أسئلة كثيرة وغموض حول الأسباب الحقيقية لفشل المفاوضات الأخيرة بين حماس وإسرائيل، هل تراجعت إسرائيل عما أقرته من قبل، أم أنه تم إفشال الصفقة عمدًا نتيجة تدخل غير نزيه من الوسطاء؟
لم تكن لتمر إلا ساعات قليلة على إعلان الاحتلال الإسرائيلي شن "عملية محدودة" على
أجزاء من مدينة رفح جنوب قطاع غزة، حتى أعلنت حركة المقاومة الإسلامية "حماس"
موافقتها على المقترح المصري القطري وفتها، بشأن وقف إطلاق النار في القطاع، وهو
المقترح الذي كان يتضمن 3 مراحل خلال 124 يومًا.
لكن جاء الرد الإسرائيلي ليؤكد استمرار العملية العسكرية في مدينة رفح للضغط على
حركة "حماس" لتحرير الأسرى وتحقيق أهداف الحرب، ولكن أثار رد كل من طرفي صفقة
التبادل، العديد من التساؤلات وفتح الباب أمام العديد من التكنهات حول مصير هذه
الصفقة التي تحمل أهمية لكلا الطرفين بعد مرور ما يقارب الثمانية أشهر على الحرب.
تفاصيل الصفقة
المقترح المصري حسب ما تم نشره يتكون من ثلاث مراحل متصلة ومترابطة، كل منها مدته
42 يومًا، تبدأ مرحلته الأولى بانسحاب القوات الإسرائيلية من شرق القطاع، بما في
ذلك محور نتساريم، وتفكيك المواقع والمنشآت العسكرية في كافة مناطق الارتكاز
بالكامل، ووقف الطيران بين 10 إلى 12 ساعة يوميًا، وعودة النازحين إلى مناطق
سكناهم، وضمان حرية حركة السكان في جميع مناطق القطاع، ودخول المساعدات الإنسانية
بمعدل 600 شاحنة يوميًا، بينها 50 شاحنة وقود.
وأثناء ذلك تطلق "حماس" سراح 33 من المحتجزين الإسرائيليين من النساء والأطفال
وكبار السن والمرضى، في مقابل إطلاق إسرائيل سراح 30 أسيرًا فلسطينيًا من الفئة
نفسها مقابل كل إسرائيلي مدني، بناءً على قوائم تقدمها "حماس" حسب الأقدم اعتقالًا،
أما المجندات فتفرج إسرائيل مقابل كل منهن عن 50 أسيرًا، بينهم 30 محكوم عليهم
بالمؤبد، وفي المقابل ستفرج "حماس" عن جميع المجندات الإسرائيليات الأحياء، وفي حال
لم يصل عدد المحتجزين الاسرائيليين الأحياء المتوقع الإفراج عنهن إلى 33، يُستكمل
العدد من الجثامين من نفس الفئات.
|
بعد
مرور أكثر من شهر على فشل الصفقة المقترحة، تبدو الولايات المتحدة الآن
معنية بعملية غسيل لسمعة نتنياهو حيث تم نشر تسريبات تشير أن النظام المصري
هو من خرب الاتفاق |
وتسلم "حماس" في المرحلة الثانية جميع الرجال على قيد الحياة، سواء مدنيين أو جنود،
مقابل عدد يُتفق عليه من الأسرى في السجون أو معسكرات الاعتقال الإسرائيلية، وتنسحب
القوات الإسرائيلية بالكامل خارج قطاع غزة، ويتبادل الطرفان جثامين ورفات الموتى في
المرحلة الثالثة، مع البدء في تنفيذ خطة إعادة إعمار قطاع غزة في مدة من ثلاث إلى
خمس سنوات.
رد حماس المُربك
بدت الحكومة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو مرتبكة حيال رد حركة "حماس" على مقترح
الوسطاء القطريين والمصريين والأمريكيين بشأن التهدئة وصفقة التبادل، وهو رد عمَّق
الشرخ والاستقطاب السياسي بالخارطة الحزبية لدى إسرائيل، والتباين بالمواقف من سير
الحرب على غزة وأولويات إعادة الأسرى.
وفي محاولة من حكومة نتنياهو لتصدير الأزمة الداخلية عقب رد حماس، سارع الجيش
الإسرائيلي إلى تنفيذ عملية برية محدودة شرق رفح، وسط غارات مكثفة وقصف مدفعي عنيف
في رسائل داخلية وخارجية تحمل تناقضات كثيرة وتشير إلى التخبط في اتخاذ القرار.
ووسط الترحيب الإقليمي والدولي على رد حماس وموقفها الإيجابي من مقترح الوسطاء
للتهدئة، بدت إسرائيل منقسمة على ذاتها حول كل ما يتعلق بإبرام صفقة تبادل، حيث
سارع مجلس الحرب المنبثق عن حكومة الطوارئ إلى الإعلان عن بدء التوغل البري في رفح،
كوسيلة ضغط عسكرية مكثفة على حماس في المفاوضات.
لكن بعد مرور أكثر من شهر على فشل الصفقة المقترحة، تبدو الولايات المتحدة الآن
معنية بعملية غسيل لسمعة نتنياهو حيث تم نشر تسريبات تشير أن النظام المصري هو من
خرب الاتفاق،
حيث أرسل
لحماس وثيقة أجرى عليها تعديلات دون إخبار الطرف الإسرائيلي بها، موهمًا وفد حماس
أن تلك الوثيقة تحظى بموافقة إسرائيل، بحسب التسريب. وهو الأمر الذي دفع حماس
للموافقة عليها. وهنا فمن الطبيعي أن يرفضها الطرف الإسرائيلي، لأنها لا تحظى
بالنقاط التي يصر عليها.
هذا هو السباق التي تمر نشر التسريبات الأخيرة من خلاله حيث تحظى التسريبات في
العادة بشيء من المصداقية والقبول، وقدر كبير من الانتشار.
هكذا يرى بعض المراقبين أن عملية التسريبات الأخيرة ما هي إلى محاولة لتبرئة
نتنياهو. خاصة أن الولايات المتحدة معنية بتخفيف الضغوط قليلا داخليا وخارجيا عن
نتنياهو خاصة بعد قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية، بحق نتنياهو ووزير دفاعه.
كما أن الطرف المصري لا يجرؤ على إحداث تعديلات على أي من الوثائق، لأنها بشكل واضح
ستكتشف سريعًا. حيث تخريب الصفقة تعمدا يفقد الطرف المصري مصداقيته لدى الطرفين
كوسيط في المفاوضات الجارية بينهما.
رعاة الصفقة الحقيقيون
لم يتم تقديم هذه الصفقة من حكومة نتنياهو، ولا المكتب السياسي لـ "حماس"، بل جاءت
نتيجة جهود جوهرية لحكومات ثلاث، وهي الولايات المتحدة ومصر وقطر، وكل واحدة منها
لها مصلحة في إتمام الصفقة.
حيث يدفع الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي دعم إسرائيل منذ هجوم "حماس" في 7 أكتوبر،
ثمن دعمه من الجناح التقدمي في حزبه الذي شعر بالرعب من معاناة غزة ومقتل أكثر من
34 ألف فلسطيني حتى الآن منذ بداية العدوان الإسرائيلي.
ويريد بايدن التركيز على الحملة الانتخابية والانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة
في نوفمبر القادم، ولذلك أرسل بايدن وزير خارجيته أنطوني بلينكن للمنطقة؛ كي يدفع
بصفقة تنهي الصراع القائم، وأرسل كذلك مدير مخابراته ويليام بيرنز، الذي وصل إلى
القاهرة لمراقبة المفاوضات.
وتريد مصر الصفقة هي أيضًا، لأن لها حدود مع غزة، وتعتمد على العملة الأجنبية من
موارد قناة السويس، إلا أن تضامن الحوثيين في اليمن مع غزة واستهدافهم السفن
التجارية في البحر الأحمر، أجبر معظم السفن على تغيير مسارها بعيدًا عن قناة
السويس، وهو الأمر الذي يضر بمصلحة مصر ومواردها وخزينتها في ظل وضع اقتصادي متعسر.
أما قطر التي تستضيف "حماس" ومكتبها السياسي داخل البلاد، فهي راغبة بأن تثبت للغرب
بأنها ليست راعية فقط لقادة الحركة، ولكنها تستطيع التأثير عليهم في نفس الوقت.
إذًا هي صفقة صُنعت في واشنطن والقاهرة والدوحة، وليس في إسرائيل أو غزة، وهي
مفروضة على طرفين لا يرغب بعض قادتهما الرئيسيين بتقديم تنازلات بل الخروج منها
بأكبر قدر ممكن من المكاسب.
استطلاعات الرأي تتحدى نتنياهو
تظاهر آلاف الإسرائيليين في نحو 70 موقعًا للمطالبة بالإفراج عن المحتجزين في قطاع
غزة وإجراء انتخابات مبكرة، في حين اتهمت المعارضة الإسرائيلية رئيس الوزراء
"نتنياهو" بمحاولة إفشال صفقة تبادل الأسرى مع حركة حماس.
وقد تظاهر آلاف الإسرائيليين أمام وزارة الدفاع في تل أبيب للمطالبة بصفقة تبادل
فورية والإطاحة بحكومة نتنياهو التي أثبتت فشلها في هذه الحرب وفي ملف استعادة
الأسرى.
ونقلت القناة الـ12 الإسرائيلية عن أهالي المحتجزين قولهم إنه من الواضح أنهم لن
يستعيدوا أبناءهم إلا من خلال صفقة، مؤكدين أن الحكومة التي ضحت بالمختطفين عليها
قبول إنهاء الحرب وإعادتهم بدلًا من دخول رفح.
وأظهر استطلاع للرأي أن أكثر من نصف الإسرائيليين يفضلون اتفاق هدنة وعقد صفقة
تبادل مع حركة "حماس" على تنفيذ عملية عسكرية بمدينة رفح جنوب قطاع غزة، بينما فضل
أغلب المشاركين في الاستطلاع تولي وزير الدفاع الحالي "بيني غانتس" رئاسة الوزراء
بدلًا من بنيامين نتنياهو.
وأجرى الاستطلاع مركز معهد لازار للدراسات، ونشرت نتائجه صحيفة "معاريف" العبرية،
وأظهر أن 54% من المشاركين يفضلون التوصل إلى اتفاق مع حماس على تنفيذ عملية عسكرية
في رفح، ومن جانب آخر أظهر استطلاع الرأي أن 47% من المستطلعين يفضلون تولي الوزير
بحكومة الحرب "بيني غانتس" منصب رئيس الحكومة، مقابل 33% مازالوا يرون أن نتنياهو
هو الأنسب.
المختطف رقم 133
بالعودة إلى عدد الأسرى الذين مازالوا بيد حركة "حماس" نجد أنهم 132 شخصًا، ولكن
الإعلام الإسرائيلي كان له رأي آخر في هذه المسألة، حيث قال القائد الأسبق
للاستخبارات العسكرية "عاموس يدلين" للقناة الـ12 الإسرائيلية إن رئيس الحكومة
نتنياهو هو "المختطف رقم 133"، فهو رهينة بيد كل من وزيري المالية بتسلئيل سموتريتش
والأمن القومي إيتمار بن غفير، حسب وصفه تعبيره.
وذلك لأن كل من وزير الأمن القومي "بن غفير" ووزير المالية "سموتريتش" يعارضان
إبرام صفقة تبادل للأسرى مع حماس ويهددان بالانسحاب من الحكومة إن تمت، وهما
الوزيران المعروفان بوزراء اليمين المتطرف في الحكومة الإسرائيلية الحالية.
ميزان المفاوضات
باستقراء الإستراتيجية التفاوضية لدى الأطراف على مستوى الأهداف ومنهجية التفاوض،
نجد أن حكومة نتنياهو قد دخلت المرحلة الراهنة من التفاوض وهي تبني مسارها التفاوضي
على جملة من الرهانات وأوراق التفاوض التي لم تعد ذات تأثير كبير على الطرف
الفلسطيني.
بينما في المقابل ومنذ انطلاق أولى جولات التفاوض، وضعت حركة حماس عنوانًا واضحًا
لمسارها التفاوضي، وهو وقف إطلاق النار وإنهاء كل مسببات الحرب، كانسحاب الجيش من
قطاع غزة وعودة النازحين وضمان إغاثة الشعب وإعادة الإعمار وإتمام صفقة تبادل.
وعليه فإن نتنياهو يخسر أوراقه التفاوضية مع مرور الوقت، ويستجلب بدلًا منها
ضغوطًا أمريكية ودولية عليه، وباتت أوراقه مكشوفة ويتراجع تأثيرها، بينما أظهر أداء
المقاومة العسكري والتفاوضي استقرارًا على مستوى الأهداف وإستراتيجية التفاوض.