• - الموافق2025/09/14م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
حماية النظام الأُسَري .. ضرورة شرعية واجتماعية

فالإنسان بفطرته السليمة وطبيعته الأصيلة يميل إلى أن يعيش في إطارٍ أُسَريٍّ شامل متكامل، يجمعه بالآباء والأجداد، والأبناء والأحفاد، والإخوة والأصهار، ويمنحه الشعور العميق بالأمان، والانتماء، والاستقرار النفسي والاجتماعي


تمهيد

إنّ الحفاظ على النظام الأسريّ ضرورةٌ شرعيةٌ واجتماعيةٌ، وهو مسؤوليةٌ جماعيةٌ، تبدأ من الفرد، وتنتقل إلى الأسرة، ثم تشمل المؤسسات التربوية، والإعلامية، والسياسية.

فالمجتمع الذي تنهار فيه الأسرة، سرعان ما يُصاب بالتفكك، والضياع، والجريمة، والانتحار، والتطرف، والأنانية؛ لأن الأسرة هي الحاضنة الأولى للفرد، والمصنع الأصيل للقِيَم، وإذا صلُحت الأُسَر، صلح المجتمع، وإذا فسدت، فسدت الحياة؛ وشريعة الله جاءت للإصلاح؛ ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا   يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 27- 28].

حاجة الإنسان الفِطْرية إلى النظام الأُسَري

لقد خلق اللهُ الإنسانَ في أحسنِ تقويم، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤]، وأكرمه وفضَّله على كثيرٍ ممن خلقه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ [الإسراء: ٧٠]، وكان من مظاهر تكريم الله تعالى للإنسان أن أمرَ الملائكةَ بالسجود له، وأهبط إبليس من الملأ الأعلى؛ لأنه استكبر أن يسجد لهذا المخلوق الكريم ﴿فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ [البقرة: ٣٤، الأعراف: ١١، الإسراء: ٦١، الكهف: ٥٠].

ومِن نِعَم الله الكبرى على الإنسان أنّه سخَّر له ما في السماوات وما في الأرض، فهو يَغُوص في أعماق البحار، ويرسل آلاته إلى الكواكب البعيدة، ويركب متن الرياح وموجات البحار ليقطع آلافًا مؤلّفة من الأميال، وتبشّره شمسُ كلّ صباح باكتشافاتٍ جديدةٍ وابتكاراتٍ مذهلةٍ، ورغم هذا التفوق العقليّ والمعرفيّ، فإنّ الإنسانَ يظلّ ضعيفَ البنيةِ، محتاجًا إلى الرعاية، عاجزًا عن الاستقلال في بداية مسيرة حياته، فجميع الكائنات الحيّة الأخرى -مقارنةً بالإنسان المولود حديثًا- تقف على أقدامها وتعتمد على نفسها في وقتٍ وجيز؛ فبعضها يبدأ في المشي بعد ساعاتٍ معدودة، وبعضها الآخر بعد أيامٍ أو أشهرٍ قليلة.

أما الإنسان فلا يستطيع أن يفتح عينيه إلا بعد ساعات، ولا ينطق بكلماته الأولى إلا بعد شهور، ولا يخطو خطواته الأولى إلا بعد عامٍ كامل أو يزيد، ولا ينضج عقله ويدرك مسؤولياته الحياتية إلا بعد مرور سنواتٍ طويلة. ولذلك فإنّه يحتاجُ إلى والديه، وأسرته، ومعلميه، ومربيه، وأولي النصح والرعاية من ذوي الحكمة والبصيرة.

ومن هنا تتبدّى حاجة الإنسان الماسّة إلى الأسرة أكثر من أيّ حاجةٍ أخرى؛ فإذا فقد ظلّ والديه أو أحدهما، شعر بوحشة الوحدة كأنّه شجرةٌ بلا ظلّ وارف. وإن لم يكن له إخوةٌ وأخوات، أحسّ بفراغٍ عاطفيٍّ قاتل ووحشةٍ نفسيّةٍ خانقة. وإن حُرم من حنان الجدّ والجدّة، أحسّ بخواءٍ روحيّ كبير. وإذا لم يجد أعمامًا وعمّات، وأخوالًا وخالات، شعر كأنّ الحصن الأسريّ الواقي الذي يحيط به قد تهدّم وانهار.

ثمّ إذا بلغ مرحلة النضج والشباب ولم يجد زوجًا يشاركه مسيرة الحياة ومتاعبها وأفراحها، وجد في أعماق نفسه القلق والتوتّر والاضطراب. وحين يُرزق بالأولاد، يشعر بسعادة نفسية لا تُوصَف، فالحياة دونهم تبدو عبثية خالية من الهدف، وتُكمل أسرته بالأسرة المصاهرة، فتمنحه طاقة نفسية جديدة. وتتحول الأسرة مع الأصهار إلى سندٍ نفسيّ واجتماعيّ إضافيّ.

فالإنسان بفطرته السليمة وطبيعته الأصيلة يميل إلى أن يعيش في إطارٍ أُسَريٍّ شامل متكامل، يجمعه بالآباء والأجداد، والأبناء والأحفاد، والإخوة والأصهار، ويمنحه الشعور العميق بالأمان، والانتماء، والاستقرار النفسي والاجتماعي.

الفوائد الجليلة للنظام الأُسريّ

-الحماية والدفاع المتبادل: إنّ من أجلّ فوائد النظام الأسري توفير الحماية والدفاع المتبادل؛ فالإنسان إذا أُسيء إليه وتعرّض لظلمٍ أو اعتداء، شعر أنه ليس وحده، بل وراءه عائلة كاملة تسانده، وكذلك المعتدي يتردد حينما يعلم أنه يواجه أسرةً بأكملها، لا فردًا معزولًا.

من هذا المنطلق الحكيم، جاءت شريعة الإسلام الغرّاء فجعلت «العاقلة» -وهم أقرباء الجاني- شركاء في دفع الدية، كي يشعر الأقارب بالمسؤولية الجماعية، ويشاركوا في الوقاية من الجريمة، تمامًا كما كان الأمر راسخًا عند العرب قبل الإسلام، ولا يزال سائدًا في بعض المجتمعات القَبَليّة المعاصرة.

-التكافل الاجتماعي والاقتصادي: ومن الفوائد الجوهرية للنظام الأُسري تحقيق التكافل الاجتماعي من خلال إعالة الفقراء والمحتاجين والعجَزة واليتامى والأرامل؛ حيث يُتوقّع من كلّ فردٍ قادر أن يتحمّل مسؤولية أقاربه المعوزين، وفقًا لأحكام النَّفقة والميراث المحكمة في الشريعة الإسلامية، التي تتأسّس على مبدأ الترابط الأسريّ الوثيق. فالأولاد مسؤولون عن إعالة الوالدين ورعايتهما، والآباء مسؤولون عن الأولاد وتربيتهم، والزوجان مسؤولان عن بعضهما البعض، وكذلك أفراد الأسرة الموسرون مسؤولون عن إعانة المحتاجين منهم.

إنّ الإنسان في المنظور الإسلامي ليس فردًا منعزلًا منقطعًا، بل هو جزءٌ لا يتجزّأ من أسرةٍ أكبر، لبنةٌ أساسيّة في بناءٍ اجتماعيّ متماسك، لا يصحّ له أن ينفصل كليًّا عن باقي أفراد الأسرة، ولا يجوز له شرعًا وأخلاقًا أن يعيش لنفسه وحدها بأنانيّة مفرطة، بل هو جزءٌ حيويّ من كيانٍ اجتماعيّ أكبر وأشمل.

-المشاركة الوجدانية في الأفراح والأتراح: أمّا الفائدة الثالثة الجوهرية للأسرة، فتتمثّل في أنّ الأسرةَ تشارك الإنسان أفراحه وأتراحه على حدّ سواء، فتضاعف بهجة الفرح من خلال المشاركة الجماعية الصادقة، وتُهوِّن وطأة الأحزان والمصائب من خلال المواساة القلبية الحانية. فالفرحة التي لا يشارك فيها الأبوان والأقارب الأحبّاء تبقى ناقصة مبتورة، والمصيبة التي لا يُواسي المرءَ فيها أحدٌ من أهله وذويه، تبدو كالجبال الرواسي الثقيلة التي تُحطّم الروح وتُدمّر النفس.

مكانة الأسرة السامية في الشريعة الإسلامية

لهذه الأسباب الجوهرية، عدّ القرآن الكريم الأسرةَ من أجلّ نعم الله تعالى على الإنسان، فجعل للإنسان ثلاثة أُطرٍ أُسريّةٍ متكاملة: أسرة الأب (النسب الأبوي)، وأسرة الأم (النسب الأمومي)، وأسرة الزوجة أو الزوج (المصاهرة). وقد عبَّر القرآن الحكيم عن هذه الأطر الثلاثة بتعبيرٍ جامع: «نسبًا وصهرًا»؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٣]. فالنظام الأسريّ المتكامل نعمةٌ إلهيةٌ جليلة، يُوفّر للإنسان الحماية والرعاية والسكينة القلبية.

لكن أحكام الإسلام الحكيمة -كأحكام الميراث والنفقة- ترشد المسلمين إلى ألَّا يكون حجم المسؤوليات الأسرية مُرهقًا للفرد إلى درجة أن يفقد راحته النفسية، أو تُنتهَك خصوصيته الشخصية المشروعة. فالإسلام لم يُرِدْ للإنسان أن يكون مُنغمسًا في شؤون الأسرة أكثر من اللازم بشكلٍ مُفرط؛ إذ إنّ الإفراط في توسيع الدائرة الأسرية قد يجعل الإنسان داخل بيته الخاصّ كأنّه في السوق العامّ، وقد تؤدّي اختلافات الطباع والأمزجة إلى النفور والتباعد بدلًا من التقارب والتآلف.

لذا، فبينما يعترف الإسلام بأهمية الأسرة الجوهرية ويؤكّد عليها، فإنّه يدعو في الوقت نفسه إلى ضبط حدودها وتنظيم علاقاتها، بما لا يضرّ بالراحة النفسية والاستقرار الشخصي. وهكذا يُرشد الإسلام إلى تحقيق التوازن المطلوب: أسرة مترابطة متماسكة، لكن غير متطفّلة مُتدخّلة، متماسكة متعاونة لكن غير متغوّلة على خصوصيات الفرد وحقوقه المشروعة.

إنّ الأساس المتين الذي يقوم عليه النظام الأسري في الشريعة الإسلامية هو مبدأ «العدل والإحسان» المتكامل؛ فالعدل يقتضي أن تُعامِل كما تُعامَل، ولذلك جُعلت النفقة متناسبة مع نصيب الإرث: فالنفقة واجبة على مَن يحتمل أن يرث الشخص، وبمقدار نصيبه المحتمل من الإرث. أمّا الإحسان، فهو أن تُحسن إلى مَن لا يُحسن إليك بالضرورة، أي علاقة مبنية على الإيثار والفضل ومجرّد القربى والصلة الطبيعية، ويكون ذلك من باب التطوّع والتفضّل والكرم.

وهكذا فإنّ الأسرة في المنظومة الإسلامية تقوم على مبدأ التوازن الدقيق بين «الحقوق الشرعية الثابتة» و«الروابط العاطفية المتدفّقة»، وبين «الواجب القانوني المحدّد» و«الفضل الأخلاقي المفتوح».

الدور المحوري للمرأة في النظام الأسري

للمرأة دورٌ جوهريّ لا غِنَى عنه في تكوين الأسرة وحمايتها والمحافظة على تماسكها؛ فهي التي تحتضن الأولاد في أحشائها وبين ذراعيها، وتربطهم بآبائهم وأقاربهم بخيوط المحبّة والحنان، وتجمع في شخصيتها بين رقّة الأمّ الحانية ومحبّة الزوجة المخلصة.

وهذا الدور الفريد يتطلّب أن تكون المرأةُ مفعمةً بالعاطفة الجيّاشة، شفافةَ الإحساس المرهف، ذاتَ قلبٍ مليءٍ بالرحمة والشفقة. وهذه الخصائص النفسية والعاطفية، وإن كانت فضائل عظمى ومزايا كريمة؛ إلَّا أنّها قد تُؤثِّر أحيانًا على القدرة على اتّخاذ القرارات العقلانية الصارمة في بعض المواقف الحسّاسة.

لهذا السبب، شدَّد الإسلام على إعطاء النساء حقوقهنّ كاملة غير منقوصة، وصون كرامتهنّ الإنسانية، ومنع استغلال ضعفهنّ الطبيعي أو العاطفي، وأوصى بهنّ النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- في خُطَبه ووصاياه المباركة أعظم وصية، وأكّد بوضوح تامّ أنّ هضم حقوق النساء أو إرغامهنّ على ترك بيت الزوجية المقدّس وإهمال الأمومة الفطرية، وإجبارهنّ على العمل خارج البيت لمجرّد سدّ الحاجات المالية، سيُؤدّي حتمًا إلى انهيار الأسرة انهيارًا كاملاً.

المأساة الحضارية: تجربة الغرب المرّة

وهذا هو بالضبط ما حدث فعلًا في المجتمعات الغربية المعاصرة؛ حيث استُدرجت المرأة إلى سوق العمل الشاقّ خدمةً للمصالح المادّية البحتة، والبحث عن الأيدي العاملة الرخيصة، وتحقيق النموّ التجاري والاقتصادي، تحت شعارات براقة مضللة مثل «المساواة بين الجنسين»، و«التحرّر الاقتصادي للمرأة». وجُعلت المرأة أداةً استهلاكية للإعلانات التجارية والدعايات المختلفة، حتى صارت مُطالبة اجتماعيًّا بأن تعمل وتكسب وتلبِّي جميع حاجاتها المالية بنفسها دون الاعتماد على أحد.

ونتيجةً لهذا الانحراف الخطير عن الفطرة السليمة، فقدت الأسرة توازنها الطبيعي، وتدهورت العلاقة بين الزوجين، وانتشرت حالات الطلاق بصورة مُفزعة، وازداد تفضيل العلاقات غير الشرعية على الزواج الشرعي، وانخفض معدّل الولادة انخفاضًا حادًّا، وازداد الزنا والعلاقات المحرّمة، وكثُر الأطفال مجهولو النسب، ولجأ الناس إلى المخدّرات والمسكرات هربًا من واقع الحياة الزوجية الفارغة العبثية، وانهارت علاقات الرحمة الطبيعية بين الآباء والأبناء، وأصبح النظام الأُسري برُمّته في حالة تفتُّتٍ شديد وانهيارٍ مُدمِّر.

من أهمّ أسباب انهيار الأسرة وتفكُّكها في عصرنا

يرجع تفكك الأسرة في العصر الحديث إلى عوامل كثيرة؛ من أهمها ما يلي:

-الاختلاط المفرط دون ضوابط شرعية: فقد أتاح الانفتاح الإعلامي، والتعليم المختلط، والعمل المشترك بين الجنسين، فرصًا متزايدة للتواصل بين الرجال والنساء خارج نطاق الزواج، مما أدّى إلى انهيار الحياء، وتدنّي قيمة العفّة، وشيوع العلاقات العابرة، وبالتالي عزوف كثير من الشباب عن الزواج.

-ضعف التديّن وانهيار القِيَم الأخلاقية: حين تتلاشى الرقابة الإيمانية من القلوب، وتُستبدل القيم الموروثة بقيم غربية مادية، تصبح الشهوة هي المعيار، والمصلحة هي الحَكَم، فتفقد الأسرة مكانتها، ويُستبدل الزواج الشرعي بعلاقات لا مسؤولية فيها.

-الدعوات النسوية المتطرفة: روّجت بعض التيارات النسوية الغربية لفكرة التمرُّد على الأسرة، ووصفت الزواج بأنه عبودية جديدة، وصوّرت المرأة المتزوجة بأنها مقموعة، فاستجابت بعض النساء لهذه الدعوات، وطالبن باستقلالية تامة عن الرجل، حتى داخل بيت الزوجية، مما أدَّى إلى تصادم الأدوار، وغياب التناغم الأسري.

-الجهل بالحقوق والواجبات الأسرية: كثير من الأزواج والزوجات يدخلون مؤسسة الزواج دون تأهيل شرعي أو معرفي أو نفسي، فيجهلون حقوق بعضهم بعضًا، ويُخطئون في التعامل مع الخلافات، فيقودهم الجهل إلى الطلاق أو التنافر أو الجفاء العاطفي.

-وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات: أصبح الهاتف الذكي منافسًا صامتًا داخل الأسرة؛ حيث يجلس كل فرد منعزلًا في ركنه، يتفاعل مع العالم الافتراضي أكثر مما يتفاعل مع أُسرته، فغابت لغة الحوار، وقلت المشاركة، وظهرت المقارنات السلبية، والشعور بالنقص، أو الرغبة في تقليد حياة الآخرين الزائفة.

النتائج المدمّرة لتفكّك الأسرة

أولاً: مأساة كبار السن ووحدتهم القاتلة: لقد صار العيش بالنسبة لكبار السن عسيرًا مُرهقًا إلى أقصى الحدود؛ إذ أصبحوا يعيشون وحدةً قاتلة مُدمّرة، إمّا في دور العجزة والمسنّين الباردة؛ حيث لا يزورهم أولادهم إلاّ مرّةً أو مرّتين في السنة على سبيل أداء الواجب الشكلي، أو يعيشون في عزلةٍ اجتماعيّة خانقة داخل بيوتهم المهجورة، فلا يجدون مَن يسقيهم كأس ماءٍ بارد أو يُطعمهم لقمةً شهيّة، ولا من يؤنسهم بكلمةٍ طيّبة أو يُخفّف عنهم بابتسامةٍ صادقة، حتى أصبحت الحياة بالنسبة إليهم أمرّ من الموت وأقسى من العذاب.

ثانيًا: النساء ضحايا النظام الجديد: إنّ الضرر الثاني الفادح الناتج عن تفكّك النظام الأسري يُصيب النساء بصورةٍ أشدّ وطأةً وأعمق تأثيرًا؛ إذ إنّ الصحة الجسدية للمرأة بطبيعتها البيولوجية أكثر عرضةً للتدهور السريع، بسبب ما تتعرّض له من آلام الحمل والولادة والتغيّرات الهرمونية المعقّدة المرتبطة بها، فتتأثّر صحّتها العامّة بسرعة أكبر من الرجل. ومع تقدّم العمر، لا تتلاشى ملامح الجمال الظاهري فحسب، بل تتأثّر أيضًا قواها العقلية والنفسية بصورة ملحوظة وتدريجية.

وفي المجتمعات التي يُختزل فيها دور المرأة ليصبح مجرّد أداة للمتعة الجسدية العابرة والإشباع الحسّي المؤقّت، تُصبح المرأة التي فقدت نضارة شبابها وعلامات جمالها الخارجي بلا قيمة تُذْكَر في نظر المجتمع. لهذا السبب العميق، تشعر كثيرٌ من النساء في المجتمعات الغربية بقلقٍ وجوديّ عميق واضطرابٍ نفسيّ مزمن مستمرّ. ولعلّ هذا هو أحد الأسباب الجوهرية الكامنة وراء تزايد إقبال النساء في الغرب على اعتناق الإسلام، مقارنةً بالرجال، لما يجدنه في الإسلام من تكريمٍ حقيقيّ للمرأة وتقديرٍ عميق لإنسانيّتها وكرامتها، بعيدًا عن الشكل الخارجي والمظهر الزائل.

ثالثًا: الأطفال يدفعون الثمن الباهظ: أمّا الضرر الثالث المأساوي، فهو الذي يُصيب الأطفال الأبرياء؛ إذ حين يُنتزع جوهر العلاقة الأسرية الدافئة من الحياة، وتُصبح الحياة متمحورة حول اللهو الفارغ واللذّة العابرة والأنانية المُطلقة، فإنّ كلّ ما يُعيق هذه المتع الزائفة يُنظر إليه كعبءٍ ثقيل لا يُحتمل ومُعوّق مُزعج لا يُطاق.

في مثل هذه الحياة المتحرّرة من القِيَم والأخلاق، يُنظر إلى الأطفال على أنّهم قيدٌ صارم على حرّية الوالدين المُطلقة، فهم يُشكّلون عائقًا كبيرًا أمام المرأة العاملة الطموحة، ويُعدّون مصدر قلقٍ إضافيّ وتعقيدٍ نفسيّ في ظلّ تفشّي الخيانة الزوجية وغياب الالتزام. ويُطرَح التساؤل المؤلم: «إذا افترقنا، مَن سيتحمل مسؤولية هؤلاء الأطفال؟»، من هنا نلحظ أنّ المجتمعات الغربية تسعى إلى الهروب من الإنجاب، وإن وُجد الأطفال، فإنهم غالبًا يُودَعون في دور الرعاية، فلا يرَون من حنان الأم وشفقة الأب إلا لِمَامًا، ربما ليوم أو يومين في الأسبوع، مما يخلّف آثارًا نفسية عميقة في نفوسهم.

رابعاً: فقدان الهوية، أحد أعمق الآثار: ومن أخطر هذه الأضرار التي تنتج عن انهيار النظام الأسري فقدان الهوية. فقد غرس الله تعالى في فطرة الإنسان حبّ التميّز والانتماء، فهو يرغب في أن تكون له هوية واضحة المعالم، تتّصل بمدينته، وبيته، وتجارته، وأهمّ من ذلك كلّه: بنَسَبه إلى أبويه وعائلته؛ إذ تُعدّ هذه الهوية الفطرية مصدرًا للفخر والاعتزاز. أما مَن يُحرَم من هذه الهوية، فإنّه يعيش حالة من الاضطراب النفسي، قد تتفاقم إلى أمراض نفسية خطيرة، بل وقد تؤدي ببعضهم إلى الانحراف والسلوك الإجرامي. وتُظهر الدراسات الاجتماعية أنّ تفكك الأسرة، والعزوف عن الزواج، وشيوع الزنا، وولادة أطفال مجهولي النسب قد ساهمت في ارتفاع معدّلات الجريمة في الدول الغربية.

خامسًا: فقدان السكينة، أعظم الخسائر الإنسانية: إنّ أعزّ ما ينشده الإنسان هو سكون القلب وطمأنينة النفس، وهذا السكون لا يتحقّق إلا من خلال العلاقة بالله تعالى، أو من خلال العلاقات الإنسانية الأصيلة. وما من شيء يضاهي في راحته وسكينته لحظةَ احتضان الطفل بين يدي والديه، فهذه الطمأنينة لا تُقاس بأيِّ نعمة مادية. وكذلك ما يناله الوالدان من سرور وراحة قلبية حينما يُدلّك الابن البارّ رأس أبيه أو ويقبّل أيديهما لا يمكن أن يُقدَّر بثمن، ولا يُمكن أن يُعوَّض بأفخر ما في الدنيا من أَسِرَّة مطلية بالذهب والفضة. كما أنّ الزوج والزوجة لا يجدان بديلًا يُغنيهما عن دفء العلاقة الزوجية، ومودّة الأخ لأخته لا تُشبهها أيّ علاقة أخرى.

لكن حين تتفكّك الأسرة، تتفتّت الروابط العائلية، تمامًا كما لا يُمكن لمصباح بلا كهرباء أن يُضيء، فإنّ العلاقات الخالية من الروح والمودّة لا تمنح الإنسان سكينة القلب. ومن هنا، فإنّ المجتمعات الغربية، بل حتى المجتمعات المتأثرة بها، تعاني من ارتفاع معدّلات الأرق، والاكتئاب، والانتحار بشكل غير مسبوق. ولا ريب أنّ بقاء النظام الأسري وتماسكه نعمة عظيمة من الله، بينما تفكّكه يُعدّ من أعظم الابتلاءات الاجتماعية في العصر الحديث.

عولمة التفكك الأسري

لم تقتصر العولمة على تصدير السلع والمنتجات الغربية إلى بلاد الشرق فحسب، بل شملت أيضًا تصدير الفكر والثقافة ونمط الحياة الغربية إلى مجتمعاتنا. ونتيجةً لذلك، نُلاحظ تنامي نمط معيشي بين الشباب -لا سيما الفتيات-، يقوم على الانفصال عن الأسرة والتفلّت من روابطها، بحيث لا يرغب أحدهم في خدمة والديه أو الخضوع لأوامرهم.

لقد أصبح الوالدان -اللذان جُعلت الجنّة تحت أقدامهما، وسُمّيت طاعتهما من أبواب الجنّة- عبئًا ثقيلًا في نظر أبنائهم. وصارت نصائح كبار العائلة، المستندة إلى الخبرة والحكمة، تُعتبر تدخّلًا غير مُرحَّب به. وأخذت روابط الوفاء في الزواج تضعف، كما تنامى الميل إلى تجنُّب الإنجاب، ولم يَعُد كثيرٌ من الناس يشعر بمسؤولية تجاه إعالة الأقارب المحتاجين أو رعايتهم.

باختصار، يُواجه نظام الأسرة في مجتمعاتنا خطر التفكك والانهيار، وهو ما يُحتِّم علينا العمل الجادّ للحفاظ عليه، والوقوف في وجه تيار التغريب الذي يسعى إلى طمس مفهوم الأسرة وتصويره على أنّه مجرّد تقليد قديم بالٍ، غير مناسب للعصر الحديث. إنّ الغرب -الذي يَحترق اليوم بنار تفكّك الأسرة- يُريد أن يُلقي بنا في نفس المستنقع، فعلينا أن نرفض هذا المصير، وأن نحافظ على تراثنا الأُسريّ، باعتباره صمّام أمان المجتمع وروح الحضارة.

سبيل إصلاح الأسرة وحمايتها هو العودة إلى نظام أُسري إسلامي متكامل

لا يمكن بناء أسرة قوية ومتوازنة إلا باتباع نَهْجٍ شامل يجمع بين الجانب الشرعي والتربوي والاجتماعي، فالعالم اليوم بحاجة ماسّة إلى نموذج أُسري متكامل، يُعيد للإنسان سكينته، ويمنحه الشعور بالأمان، ويربطه بجذوره، ويُشبع حاجاته العاطفية والروحية. والنموذج الإسلامي للأسرة لا يقوم فقط على العلاقات البيولوجية، بل على روابط المودّة والرحمة والحقوق والواجبات؛ حيث الزوج والزوجة شريكان في الحياة، متكاملان في الأدوار، والوالدان مسؤولان عن التربية والرعاية، والأبناء مُلزَمون بالبرّ وردّ الجميل. كلّ فرد يَعرف دوره ويؤديه بمحبة، بعيدًا عن الأنانية والفردانية.

ولقد حافظ المسلمون طوال قرونٍ على هذا النموذج الأسريّ الراقي، فازدهرت العلاقات العائلية، وتكافل الأقارب، وشعر الفرد أن له ظهرًا وسندًا، وكان لكلمة «الأسرة» معنى واسع يشمل الأجداد والأحفاد والأعمام والعمات، فكانت البيوت مملوءةً بحياةٍ، وروحٍ وجيرةٍ ورحمة.

لكن مع الأسف، بدأ الانهيار يُصيب هذا النظام أيضًا في العالم الإسلامي، نتيجة التغريب الفكري، والإعلام المنفلت، وتراجع الفقه الأسري، وانشغال الناس بالمظاهر على حساب الجوهر، مما يتطلب منا «نهضةً أسريةً» جديدة، تقوم على وعيٍ دينيٍّ، وفهمٍ اجتماعيٍّ، وتخطيطٍ واقعيٍّ.

ولتحقيق ذلك، لا بد من العودة إلى منهج الإسلام في هذا المجال، وبثّ الوعي الأُسري من خلال مناهج التعليم، وخطب الجمعة، والدروس العامة، والبرامج الإعلامية، وإعادة الاعتبار لدور الأسرة في المجتمع، وتقديم الدعم المادي والمعنوي لها، وحماية الأمهات العاملات، وتيسير الزواج، وتحفيز الإنجاب، وتكريم كبار السن، وتعزيز مفهوم القوامة والبرّ والصلة والرحمة والإيثار والتعاون بين أفراد الأسرة.

إنّ حماية النظام الأُسري ليست مسؤولية فرد واحد، بل هي مسؤولية جماعية، تبدأ من البيت، وتشمل المدرسة، والمسجد، والمجتمع، والدولة، ووسائل الإعلام، ومؤسسات التعليم، والثقافة. وكلّ خلل في هذه المنظومة ينعكس على كيان الأسرة. فإذا ما أردنا مجتمعًا قويًّا متماسكًا، فلا بدّ أن نُعيد للأسرة مكانتها، ونوفّر لها أسباب الاستقرار، ونُعينها على أداء دورها الحضاري.

خاتمة

إنّ الأسرة هي نواة المجتمع، والركيزة التي يقوم عليها البناء الإنساني. وحين تنهار الأسرة، ينهار الإنسان، ويتحوّل إلى آلة مادية بلا روح. وحين تقوم الأسرة على أُسُس متينة من الإيمان، والمودة، والتكافل، تنتج أجيالًا قوية، قادرة على حمل الرسالة، وصناعة الحضارة، وتحقيق الخير للبشرية. فلْنُحسن إلى أُسَرنا، ونحافظ على هذا الكنز العظيم الذي حبانا الله به.

والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

أعلى