الانسحاب الفرنسي من مالي...
أعدّه:
أ. عبد الرحيم بلشقار بنعلي
أعلن الرئيس
الفرنسي فرنسوا هولاند، في فترة سابقة من شهر أبريل المنصرم، عن بدء انسحاب قوات الجيش الفرنسي من مالي، أي بعد ثلاثة أشهر من التدخل العسكري
الفرنسي الانفرادي في مالي تحت غطاء دولي يتمثل في قرار مجلس الأمن 2012/2085
القاضي بمحاصرة النزاع وقطع الطريق على الإسلاميين بمالي حسب مجلس الأمن، وكان
فرنسوا هولاند قد صرح في بداية الحملة العسكرية على مالي أن موعد انسحابه هو يونيو
المقبل، وأنه لن يبقى سوى ألف جندي لتأمين إجراء انتخابات رئاسية ونيابية في مالي
التي تلح باريس إجراءها في يوليوز/ تموز من العام الجاري، غير أن إقدام باريس على
بدء سحب جنودها قبل الموعد المحدد، فتح الباب أمام كثير من الأسئلة حول حيثيات
قرار الانسحاب الفرنسي من مالي، خصوصا وأن الأهداف الأساسية من الحملة الفرنسية
على مالي تمثلت في القضاء على الإسلاميين، الأمر الذي لم تنجح فيه القوات العسكرية
الفرنسية في فترة تواجدها بمالي واكتفت بإبعاد المقاتلين الإسلاميين إلى الصحراء،
ولم تستطع الانجرار معهم في حرب عصابات. فما هي الأسباب الكامنة وراء قرار باريس؟ وأي
أفق للوضع في المنطقة بعد هذا الانسحاب؟
طبيعة
الوضع في مالي
عاشت مالي تحت وطأة صراعات
قبلية منذ ستينات القرن الماضي خصوصا في مناطق الشمال حيث تسعى قبائل الطوارق منذ أكثر
من خمسين عاما إلى الحكم الذاتي في إقليم أزواد، توج بانتفاضتين الأولى عام 1962 والثانية
عام 1990، ومنذ ذلك الحين استمرت الأوضاع بالتأزم وزادت قاعدة الحركات المسلحة
بتوجهات مختلفة في التوسع والانتشار والقوة، وفيما تنطلق الحركة الوطنية لتحرير
أزاود من توجهات عرقية لاستقلال إقليم أزواد، تسعى الجماعات الإسلامية بتوجهات
دينية للحكم بالشريعة الإسلامية في الإقليم.
وكانت أواخر سنة 2012 محطة فاصلة في هذا النزاع،
حيث أعلنت جماعة أنصار الدين وحركة
التوحيد والجهاد بتنسيق مع الحركة الوطنية لتحرير إقليم أزواد، سيطرتها على شمال
مالي الذي يضم ثلثي مساحة البلاد، ويحتضن ثلاث مدن رئيسية هي تومبوكتو وكيدال وغاوو،
الأمر الذي جعل مالي تتصدر قائمة الأحداث في العالم حيث دفعت الدول الغربية الكبرى
خصوصا الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا بكل ثقلها لإيجاد صيغة تبرر تدخلها
العسكري في مالي، والحيلولة دون تقوية الإسلاميين تجربة جديدة في الحكم بالشريعة
الإسلامية في شمال مالي.
الحركات
الإسلامية المقاتلة بمالي والجهاد ضد المستعمر
يوجد
في مالي حسب ما يروج إعلاميا ثلاث جماعات
إسلامية مسلحة أبرزها:
جماعة
أنصار الدين؛ تنظيم يتكون من
الطوارق المنحدرين من أصول عربية ويتسم بالتدين ذي الطابع المحلي. تنفي جماعة
أنصار الدين أي علاقة لها بالقاعدة، يقود هذا الفصيل أياد آغ غالي وتسيطر على
مناطق واسعة من إقليم كيدال شمال شرق مالي بعد فقدان الحركة الوطنية لتحرير أزواد العلمانية
كثيرا من نفوذها هناك.
حركة التوحيد والجهاد
في غرب أفريقيا؛ تنظيم منشق عن تنظيم القاعدة في بلاد
المغرب الإسلامي. أعلنت أول بيان عسكري لها في أكتوبر 2011، معلنة الجهاد في أكبر
قطاع من غرب أفريقيا، عن طريق عمليات لم تخرج حتى الآن عن الحدود الجزائرية،
وأعلنت الحركة أيضاً عن اشتراكها في تمرد 2012 في شمال مالي.
القاعدة
في بلاد المغرب الإسلامي؛
تنظيم نشأ عن الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية، التي ولدت بدورها من رحم
الجماعة الإسلامية المسلحة، وأعلنت سنة
2006 انضمامها إلى تنظيم القاعدة الذي كان يقوده أسامة بن لادن، ويقول
التنظيم إنه "يسعى لتحرير المغرب الإسلامي من الوجود الغربي - الفرنسى والأمريكي
تحديدا- وحماية المنطقة من الأطماع الخارجية وإقامة دولة تحكم بالشريعة الإسلامية.
ويجمع بين الحركات
الإسلامية المقاتلة في مالي السالفة الذكر، والتي يبلغ عدد عناصرها حسب مدير
المركز الفرنسي حول الاستخبارات "إيريك دينيسي" حوالي 2000 مقاتل، عدة
عناصر أبرزها؛
1- الانتماء العقدي السني، وتعتبر الحكم الشرعي في
مذهبها حكماً واحداً لا يحتمل الأخذ والرد، ومن ثم تصبح الأحكام الشرعية لدى
الحركات الإسلامية واجباً دينياً لا مفر من تنفيذه.
2- الانتماء العرقي؛ حيث ينتمي معظم أفراد الجماعات
الإسلامية إلى الطوارق والصحراويون العرب يدينون بالولاء للإسلام مما يعطي للحركات
تناغم عرقي وعقدي قوي.
3- الصفات النفسية لأفراد الجماعات الإسلامية المسلحة؛
يتميز مقاتلوها بعدة صفات نفسية أهمها الصلابة وتحمل المشاق إضافة إلى الإخلاص
لدينهم، كما يتميزون باكتسابهم خبرة كبيرة بالمناطق الجغرافية الوعرة في منطقة
الساحل.
أبرز إنجازات الحركة
الإسلامية
عملت حركة التوحيد
والإجهاد وجماعة أنصار الدين بعد سيطرتهما على مناطق شمال مالي خصوصا في مناطق
كونا وديابالي وغاوو على إعادة الأمن ومكافحة الفساد بكل أشكاله في مرافق الدولة
والقضاء على الرشوة، وبدأوا في تطبيق الشريعة الإسلامية في الحياة العامة والقضاء
والمؤسسات التعليمية، ولم تجعل الحركتان المصالح الفرنسية هدفا لحملاتها المسلحة
إلا بعد إعلان فرنسا التدخل عسكريا في مالي، واعتبرتا في ذلك القرار إعلانا جديدا
لاستعمار مالي والسيطرة على مقدرات المنطقة خصوصا النفط والذهب واليورانيوم وتأمين
المصالح الأمريكية الفرنسية في إفريقيا.
الأطماع
الاستعمارية والانتقام
على الرغم من
أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند كان قد صرح عند بدء الحملة العسكرية على مالي
"أن بلاده تدخلت في مالي باسم حقوق الإنسان وقطع الطريق على الجماعات
الإسلامية وإضعاف نفوذها بالمنطقة"، إلا أن المصالح الاقتصادية الفرنسية
بمالي والتي تقدر بعشرات الشركات المسيطرة على حقول الغاز والذهب واليورانيوم،
تؤكد أن الهاجس الأمني على الاستثمارات الفرنسية في مالي كان حاضرا بقوة في حملتها
العسكرية، وعلاوة على ذلك فإن المتابع للموقف الفرنسي
إزاء قضايا صراع في مناطق أخرى من العالم سيلاحظ مفارقات كبيرة وتباينات كثيرة في
مواقفه، ذلك أن فرنسا التي جعلت القضاء على الجماعات المسلحة في مالي هدفا لحملتها،
لم تتوانى في دعم الثوار المسلحين ضد النظامين الليبي والسوري ولم تتحفظ على ذلك
بالرغم من تواجد جماعات إسلامية مقاتلة، وفي هذا تناقض يراه كثير من المراقبين
"نفاق سياسي" في سلوك الدبلوماسية الخارجية لفرنسا.
وفي
هذا الصدد؛ يرى مدير مجموعة الأبحاث والدراسات الدولية حول إدارة الأزمات في
المغرب؛ الدكتور ادريس لكريني؛ أن التدخل الفرنسي في مالي ينطوي على الرغبة في
تحقيق مجموعة من الأهداف المضمرة؛ وعلى رأسها الانتقام للأسرى والمختطفين
الفرنسيين الذين كلّفوا فرنسا إمكانيات مالية كبيرة دفعت للجماعات المسلحة في
المنطقة؛ قدّرها البعض في حدود 17 مليون دولار؛ علاوة على محاولة إبراز صرامة
وكفاءة الرئيس الحالي الفرنسي لحماية المصالح الفرنسية؛ والرغبة في الحدّ من مخاطر
انتقال النزاع إلى مناطق نفوذ فرنسي أخرى مثل تشاد والنيجر؛ والسعي لإحداث قواعد
عسكرية بالمنطقة.
وأضاف
لكريني لـ"البيان" 'أن كثيرا من المهتمين والمراقبين ذهبوا إلى حدّ اعتبار
التدخل الفرنسي في مالي محاولة من الرئيس الفرنسي لتصريف الأزمات الاقتصادية (ضعف
التنافسية الاقتصادية تراجع الصناعات وارتفاع الإنفاق العام) والاجتماعية (ارتفاع
نسبة البطالة) الحقيقية التي يعيشها المجتمع الفرنسي نحو الخارج'.
ويزكي
هذا الطرح، الباحث في العلاقات الدولية بجامعة محمد الأول بوجدة؛
خالد شيات، قائلا "إن التدخل الفرنسي في مالي كان محسوبا منذ انطلاقه؛ وكان
يتوخى أهدافا متعددة منها حماية المنافذ التي تزود الدولة الفرنسية في الدول
المجاورة ببعض المعادن النفيسة ولاسيما في النيجر وبعض المناطق في الجنوب المالي،
ثم أيضا استعادة الدور الفرنسي في المنطقة وإفريقيا عموما، وأخيرا تقليص ما تعتبره
باريس التهديدات المحتملة على أوربا في على المستوى المتوسط من طرف القوى
الإسلامية".
الآفاق
المستقبلية
خلف قرار
فرنسا الانسحاب من مالي تساؤلات كثيرة حول مستقبل الصراع في منطقة الساحل، إذ ورغم
أن حركة الوطنية لتحرير "أزواد" والجماعات
الإسلامية الجهادية سبق وأن أكدت على احترام سيادة دول الجوار وحدودها؛ إلا أن
حدوث الانفصال أو استمرار الوضع عمّا هو عليه حاليا؛ سيفتح الباب أمام مجموعة من
المخاطر يمكن أن تطال دول المنطقة المغاربية.
في هذا الصدد؛ يرى خالد شيات، أن
فرنسا أرادت من سحب 100 عسكري إعطاء إشارات متعددة؛ داخليا باعتبار ذلك مؤشر على
انتصار عسكري، وإقليميا باستحضار الدور الجزائري الطرف الأكثر تضررا من التدخل
والذي سيكون عليه مواجهة تبعاته مستقبليا، ودوليا بتعزيز النجاح الفرنسي بعد الدور
الريادي في الأزمة الليبية.
وقال شيات للبيان؛ "لا يمكن
اعتبار الانسحاب نصرا كاملا لاعتبارات متعددة؛ أنه انسحاب بسيط مقارنة مع العدد
الحقيقي للقوات الفرنسية وأجهزتها الاستخباراتية وحجم التهديد الذي لا يعرف بالنظر
لكون الجماعات الإسلامية غير ثابثة العدد والخطة، ولضرورة حل المشكل الحقيقي
لأزواد لكونه لا زال يراوح مكانه منذ بداية ستينات القرن الماضي ولا يمكن حل
المشكل في مالي بدون حل هذا المشكل الأصلي".
وحول الدور الذي يمكن أن تلعبه دول
الجوار في المنطقة، قال شيات للبيان "دور الجزائر سيكون أولويا من الناحية
العسكرية لكن المغرب لا يتراجع عن دوره التقليدي في مالي باعتبار العلاقات الطيبة
التي جمعته بهذا البلد لمدة طويلة وهو حليف مضمون من الناحية المخابراتية لا سيما
أنه يناضل من أجل طي مشكلة الصحراء المغربية التي ترتبط في جزء منها مع مشكلة
مالي، ثم إنه من جهة أخرى حليف تقليدي لفرنسا وهو في هذا الباب لا ينكر استعداده
للمساهمة في حل المشكلة سواء في الجانب الأمني المرتبط بالجماعات المسلحة أو في
الجانب السياسي المرتبط بمشكلة الأزواد".