحلفاء بالتركيز على
المحيط الخارجي مستهدفين بذلك الأقاليم العربية المحمية بشك ضعيف نسبياً. لقد كانت
خطة تتوافق مع رغبة العرب للتخلص من استعباد الحلك العثماني. في يوليو من عام 1915م،
بدأ السيد هنري ماكمهون المندوب السامي لمصر بعمل مراسلات مع شريف الحجاز ومدينة
مكة المقدسة الحسين بن علي. فقد حلم كل من الحسين بن علي وأبناءه علي وفيصل وعبد
الله إضافة إلى حليفتهم دمشق بأن يجدوا الأمة العربية تمتد من جبال طوروس في جنوب
شرق تركيا إلى البحر الأحمر ومن البحر المتوسط إلى الحدود الإيرانية. وفي أكتوبر
عام 1915م، كتب ماكمهون للحسين رسالة صرح فيها برغبة بريطانيا العظمى بالاعتراف
باستقلال العرب ودعمه خاصة لحدود الأراضي التي يعتزم شريف مكة امتلاكها. لقد كان
العرب أوفياءً من جانبهم تجاه الاتفاق. وفي يونيو من عام 1916م، بدءوا تمردهم
وعصيانهم ضد العثمانيين كمساعدةٍ حاسمةٍ للبريطانيين لكي يتقدموا من سيناء إلى
دمشق عن طريق القدس. لقد كانت ثورهم مدعومة من قبل عالم الآثار والعميل السري
البريطاني توماس ايدوارد لورانس, والذي يذكره التاريخ على أنه لورنس جزيرة العرب،
وبالرغم من ذلك فإن بريطانيا لم تنجز بشكل كامل جزئها من الإتفاق.
وفي
برقية كتبها لورانس في بداية عام 1916م، قال إن ثورة العرب ستكون من مصلحة
الإمبراطورية البريطانية لأنها تسير مع أهدافنا القريبة المباشرة وهي تفكيك الجبهة
الإسلامية وإيقاع الهزيمة بالإمبراطورية العثمانية وتمزيقها. ولكن بريطانيا لم تكن
تفكر باتحاد العرب الذي كان يحلم به الحسين وأبناءه، حيث "إن الدول التي سوف
يؤسسها الشريف حسين ليرث عرش الأتراك ستكون مؤذية لأنفسنا" إن العرب هم أيضاً
أقل استقراراً من الأتراك. فإذا تم السيطرة عليها كما ينبغي فإنهم سوف يبقون في
دولة فسيفساء سياسية ونسيج من إمارات تحسد بعضها البعض وغير قادرة على التماسك.
لقد كان الفرنسيون الأكثر أهمية للبريطانيين من رفقاء السلاح العرب الذين كانت قواتهم
العسكرية تقاتل وتموت بأعداد كبيرة في الجبهة الغربية.
الصداقة مع فرنسا
أخبر
رئيس الوزراء البريطاني "ديفيد جورج" نظيره الفرنسي "جورج كليمنسيو"
بأنه يستحق 10 دول كسوريا. لقد كانت فرنسا قوة استعمارية كان لها حق ولمدة طويلة
في الأقاليم المسيحية للإمبراطورية العثمانية، وكانت بريطانيا تفضل إدارة المنطقة
لوحدها ولكن مع وجود عدوتها المعروفة ألمانيا؛ كانت بريطانيا جاهزة لتقسيم الغنيمة
بالتصالح معها.
وتماماً
كما تعامل ماكمهون مع الشريف حسين فإن البرلماني البريطاني السيد مارك سايكس كان
يتفاوض على اتفاق متناقض مع الدبلوماسي الفرنسي فرانسيوس جورج بيكوت. لقد تنبأ
بتقسيم الأقاليم العربية التي مازالت تقع تحت حكم العثمانيين بالطريقة التي سيحصل
بها الفرنسيون على المناطق التي تقع في الشمال والبريطانيين سيحصلون على المناطق
التي تقع في الجنوب. يقول سايكس ملخصا الصفقة وهو في داوننج ستريت في نهاية عام
1916م: كان يجب عليَّ أن أرسم خط من e
في عكا إلى نهاية k في كركوك.
إن
ما يسمى اتفاق سايكس بيكو كان عبارة عن وثيقة امبريالية فاضحة. فلم تأخذ بالحسبان
رغبات الناس المتأثرين وتجاهلت الحدود العرقية المعترف بها والموجودة في العالم
العربي والكردي، وبالتالي فهي أيقظت الصراعات والتي استمرت مصدر عذاب للناس على
مدار 100 سنة لاحقة. ويكتب جيمز بار قائلا أنه "حتى بمقياس الوقت فإنه يعتبر
اتفاق مصالح مخزي".
وعد بلفور
لقد
بقيت الوثيقة طي الكتمان في بادئ الأمر. ومع مرور الوقت انتهت الثورة البلشفية في
موسكو في عام 1917م، وتم الإعلان عن اتفاق سايكس بيكو على الملأ ووقع البريطانيون
بالفعل على اتفاق سري آخر لا يعلم به لا العرب ولا الفرنسيون.
في
الثاني من نوفمبر من عام 1917م، قدم وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور وعداً
للاتحاد الصهيوني في بريطانيا العظمى قائلاً "تأسيس وطن قومي لليهود في
فلسطين". كانت هناك عدة عوامل تحث بريطانيا على منح اليهود المضطهدين حق
تقرير المصير وإعطائهم جزءً من الإمبراطورية العثمانية لإقامة دولتهم.
إن
أحد الأمور الأكثر أهمية يكمن في اتهام الإمبريالية للحكومة البريطانية التي نمت
بشكل صاخب أثناء حدوث الحرب, لا يشارك الإمبرياليون في مجلس العموم البريطاني فيما
يتعلق بتلك الشؤون، لكن ذلك يشعرهم بالقلق خاصة لأن وودرو ويلسون قد تم إعادة
انتخابه كرئيس الولايات المتحدة.
ويقول
ويلسون مترنما في يناير من عام 1917م: "يجب أن تترك الحرية لكل الناس لتحديد
سياستهم وتحديد طريقهم الخاص للتطوير بلا منع أو تهديد أو تخويف", وذلك عشية
دخول أمريكا في الحرب. وفي الوقت نفسه لم يكن ويلسون مدركاً لحقيقة اتفاق سايكس
بيكو لكن البريطانيين ظنوا أنهم أخيراً سيكونوا صادقين مع حلفائهم الجدد. إن إعلان
وعد بلفور على هذا النحو يمكن أن يفهم على أنه محاولة للدفاع ضد الولايات المتحدة المتوقعة
كرد فعل للاستبداد البريطاني المتشكل في الشرق الأوسط.
في
غضون ذلك كان البريطانيون وبمساعدة العرب يواصلون عملياتهم العسكرية على الأرض ضد
مقاومة العثمانيين والألمان المستميتة وبدءوا يتقدمون نحو سيناء وفلسطين ومنها إلى
دمشق. وفي نفس الوقت تقدموا نحو نهر الفرات في بغداد والعراق المحتلة. وبين عام
1915 وعام 1918م، كان هناك أكثر من 1.5 مليون جندي يحاربون في الشرق الأوسط حيث
وقعت المئات من الإصابات في أوساطهم وذلك العدد لا يشمل المليون شخص من الأرمن
والذين قتلوا أو تمَّ تجويعهم حتى الموت في الإمبراطورية العثمانية.
لقد
انتهت الحرب العالمية الأولى في المنطقة في أكتوبر من عام 1918م، بتنفيذ هدنة
مادروس، ولقد هزمت الإمبراطورية العثمانية باستثناء الأناضول وتم تقسيمها بين
الدول المنتصرة وحلفائهم. إن معاهدة السلام التي أنهت السلام تم تنفيذها بشكل إجباري
على الشرق الأوسط لمدة قرن كامل.
عندما
وصل الرئيس الأمريكي ويلسون إلى باريس في بداية عام 1919م، من أجل مباحثات السلام
مع رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ليود جورج والقائد الفرنسي كليمنسيو الذي أصبح
شاهداً لما كان بالنسبة له عرضاً غير متوقع.
إن
قواد الدولتين المنتصرتين كانوا منقسمين بشكل كبير ومشغولين في نزاع خطابي شديد.
لقد أصر الفرنسيون على أنه تم إعطائهم حق لانتداب لبنان وللتوسع بشكل مبالغ فيه
نحو نهر دجلة لتشمل ما يسمى الآن سوريا. وبعد كل ذلك ضمن لهم اتفاق سايكس بيكو
السيطرة على المنطقة.
سؤال الناس
إن
البريطانيين الذين أدركوا حق الانتداب الذي يملكونه في فلسطين، وإن الذي استقبل
معلومات أكثر دقة فيما يتعلق بثورة البترول الهائلة التي سوف تمتلكها في بلاد
الرافدين كانوا معارضين. إن إعطاء فرنسا حق الانتداب في سوريا بعد كل ذلك كان
متناقضاً مع الوعود التي قطعوها للعرب في بداية الحرب. وعلاوةً على ذلك فقد أخذت
بريطانيا على عاتقها محاربة الصراع الدائر في الشرق الأوسط, وذلك بحوالي مليون
جندي وحوالي 125 ألف قتلوا وجرحوا. يقول ليود جورج "لم يكن هناك خلاف على
سوريا لكن الخلاف كان لبريطانيا".
لقد
اقترح ويلسون حلاً. يقول الرئيس الأمريكي "إن الطريقة الوحيدة لنكتشف فيما إذا
كان سكان سوريا سوف يقبلون الانتداب الفرنسي وأن سكان فلسطين وبلاد الرافدين سوف
يقبلون الحكم البريطاني هو أن نعرف ماذا يريد الناس في تلك المناطق. إنها كانت
فكرة بسيطة وبديهية. لقد سافر كل من رجل الأعمال في شيكاغو تشارلز كران وعالم
اللاهوت الأمريكي هنري كنج إلى الشرق الأوسط وقابلا المئات من نبلاء العرب. بالرغم
من أن البريطانيين والفرنسيين قد فعلوا كل ما بوسعهم ليؤثروا في نتيجة الحملة, إلا
أن نتائجهم كانت واضحة. إن السكان المحليين في سوريا لم يرغبوا أن يكونوا جزءا من الانتداب
الفرنسي وإن أولئك الذين يعيشون في فلسطين لم يشعروا بالرغبة في تضمينهم ضمن الانتداب
البريطاني. لقد كانت لندن ناجحة في منع الأمريكان من القيام بعمل مسح في بلاد
الرافدين.
لقد
قدم كران وكنج تقريرهما في شهر أغسطس ونصحوا بعمل انتداب أحادي يوحد سوريا وفلسطين
التي كانت ستُمنح للأمريكان الحياديين بدلاً من القوى الاستعمارية الأوروبية. يجب
أن يصبح فيصل بن الحسين الذي يصفونه بأنه "متسامح وحكيم" رئيساً للدولة
العربية.
إن متخصصي الشرق الأوسط اليوم هم فقط من لديهم
علم بتقرير كنج وكران يقدم واحدةً من أكبر الفرص الضائعة في التاريخ الحديث للشرق
الأوسط. لقد تم إخفاء التقرير في الأرشيف بسبب الضغط الذي مارسه البريطانيون
والفرنسيون ولكن هناك أيضاً سبب آخر ألا وهو المرض الحقيقي الذي أصاب ويلسون في
سبتمبر من عام 1919م، وقد تم نشره للعامة بعد ثلاث سنوات. وبحلول ذلك الوقت وافقت
كل من باريس ولندن على خريطة جديدة للشرق الأوسط بعد أن كانت قد عارضت بشكل
دراماتيكي التوصيات التي قدمها كنج وكران.
لقد
قسمت فرنسا المساحة التي كانت منتدبة عليها إلى دول وهي لبنان وسوريا, بينما حصلت
بريطانيا على الإنتداب على بلاد الرافدين التي سميت فيما بعد بالعراق, ولكن ليس
قبل الاستحواذ على مدينة الموصل الغنية بالنفط. وبين سوريا والعراق وفلسطين التي
كان لهم حق الانتداب عليها أنشأ؛ البريطانيون دولة لامعة تسمى شرق الأردن. وبدلا
من إنشاء الدولة العربية الواحدة التي وعد بها البريطانيون الشريف حسين؛ فإن القوى
المنتصرة قسمت الشرق الأوسط إلى أربع دول وهي التي وبسبب انقساماتها الجغرافية
وبنيتها العرقية والطائفية بقيت دولاً من الصعب السيطرة عليها اليوم.
نتائج كارثية طويلة الأمد
لقد كانوا يعرفون ماذا يفعلون, لقد أُثير الخلاف
قبل توقيع المعاهدات وكان الخلاف يدور حول من سيتحكم بالحدود الشمالية لفلسطين،
ومن ثم رأينا أن إسرائيل كانت المتحكم في تلك الحدود فيما بعد.
لقد
كتب أحد المستشارين في لندن لرئيس الوزراء البريطاني "ليود جورج" قائلاً:
"الحقيقة هي أن أي انقسام في الدول العربية بين حلب ومكة يعتبر غير طبيعيٍ,
وعليه فإن أي تقسيم سيحدث يجب أن يتم اتخاذ قرار بشأنه اعتماداً على متطلباتٍ
عمليةٍ، إن الإستراتيجية تشكل الدليل الأمثل"، في النهاية اتخذ لواء بريطاني
قراراً نهائياً بواسطة مدير من شركة أنجلو فارسية للبترول
لم
يكن العالم العربي المكان الوحيد الذي تُرسم فيه الحدود ويرفضها السكان المحليين.
لقد حدث ذلك أيضاً في أوروبا, لكن عوامل ثلاثة في الشرق الأوسط أدت إلى نتائج
كارثية طويلة الأمد.
العامل
الأول: لأن العديد من الأوروبيين قد بدءوا تطوير
هويات وطنية وطبقات سياسية في بداية القرن التاسع عشر على الأقل. لقد انتزعت الحرب
العالمية الأولى العرب من خيالهم التاريخي. لقد اتخذ العثمانيون نهج عد التدخل
للتحكم في مقاطعاتهم الشرق أوسطية لكنهم قاموا بفعل القليل لتقديم أي نوع من
البناء السياسي للمنطقة أو لتعزيز التطور الفكري والاقتصادي بدرجة عالية.
وعلى
العكس من ذلك فإن قوانين الدولة العثمانية في إشارة أولية لعمل هوية وطنية رسمية
سوف تنفي أو تنفذ حكم قضائي بحق قادة الحركات. لقد أثقل هذا الميراث كاهل الشرق
الأوسط في بداية القرن العشرين إضافة إلى الخلط بين الدين والدول في فترة ما قبل
الحداثة كما أعاق الدين تحقيق مزيد من النمو السياسي.
العامل
الثاني: النزوة التي بسببها أعادت فرنسا وبريطانيا
العظمى رسم حدود المقاطعات العربية في الإمبراطورية العثمانية السابقة وتركت بذلك
شعوراً بأن المؤامرة كانت تنفذ على قدمٍ وساقٍ, هذا الشعور نما وأصبح هاجساً في
العقود التالية.
حتى
اليوم نسمع الخرافة التي تقول بأن اللغز الشائك الذي حدث على حدود الصحراء الواقعة
بين الأردن والمملكة العربية السعودية هو نتيجة قيام شخص بتفجير مرفق الأمين الاستعماري
"وينستون تشرشل" بينما كان يرسم الحدود. هذه بالطبع تعتبر خرافةً سخيفةً
لكنها لم تكن إلى حد ما مختلفةً عن الطريقة التي قسم بها كل من سايكس وبيكو وليود
جورج وكليمنسو المنطقة.
العامل
الثالث: بعكس أوروبا لم يتم تخفيف التوتر الذي تركه
السلام الذي لا يمكن إحلاله في العالم العربي بثورة عنف واحدة. خلال الحرب
العالمية الثانية كانت المنطقة مسرحا أساسيا للحرب.
لكن
الصراع الذي لا يمكن إنهاؤه وهو الذي خلفته الحرب العالمية الأولى إضافة إلى
الآثار المتولدة عن ذلك والتي نشأت نتيجة الحرب العالمية الثانية في أوروبا وقيام
دولة إسرائيل والحرب الباردة والسباق إلى الخليج الفارسي للسيطرة على الموارد هناك
والذي زاد الأمر سوءا لكونه حملاً تاريخياً على كاهل الشرق الأوسط. كل ذلك أدى إلى
حدوث صراعٍ لا نهاية له, ذلك الصراع الذي لم يصل حتى اليوم إلى النهاية بعد, مر
حوالي 100 عام على الحادثة الكارثية التي حدثت في صيف عام 1914م.