• - الموافق2025/03/31م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مقاصد التربية في عبادة

كان من هديه صلى الله عليه وسلم الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، وللاعتكاف مقصد عال من تربية النفس على العبودية، وانقطاعها من مشاغل الدنيا وتشغيبها. وحصر القلب على التفرغ للعبادة.


من رحمة الله تعالى بالمؤمنين أن أوجد لهم مواسم زمانية يضاعف فيها الأجر على العمل الصالح، وتكتنفها نسائم الرحمة واللطف، يدركها المؤمن؛ فيرق قلبه، ويقبل راغبًا متعرضًا لنفحات الله تعالى، ومن أجلّ تلك الأزمنة العشر الأواخر من رمضان، لما فيها من غنيمة ليلة القدر، تلك الليلة التي عظّمها الله تعالى في كتابه، قال تعالى: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ 

وقد شرع الله لنا عبادة الاعتكاف ليقيمنا في المساجد ملازمين للعبادة، متهيئين لموافقة ليلة القدر التي جعلها الله تعالى خيرٌ من ألف شهر.

ومعنى الاعتكاف لغةً: هو لزوم الشيء وحبس النفس عليه.

وفي الشريعة: لزوم المسجد والمكث فيه بقصد التعبد لله وحده لا شريك له.

ودخول المسلم في عبادة الاعتكاف يعدّ نوْعًا عاليًا ومركّزًا من التربية الربانية والتزكية النبوية، فقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾

وواظب النبي صلى الله عليه وسلم على اعتكاف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، عن عائشة رضِي الله عنها قالت: "كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يعتَكِف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله، ثم اعتَكَف أزواجه من بعده"

فلهذه العبادة الجليلة أثرها المتزايد على إيمان المسلم وسلوكه، ما داوم عليها صاحبها عامًا بعد عام، حتى تتزكّى نفسه ويصبح الاعتكاف بمثابة بوصلة التصحيح التي تصوب له مسيره نحو غايته.

ولتشريع عبادة الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان مقاصد وغايات تربوية واضحة، من أهمها:

-                   تربية النفس على اغتنام شرف الزمان والتعرض لنفحات الله تعالى

وتكرار الأزمنة الفاضلة وتعددها من عظيم رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين،  يمثل منهجًا إسلاميًا أصيلًا في تربية النفوس على الاستشراف لمعالي الأمور، والترفّع عن إضاعة العمر في سفاسفها، واستثمار الفرص كلما سنحت، وعدم تفويتها، وأن إضاعتها مع القدرة على الاجتهاد فيها هو من الخذلان والغفلة، قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾  [البقرة:148] قال الشيخ السعدي: "والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها، يتضمن فعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل، من صلاة، وصيام، وزكوات وحج، عمرة، وجهاد، ونفع متعد وقاصر".

 

والمعتكف قد وهب نفسه كلها، وفرّغ وقته كله لله تعالى ما دام في اعتكافه، وبهذه الدُرْبة يتربى على تطبيق مفهوم العبودية لله تعالى في جوانب حياته كلها بعد خروجه من الاعتكاف

-                   تحصيل ليلة القدر 

من أعلى مَقاصِد الاعتكاف تحصيلُ ليلة القدر، وما فيها من غنائم الأجر؛ بالتفرُّغ في ليلتها للتعبّد والدعاء؛ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ (أي: خيمة صغيرة) عَلَى سُدَّتِهَا (أي: بابها) حَصِيرٌ. قَالَ: فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فَكَلَّمَ النَّاسَ، فَدَنَوْا مِنْهُ، فَقَالَ: إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ فَقِيلَ لِي: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ".

وقيام ليلة القدْر وإحياؤها أفضل من أن ينقطع المسلم عبادةً لله ثلاثة وثمانين عاما وأربعة أشهر، وهو ما لا يستطيع الإنسان فعله في أمةٍ توسطت أعمارها بين الستين والسبعين..!

وأوْلى الناس وأسعدهم بشهود ليلة القدر من بداية وقتها وحتى انتهائه هو المعتكف، حيث يكون قابعًا في مسجده، ملازمًا للعبادة، ذاكرًا لله تعالى في جميع أحواله، متحريًا هذه الليلة المباركة.

- تعميق مفهوم العبودية في نفس المعتكف

حيث يعايش معنى العبودية الحقة لله رب العالمين، تطبيقًا مكثّفًا لصنوف وألوان التعبد  الموصلة إلى هذه الغاية العظيمة التي من أجلها خلق الله الإنسان، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، والمعتكف قد وهب نفسه كلها، وفرّغ وقته كله لله تعالى ما دام في اعتكافه، وبهذه الدُرْبة يتربى على تطبيق مفهوم العبودية لله تعالى في جوانب حياته كلها بعد خروجه من الاعتكاف، فيجعل من واقعه مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾.

- متابعة السُنّة النبوية؛ طلبًا لمحبة الله عزّ وجلّ:

الكثير من المسلمين اليوم تقتصر محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم على المحبة القلبية والصلاة عليه حين يُذكر، في حين يغفلون أو يتكاسلون عن التطبيق العملي لسنته الشريفة في التعبّد لرب العالمين، ومنها سنة الاعتكاف، يقول اِبْن شِهَاب الزهري: "عَجَبًا لِلْمُسْلِمِينَ، تَرَكُوا الاعْتِكَاف، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتْرُكْهُ مُنْذُ دَخَلَ الْمَدِينَةَ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تعالى".

وهذا التطبيق للسنّة العملية من الأهمية بمكان؛ إذ به تحصل المتابعة النبي صلى الله عليه وسلم والتي هي سبيل العبد إلى محبة الله تعالى له، وتلك والله أشرف الغايات وأعلى المقامات، قال تعالى:﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.

- جمع القلب على الله تعالى

طبيعة أعمال الاعتكاف من ملازمة العبادة والذكر مع الإخلاص فيها لله تعالى، وطبيعة هيئته من الانقطاع عن الناس، والبعد عن الصوارف والشواغل، والامتناع عن بعض المباح (كمباشرة النساء)، والتقلل من بعضه الآخر (كالطعام والشراب والنوم)، كل ذلك من شأنه أن يفرّغ القلب للإقبال على العبادة وتذوّق حلاوتها، فتزيد صلة المؤمن بربه ويمتليء قلبه بمحبته وتعظيمه، وذلك من مقصود الاعتكاف وروحه كما يقول ابن القيم رحمه الله: "عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخَلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه، والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يُفرح به سواه، فهذا هو مقصود الاعتكاف الأعظم".

وكلما لازم الاعتكاف عامًا بعد عام حصل له من اجتماع قلبه على مولاه جلّ وعلا بحيث يَصِير ذكرُه وحبُّه والتفكُّر في تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، والاستقامة على مقتضى أمره ونهيه؛ أحب إليه من الماء البارد،

يقول ابن القيم رحمه الله: "في القلب شعث لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا".

إن في المواظبة على عبادة الاعتكاف فرصة دورية للمؤمن كي يحاسب نفسه، ويصحح أعماله، فيحمد الله تعالى على ما وفِّقَ إليه من عملٍ صالح، ويعقد النية على الثبات عليه والزيادة، ويتوب إلى الله تعالى مما ألَمَّ به من سوء عازمًا على عدم العودة إلى ذنبه، سائلًا الله تعالى العفو والعافية، عن عائشة رضي الله عنها قالت:" قلتُ: يا رسولَ اللهِ أرأيتَ إن علمتُ أيَّ ليلةِ القدرِ ما أقولُ فيها؟ قال: قولي: اللهمَّ إنك عفوٌّ تُحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي".

 

أعلى