ما هي طبيعة الموقف التركي من مجريات الأحداث في سوريا، وما هي حقيقة المكاسب التي تكون قد حققتها تركيا من انتصار سقوط نظام بشار الأسد، وكيف وصلت إلى تلك المرحلة، وما مستقبل النفوذ التركي في سوريا؟
"تركيا
هي الفائز الأكبر في سوريا"
هذا ما قاله الرئيس
الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، تعليقًا على اجتياح الجماعات الثورية السورية
محافظات سوريا المختلفة وصولاً إلى دمشق وإسقاط نظام بشار أسد.
واعتبر ترامب في حديثه
للصحفيين في مقر إقامته بولاية فلوريدا، أن أنقرة سيكون معها مفتاح الأحداث في هذا
البلد.
وبصرف النظر عن رأي ترامب،
فإنه لا يكاد يختلف أحد وصولا إلى الإجماع بين المراقبين، على أن أكثر الأطراف
استفادة من سقوط نظام بشار الأسد هي تركيا، ويعتبرها آخرون كونها أهم فائز جيو
استراتيجي مباشر مما تشهده سوريا.
مرحلة جني
المكاسب
هناك أربعة مكاسب سوف
تجنيها تركيا من انتصار الفصائل الثورية السورية: إزالة التهديد الكردي على حدودها
الجنوبية، تقليل ضغط مشكلة اللاجئين السوريين، فتح فرص اقتصادية للشركات التركية في
جهود إعادة الاعمار، وأخيرا انتصار جيوسياسي يتمثل في صعود تركيا إقليميا وعالميا.
أولا بالنسبة
للأكراد:
لطالما مثّلت الجماعات
الانفصالية التركية هاجسا كبيرا للدولة التركية، وهذا الخوف التركي ينبع من طموح
تلك الفصائل الكردية في إقامة دولة للأكراد في مناطق تجمعهم في تركيا والعراق
وسوريا وإيران، وهذا الانفصال تعتبره تركيا خطرا على أمنها القومي، ومما زاد من
خطورة الملف الكردي هو تدخل أطراف إقليمية ودولية، واستخدامها الورقة الكردية في
محاول كبح جموح حكومة العدالة والتنمية في الصعود الإقليمي والدولي.
وعقب نجاح فصائل الثوار
(والتي احتضنتها تركيا) في إسقاط النظام السوري، شرع الجيش التركي معتمدا على بعض
الفصائل السورية في شن هجمات على مواقع الأكراد، فنجحوا في طرد الفصيل الكردي
الرئيس في سوريا (والذي يعرف اختصارا بقسد) من محافظة دير الزور، ومن مدن في ريف
حلب الشرقي في تل رفعت وفي منبج، وعندما شرعت الفصائل السورية في تطهير مناطق شرق
الفرات وبالذات المدينة الرئيسة في المنطقة وهي عين العرب، تدخلت القوات الأمريكية
ودشنت لها نقطة ارتكاز في تلك المدينة وطلبت من الأتراك التوقف.
ولكن أردوغان يراهن على
مجيء ترامب في خلال أسابيع قليلة، والذي يرغب في سحب القوات الأمريكية، وقد أعاد
التذكير بذلك مؤخرا في كلمة له.
فإسقاط ثوار سوريا للنظام
السوري بتشجيع تركي، ستحولها تركيا إلى ورقة رابحة لها في الصراع مع الجماعات
الكردية المسلحة، بتجنب الضغط الدولي المباشر، ففي السابق خاصة عام 2016 عندما
حاولت تركيا التحرك ضد الأكراد بمفردها، أوقفها دونالد ترامب، وكانت هناك ضغوط
دولية غير مسبوقة.
ولكن هذه المرة، وبعد وصول
الثوار إلى دمشق وتشكيلهم للحكومة، فسيتم التعامل مع استخدام القوة ضد الأكراد، ضمن
إطار القضية السورية الداخلية، وبسط الحكومة الجديدة سيطرتها على كل الأراضي
السورية، ولا يستطيع حينها أحداً أن يكون قادر على إلقاء اللوم على تركيا.
والمسار الذي ستسلكه تركيا مع الجماعات المسلحة الكردية في سوريا، إما يسير في
اتجاه التوقف حتى تسلم ترامب الرئاسة، أو استغلال الأيام القليلة القادمة في قضم
مناطقها، والتوقف عند عين العرب والتي تتواجد فيها نقطة ارتكاز عسكري أمريكي، ويبدو أن هذا هو الخيار
الأفضل لتركيا.
ثانيا قضية اللاجئين
أما المكسب الثاني الذي
ستجنيه تركيا بتغير النظام في سوريا هو ملف اللاجئين، والذي كاد أن يتسبب في خسارة
حزب العدالة الانتخابات البرلمانية وخسارة أردوغان كرسي الرئاسة، فقد نجحت المعارضة
في جعل قضية وجود اللاجئين السوريين قضية قومية، يتجلى فيها التعصب القومي التركي،
وعبثا حاول أردوغان وأنصاره تفكيك هذا التعصب، ولكن لم يحقق تقدما كبيرا في ذلك
المجال.
|
إن التمدد التركي ليس تمددا استعماريا يريد التفرد بالزعامة في المنطقة، بل
يريد إشراك العرب في تقاسم الأرباح، وذلك في أعقاب ما بدا فيه المشروع
الإيراني أنه على وشك الانهيار، وهذا ما تجلى في المشاركة التركية في
اجتماع العقبة والذي شاركت فيه الأطراف العربية المعنية بالأزمة السورية |
ومن المعلوم أن تركيا كانت
قد استقبلت أكثر من 3.7 مليون سوري بعد اندلاع الثورة السورية ضد نظام بشار أسد عام
2011، ولكن بمرور الوقت تقلص عدد المسجلين السوريين في تركيا إلى أقل من ثلاثة
مليون، وتتهم المعارضة التركية الحكومة بإخفاء الأرقام الحقيقية، بينما تقول
الحكومة أن عددًا من اللاجئين قد خرج من تركيا نتيجة بعض الممارسات العنصرية
التركية والتي تحرض عليها المعارضة.
ولكن نجاح الثوار في إسقاط
النظام السوري، جعل الحكومة التركية تتنفس الصعداء في قضية اللاجئين ونزع ورقة هامة
من أيدي المعارضة ضدها.
لذلك سارعت الحكومة
التركية إلى تشجيع السوريين على العودة إلى أراضيهم، وذلك حين أعلن وزير الداخلية
التركي في تصريحات لوكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية: إن السوريين الراغبين في
العودة إلى بلادهم يمكنهم أن ينقلوا معهم جميع ممتلكاتهم ومركباتهم، ويمكنهم تقديم
طلب عبر الموقع الإلكتروني لرئاسة إدارة الهجرة، وأخذ موعد في اليوم نفسه، وأضاف أن
الرئيس رجب طيب أردوغان أصدر تعليمات بخصوص السماح لشخص من كل أسرة بالمغادرة إلى
سوريا، والعودة منها 3 مرات خلال الفترة الممتدة من يناير إلى يوليو 2025، لتسهيل
ترتيبات عودة أسرته.
ثالثا الفرصة
الاقتصادية
يبدو أن الفرص الاقتصادية
التركية والتي دائما يهتم بها صانع القرار في تركيا، أصبحت أكثر من واعدة بعد سقوط
نظام أسد.
وتتراوح الفرص الاقتصادية
في مجالات الصادرات التركية، والاستثمارات في مجال الطاقة، ومشروعات إعادة الإعمار.
فقد صرح رئيس اتحاد مصدري
جنوب شرق الأناضول فكرت كيلجي، إن انتهاء الحرب السورية يفتح المجال لفرص اقتصادية
جديدة، مشيرا إلى أن الأولوية تتمثل برفع حجم الصادرات لأكثر من مليار دولار.
وأشار كيلجي إلى الروابط
التاريخية والاجتماعية القوية بين تركيا وسوريا، مؤكدًا أن مدينتي حلب السورية
وغازي عنتاب التركية، تشكلان نموذجًا للعلاقات التجارية والصناعية المتجذرة التي
استمرت لعقود طويلة.
وأكد أن تركيا مستعدة
لتكون شريكا اقتصاديا رئيسيا في إعادة إعمار سوريا، مشددا أن التنوع الصناعي في
منطقة جنوب شرق الأناضول يمكن أن يلبي احتياجات سوريا في مختلف القطاعات.
وأوضح كيلجي أن الخطة
الأولية لتعزيز العلاقات التجارية بين البلدين تتمثل في رفع حجم الصادرات التركية
إلى سوريا إلى أكثر من مليار دولار، مع توقعات باستمرار ارتفاع الرقم مع تطور
العلاقات الاقتصادية.
وقال: عودة السوريين إلى
وطنهم والمشاركة في جهود إعادة البناء يمكن أن يعزز التعاون الثنائي ويزيد من
النشاط التجاري الإقليمي.
وقد قال وزير الخارجية
التركي بالحرف بعد زيارته لدمشق، إن تركيا ستعمل على إعادة الإعمار في سوريا بعد
رحيل الأسد.
رابعا التمدد التركي
الجيوسياسي
بعد انتصار ثوار سوريا
ودخلوها دمشق، تبدو تركيا القوة الرئيسية في تشكيل مستقبل سوريا السياسي. وسوف يزيد
هذا من تأثيرها في العالم العربي، وقدرتها على التوازن بين الغرب وبين روسيا
وإيران، مما يمنحها موقعا فريدا للتعامل مع المصالح المتنافسة في سوريا ما بعد
الأسد،
مما يمكنها من الصعود الإقليمي والدولي.
ورغم هذه المكاسب المحتملة
لتركيا، إلا أن هناك عدة تحديات تواجه جنيها لهذه المكاسب: أهمها سعي بعض الأطراف
الإقليمية والدولية إلى تشكيل لوبي إقليمي لإسقاط الحكم الجديد في سوريا،
والتهديدات الصهيونية، والتي ترجمتها إلى واقع على الأرض، باحتلال الجيش الصهيوني
أجزاء من الجنوب السوري، وتدمير ما يقرب من 90 % من أسلحة الجيش السوري.
الطريق
التركي
ولكن كيف وصلت تركيا إلى
تلك المكاسب؟
اتبعت حكومة حزب العدالة
إستراتيجية ناجعة لسوريا، تم توجيهها إلى أطراف الصراع:
فقد دعمت المعارضة
واستطاعت بسط حمايتها على محافظة أدلب، ومنع تمدد حكومة بشار والمتحالفين معه من
الإيرانيين والروس من الوصول إلى منطقة الحماية بعقد عدة اتفاقيات معقدة مع الروس،
ثم دعم المعارضة سياسيًا وعسكريًا، والرهان على فصيل هيئة تحرير الشام، باعتباره
الفصيل الأكبر بتوفير الدعم الاستخباري والعسكري مما سهل لهذا الفصيل بسط نفوذه على
غالبية الفصائل الثورية.
واستضافة اللاجئين،
ومحاربة التنظيمات الكردية باعتبارها فرع من جماعة حزب العمال الكردستاني المناهضة
لتركيا في شمال سوريا.
والأهم، التقاط اللحظة المناسبة للتغيير، بعد صبر استراتيجي طويل، وهي اللحظة التي
تجمع فيها انكفاء الداعميْن الأساسييْن لنظام الأسد، وهما النظام الإيراني وروسيا.
فالنظام الإيراني بعد الضربات الموجعة التي تلقاها من الكيان الصهيوني، وكذلك إضعاف
ذراعه الأقوى في المنطقة وهو حزب الله بعد اغتيال قياداته، بات الإيرانيون قابعين
في حدودهم يحاولون حماية نظامهم ومشروعهم النووي.
أما روسيا، فهي انكمشت على نفسها أيضا، بعد محاصرتها غربيًا في حرب أوكرانيا
واستنزاف مواردها وقدراتها العسكرية، كذلك بعد أن تم تقليص نشاط مجموعات فاغنر وقتل
قيادتها عقب تمردهم على بوتين، كل ذلك جعل روسيا في وضع أضعف من مساندة بشار.
وقرأت تركيا الوضع الدولي جيدًا، خاصة مع مرور الإدارة الأمريكية بمرحلة البطة
العرجاء، أي العجز السياسي، وهي التي تسبق تتويج الرئيس الجديد.
إن التمدد التركي ليس تمددا استعماريا يريد التفرد بالزعامة في المنطقة، بل يريد
إشراك العرب في تقاسم الأرباح، وذلك في أعقاب ما بدا فيه المشروع الإيراني أنه على
وشك الانهيار، وهذا ما تجلى في المشاركة التركية في اجتماع العقبة والذي شاركت فيه
الأطراف العربية المعنية بالأزمة السورية،
والتي أعقبها زيارة أردوغان للقاهرة، وخطابه الأخير الذي يحث فيه الأمة العربية
والاسلامية على المشاركة في إعمار سوريا وعودتها لأمتها مرة أخرى.