على طريق تحرير القدس (2)... تحرير الرها

الرها مدينة قديمة مشهورة من أمهات مدن إقليم الجزيرة الشامية، تقع بين الموصل والشام إلى الشمال من حلب، فتحها الصحابي الجليل عياض بن غنم سنة 17هـ، وقد احتلها الصليبيون سنة 491هـ، وأنشؤوا فيها أول إمارة صليبية، كانت أكبر وأخطر مستعمراتهم بالمشرق.


جاء احتلال الصليبيين للقدس والشام في العقد الأخير من القرن الخامس الهجري في وقت كان يسود فيه الشقاق بين المسلمين، وكانت تتقاسمهم، حينذاك، خلافتان متصارعتان: العباسية ببغداد، والعبيدية بالقاهرة، وكانت كل منهما في قمة الضعف. كما أن الدولة السلجوقية المهيمنة على الخلافة العباسية، كانت مقسمة إلى إمارات بالأناضول وفارس والشام والجزيرة، وكانت قد فقدت أواصر الارتباط فيما بينها بعد وفاة آخر سلاطينهم الكبار (ملكشاه) سنة 485هـ.

لكن، رغم ذلك، فقد قيض الله لهذه الأمة، رجالا مخلصين، نهضوا بفريضة الجهاد ضد الصليبيين، في تلك الفترة الدقيقة والحرجة، من تاريخها، وكان الأمير مودود أمير الموصل، رائد حركة الجهاد ضد الصليبيين، وأول من انتصر عليهم، فلما قتل غيلة سنة 507هـ، رفع الراية أمير الموصل الجديد (آقسنقر)، ثم رفعها بعده ابنه عماد الدين زنكي سنة 521هـ. ومع ظهور الأمير عماد الدين هذا، بدأ النضال القوي والساطع والمنظم ضد الصليبيين. إذا أنه، ومع كل العقبات التي واجهته وكثرة الأعداء من حوله، تمكن بفضل خبرته العسكرية والإدارية وكفاءته القيادية، من توطيد سلطته في مدينة الموصل وما حولها، كما رسّخ نفوذه في مدينتي حلب وحماه، وبذلك وحّد بين شمال العراق وشمال الشام، وخطى الخطوة الأولى على طريق وحدة الصف. وبالتزامن مع ذلك عمد عماد الدين إلى مناجزة الصليبيين، فانتصر عليهم في العديد من المعارك، كما انتزع منهم كثيراً من الحصون والقلاع، من أهمها حصن الأثارب الواقع بين حلب وإنطاكية سنة 524هـ، وقلعة بعرين، القريبة من حماه سنة 531هـ، وذلك بعد معركة قاسية انتصر فيها على الصليبيين، وأسر خلالها ريموند قائد جيش طرابلس. وكان في سنة 529هـ، قد حرر مدينتي معرة النعمان وكفر طاب. كما استطاع أن يرد جحافل الروم البيزنطيين عن شيزر سنة 533هـ، وأن يلحق بهم أفدح الخسائر، وقد توج عماد الدين انتصاراته الظافرة بتحرير مدينة الرها سنة 539هـ، وهو ما سنسلط عليه الضوء في الفقرات اللاحقة.

 

 تحرير الرها، هز جبهة الفرنج هزًا قويًا، وأثار قلقاً شديداً لدى البابوية والغرب الأوروبي، وأشعل نيران الحملة الصليبية الثانية، التي كان العنوان الرئيسي لها، حماية أنطاكية، التي أصبحت مكشوفة للمسلمين

إمارة الرها الصليبية وخطورتها

الرها مدينة قديمة مشهورة من أمهات مدن إقليم الجزيرة الشامية، تقع بين الموصل والشام إلى الشمال من حلب، وكانت ذات أغلبية سريانية نصرانية، وهي أهم أمكنتهم الدينية والتاريخية، فتحها الصحابي الجليل عياض بن غنم سنة 17هـ، وهي اليوم مدينة تركية تُدعى (أورفا). وقد احتل الصليبيون الرها سنة 491هـ، وأنشؤوا فيها أول إمارة صليبية، كانت أكبر وأخطر مستعمراتهم بالمشرق، بعد مملكة بيت المقدس، وكان خطرها يرجع إلى كونها أقيمت في عمق بلاد المسلمين، وليس على الساحل، كبقية الإمارات الصليبية، مما جعلها تشكل حدًا فاصلاً، بين إمارات الأتراك السلاجقة في إيران والأناضول والعراق والشام. وكانت أيضًا تشكل خطراً كبيراً على مدينة الموصل وما يتبعها، كنصيبين ورأس العين وماردين وحران والرقة، وكذلك بالنسبة لديار بكر وما يتبعها في أعالي دجلة، كما كانت تشكل تهديدا لمدينة حلب ولشمال الشام كله، هذا فضلاً عن تهديدها للخلافة العباسية في بغداد، رمز وحدة المسلمين المعنوية، وذلك بسبب قربها من العراق.

كما كانت تشكل خطرًا كبيرًا على الطريق البري الممتد من الموصل إلى حلب، وكان جوسلين (كونت الرها)، مشهورًا بالغدر والقسوة والأطماع الواسعة، بجانب ما كان عليه من الدهاء والشجاعة والفروسية والكفاءة القيادية والإدارية، وكان يطلق قواته للإغارة على بلاد المسلمين القريبة من الرها، لتقطع الطرق وتنهب القوافل، وتمارس أعمال السلب والنهب، بصورة مستمرة، كما أنه كان قد استغل انشغال عماد الدين بقتال الصليبيين في جنوب الشام، فقام بتوسيع حدود إمارته، فبسط سيطرته على مناطق كثيرة في غربي الفرات.

الحصار المباغت والتحرير

ولكل ذلك وغيره، فقد وضع عماد الدين تحرير الرها نصب عينيه، وجعل ذلك على رأس أولوياته، وأعدّ لذلك خطة محكمة، مستفيدًا من التجارب السابقة الفاشلة في حصارها، ولذلك فقد قضت تلك الخطة بمباغتة المدينة على حين غرة من الكونت جوسلين ومن قوات الإمارات الصليبية الأخرى. وقد كان. ففي مطلع جمادى الأولى 539هـ، غادر عماد الدين على رأس قواته مدينة الموصل متظاهراً بغزو ديار بكر في أعالي دجلة، بعد أن كان قد فشل في اقتحامها في العام السابق، في الوقت الذي غادر فيه جوسلين إمارته، متوجهًا إلى إنطاكية، للمشاركة في احتفالات عيد الميلاد، ولما علم عماد الدين بذلك أرسل إلى أمير حماه يطلب منه توجيه قواته فورًا إلى الرها، وما لبث هو نفسه حتى انحرف بقواته غرباً، فأطبق الجيشان على مدينة الرها في وقتٍ واحد، وهو غرة جمادى الآخرة، وأحكما الحصار حولها، وباشر النقابون في العمل لفتح ثغرات في سورها تحت غطاء هجمات القوات الإسلامية على حامية المدينة.

وقد استمر الحصار أربعة أسابيع كان جوسلين قد علم خلالها بما تتعرض له قاعدة إمارته، فعاد نحوها، ولجأ إلى قرية تل باشر المجاورة لها على الضفة الغربية للفرات، حيث ظل ينتظر وصول قوات إمارة إنطاكية ومملكة بيت المقدس، اللتين كان قد بعث إليهما يستنفرهما لنجدته، إلا أن الجيوش الصليبية وصلت بعد أن كان المسلمون قد اقتحموا المدينة. وهكذا دخل عماد الدين الرها، ولم يتركها إلا بعد أن أعاد تحصين أسوارها، وتنظيم حاميتها، وتزويدها بالمؤن والعتاد.

نتائج وتداعيات تحرير الرها

تمكن عماد الدين بعد تحرير مدينة الرها، من تصفية الوجود الصليبي في شرقي الفرات، كما تمكن من تحرير مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت تابعة لإمارة الرها في غرب الفرات، وبالتالي تأمين طريق الموصل - حلب الاستراتيجي. وكان تحرير الرها أعظم انتصار يحققه المسلمون على الصليبيين منذ أن وطأت أقدامهم بلاد الشام، فانتعشت بذلك آمالهم، وارتفعت معنوياتهم، وعلت بينهم صيحة الجهاد ضد الصليبيين والتعاون والتضامن لطردهم من ديار المسلمين، لاسيما وأن هذا الانتصار قد برهن على قوة المسلمين، وما يتوافر لديهم من إمكانات بشرية ومادية تتيح لهم إلحاق الهزائم بالصليبيين.

وبالمقابل، فإن تحرير الرها، هز جبهة الفرنج هزًا قويًا، وأثار قلقاً شديداً لدى البابوية والغرب الأوروبي، وأشعل نيران الحملة الصليبية الثانية، التي كان العنوان الرئيسي لها، حماية أنطاكية، التي أصبحت مكشوفة للمسلمين، بعد تحرير مدينة الرها التي كانت خطها الدفاعي الحصين. وقد عد بعض المؤرخين الأوروبيين تحرير الرها بداية النهاية لمملكة بيت المقدس الصليبية، لكن لم يكتب لعماد الدين مواصلة الجهاد والتصدي لهذه الحملة، فقد اغتيل في 6 ربيع الآخر540هـ، بيد كبير حراسه (وكان من الباطنية)، وذلك أثناء حصاره لقلعة "جعبر"، على الفرات. وبعد استشهاده حاول الصليبيون احتلال الرها مجددًا، إلا أن ابنه وخليفته نور الدين، تصدى لهم بجسارة، وكان نور الدين من خيرة حكام المسلمين، وكان يفوق والده عزماً وحماسة للجهاد، ولتحرير القدس من الصليبيين، وهو الذي تصدي للحملة الصليبية الثانية، وفي عهده تغيّر الموقف تغيّراً حاسماً لصالح المسلمين.

***

أعلى