• - الموافق2024/11/25م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
تجربة مقال

تجربة مقال

سلاح الجوع لكسر المقاومة

بعد فشل كل محاولات تركيع أهل غزة، بالقتل والخوف والترهيب، بدا أن سلاحا جديدا في طريقه للضغط على الغزيين ليفارقوا أرضهم، ألا وهو سلاح التجويع، فهل ينجح حقا في اقتلاع أهل غزة من أرضهم أو يؤكد فشلهم كما فشلت خططتهم من قبل؟ 

 

حسن الرشيدي

تقترب فترة الحرب التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزة من خمسة شهور، حتى حوله إلى أرض منكوبة.

ففي مدينة غزة وحدها، تذكر بلدية المدينة، أن جيش الاحتلال دمر مليون متر مربع من الطرق والشوارع منذ بداية العدوان، كما أن الدمار في الشوارع والطرق غير مسبوق، حيث استهدف الاحتلال بالقصف أو التجريف الشوارع المعبدة والجزر والأرصفة والإشارات المرورية، ومختلف المرافق المتعلقة بالطرق والشوارع.

كما دمر الكيان الصهيوني قرابة 72% من المجمعات والمباني السكنية، كما لحق الدمار الكلي بنحو 39% من المباني في المنطقة الوسطى.

أما في خان يونس فدمرت قوات الاحتلال قرابة 46% من المباني والمجمعات السكنية، وفي رفح التي تحولت إلى ملجأ وحيد لأكثر من نصف عدد سكان القطاع نسفت قوات الاحتلال قرابة 20% من مباني المدينة.

وتعمد فرق الهندسة المقاتلة في قوات الاحتلال إلى ربط متفجرات في أعمدة المباني وبالتركيز على قواعد الأساس التي يقوم عليها المبنى، وينتقلون من مبنى إلى آخر داخل المجمع، بعدها، يتم إطلاق سلسلة من التفجيرات المتتالية.

أما القتل الممنهج لأهالي غزة فحدث عنه ولا حرج، فهناك ما يقرب من مائة ألف بين شهيد وجريح.

وللعلم فإن التدمير والقتل والأرقام التي تتزايد يوما بعد يوم لا يمكن تصورها أنها عشوائية أو اعتباطية بل نهج متعمد للوصول إلى أرقام كبيرة.

وترصد منظمات حقوقية ما يطلق عليه نظام (هابسورا)، وهو من أحدث التقنيات التي دخلت حيز الاستخدام الكامل من طرف الصهاينة في حرب غزة.

ونظام هابسورا، طوّرته الوحدة 8200 في جيش الاحتلال، وهو يعتمد على الذكاء الصناعي، وتتمثل وظيفته في معالجة كميات هائلة من البيانات وترجمتها إلى أهداف ليتم التعامل معها -بحسب المصطلح الصهيوني- عبر الوحدات الميدانية.

ويقول ريتشارد مويياس من منظمة 36 الحقوقية، إنه بالنظر إلى حجم الدمار الهائل في قطاع غزة، يمكن نزع صفة الدقة واستبعاد استهداف المدنيين عن وظائف هابسورا.

ولكن ما ارتكبه الصهاينة من تعمد تجويع أهل غزة كان الجريمة الأكبر.

يقول المتحدث باسم الهلال الأحمر رائد النمس للجزيرة إن قطاع غزة يشهد مجاعة حقيقية أدّت إلى وفاة عدد من الفلسطينيين.

وحذّر النمس من أن ما يحدث في شمالي قطاع غزة سيمتد إلى مناطق أخرى منه، مشيرًا إلى تراجع في إدخال المساعدات إلى مناطق الشمال.

كما أشار إلى تقارير صادمة عن أن الفلسطينيين لا يجدون الأكل والماء.

وأكد المتحدث الفلسطيني أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يستهدف من يحاول إدخال المساعدات إلى القطاع.

في حين ترصد منظمة أنقذوا الأطفال أن ما يقرب من مليون طفل غزة معرضون لمخاطر الموت من الجوع.

 

الردع في المفهوم الصهيوني يقوم على بناء قوة باغية قاهرة، عسكريًا وأمنيًا وتكنولوجيًا، بحيث تبقى دولة الكيان متفوقة على ما عداها من دول المنطقة وقواها، دولة مهابة الجانب، عصيّة على الاقتحام

ولكن لماذا لجأ الاحتلال إلى سلاح التجويع في حربه لتركيع أهل غزة؟

هل لزيادة أوراقه في المفاوضات مع حماس؟

أم مجرد عوائق في إيصال المساعدات والتي تعرقلها الحرب الدائرة مع فصائل المقاومة؟

لترجيح أحد الاحتمالين، لابد من مراجعة أهداف الكيان الصهيوني واستراتيجياته لتحقيق تلك الأهداف، ومن خلال ذلك يمكننا الإجابة عن سؤال المجاعة الحادثة الآن في غزة، وهل هي مجرد حوادث عارضة للحرب في غزة أم هي فعل متعمد ممنهج من طرف الصهاينة؟

أهداف واستراتيجيات

تتمثل الأهداف الاستراتيجية لدولة الكيان الصهيوني في أعقاب الهزيمة التي تلقتها في السابع من أكتوبر في هدفين:

الهدف الأول يتبلور في القضاء على حماس، وتنحيتها من حكم غزة.

والهدف الثاني هو تحرير أسراهم لدى المقاومة.

بالنسبة استراتيجيات الكيان لتحقيق تلك الأهداف، فالكيان الصهيوني منذ نشأته قد بدأ في وضع أسس لنظرية الردع لدولته، ففي البداية تمحور الردع حول تثبيت وجود إسرائيل في المنطقة، وفي مرحلة لاحقة تضمن مفهومها الأمني واستراتيجية الردع الحفاظ على التفوق العسكري، إضافة للارتكاز على مبدأ الحرب الوقائية والهجوم المسبق.

فالردع في المفهوم الصهيوني يقوم على بناء قوة باغية قاهرة، عسكريًا وأمنيًا وتكنولوجيًا، بحيث تبقى دولة الكيان متفوقة على ما عداها من دول المنطقة وقواها، دولة مهابة الجانب، عصيّة على الاقتحام، ولا يجرؤ أحد على المبادرة إلى مهاجمتها، وتستطيع كلما شاءت، وحيثما أرادت، تدمير أية قوة ناشئة تتحفز لمهاجمتها في مهدها، بل وإجبار أي قوة: دولة كانت أو حركة شعبية، على عدم الرد على اعتداءاتها وجرائمها، أي الإذعان والاستسلام لمشيئتها.

ويتحدث الخبراء الاستراتيجيون الصهاينة بأنه يجب على دولة الكيان أن تحتفظ بالقدرة على الردع، وعندما لا يكفي الردع فالحسم، والحسم يعني بالمفهوم الإسرائيلي احتلال أراضي الخصم وتدمير قواته.

وفي السابع من أكتوبر سقط الردع الصهيوني، فاتجه النظام الصهيوني في حديثه إلى الحسم، وهذا يفسر سر تصريحات نتانياهو المتتالية منها على سبيل المثال: لا يوجد بديل للنصر الكامل، وسنقضي على حماس وسندمرها، وغيرها من الأقوال والتي تنطلق من مبدأ الحسم الذي يلجأ إليه الكيان الصهيوني عندما تسقط استراتيجيته للردع.

استراتيجية التجويع

كما بينا، بعد طوفان الأقصى انتقل نتانياهو ومن ورائه الساسة في الكيان الصهيوني من نظرية الردع إلى نظرية الحسم، والتي تقوم على تدمير غزة وقتل أكبر عدد ممكن من أهلها وبيوتها وبنيتها التحتية ليكونوا عبرة لمن تسول له نفسه إلحاق الأذى بالصهاينة، تحت دعوى القضاء على حماس.

ولكن حاضنة المقاومة الشعبية أظهرت ثباتها وقدرتها على تحمل الخسائر المادية والبشرية، وفي نفس الوقت خاضت فصائل المقاومة حرب عصابات ناجحة ضد قوات الجيش الصهيوني المهاجمة وأوقعت بها خسائر فادحة وحالت بين نتانياهو وبين تحقيق نجاح يذكر على الأرض وباتت نظرية الحسم على السقوط هي الأخرى.

 

 أدرك نتانياهو أن الضغط العسكري وحده لن يجدي نفعا مع المقاومة فلجأ إلى سياسة التجويع ومنع المساعدات الإنسانية من دخول غزة خاصة شمال القطاع والذي تشبث ما يقرب من ثلث سكانه لمكانهم ورفضوا مغادرة أرضهم

وحين حاول الكيان الصهيوني ومن ورائه الولايات المتحدة، الحصول من المقاومة ما لم يحصلوا عليه من الضغط العسكري، وخاصة في ملف تحرير الأسرى لدى فصائل المقاومة، فكان ثبات المقاومة على مائدة المفاوضات مماثلا لثباتها في ساحة القتال، بالرغم من محاولات تجاهلها، كما ورد في حديث الدكتور محمد الهندي نائب الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي لقناة الجزيرة بخصوص جلسة المفاوضات الأخيرة والتي تم عقدها في القاهرة، من أن فصائل المقاومة لم تشارك في تلك المباحثات وكانت غائبة كطرف، بينما كانت المحادثات تجري بين مصر وقطر من جهة وبين الإسرائيلي والأمريكي من جهة أخرى، ولفت الهندي أنه ومع غياب الطرف الآخر (في إشارة إلى المقاومة) فيكون هناك حالة من الانحياز من قبل الوسطاء للطرف الأقوى (الكيان الصهيوني).

ولكن المقاومة تشبثت بمواقفها والتي تقوم على وقف العدوان كليًا، وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة، وعدم القبول بأي هدنة إنسانية مؤقتة كما جرى سابقا، دون عودة المواطنين إلى منازلهم حتى لو كانت مهدومة، مع إطلاق سراح الأسرى من ذوي الأحكام المؤبدة.

هنا أدرك نتانياهو أن الضغط العسكري وحده لن يجدي نفعا مع المقاومة فلجأ إلى سياسة التجويع ومنع المساعدات الإنسانية من دخول غزة خاصة شمال القطاع والذي تشبث ما يقرب من ثلث سكانه لمكانهم ورفضوا مغادرة أرضهم، وبات هؤلاء أقرب إلى مجاعة حقيقية.

وسياسة التجويع تلك سياسة قديمة، ويستخدمها الطغاة والأمم المتجبرة ضد خصومهم.

ومع هيمنة الغرب وتجبره في العالم، تحول الجوع إلى أحد أكثر استراتيجيات الحروب التي يخوضها الغرب تأثيرا، ويهدف إلى تطويع الخصم في وقت يعجز الخيار العسكري عن القيام بذلك الدور.

وقد طبقت فرنسا سياسة التجويع وافتعال المجاعات في الجزائر بعد تجريد الشعب من مصادر الرزق لإبادته، حيث افتعلت مجاعات رهيبة وسط السكان أودت بحياة عائلات بأكملها بسبب الجوع وسوء التغذية، الأمر الذي أدى إلى ظهور أوبئة قاتلة فتكت بسكان البلاد مثل وباء التيفوس (مرض الفقر والفقراء)، فكان عدد الوفيات التي خلفتها المجاعات المفتعلة أكثر مما خلفتها الحرب والكوارث الطبيعية.

وبالنسبة للكيان الصهيوني، فهذه ليست المرة الأولى التي يلجأ إليها لذلك السلاح وخاصة مع أهل غزة، فبعد فوز حركة المقاومة حماس في الانتخابات الوطنية الفلسطينية عام 2006 وتشكيلها للحكومة في غزة، خرج دوف ويسغلاس مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت، بتصريح كشف بشكل صريح لا يحمل التأويل عن إستراتيجية دولة الاحتلال في التعامل مع الشعب الفلسطيني خلال المرحلة التالية لقيادة حركة المقاومة للمشهد، وهي وضع الفلسطينيين على حمية غذائية دون جعلهم يموتون من الجوع.

وقد وصلت سياسة التجويع ضد شعب غزة إلى درجة أن حددت حكومة الاحتلال عددًا من السعرات الحرارية المقدمة للمواطن الفلسطيني (حددت بـ 2279 سعرا)، تتحكم بها من خلال عدد الشاحنات المسموح لها دخول القطاع، وهي الكمية التي تتجنب سوء التغذية والموت جوعًا لكنها لا تكفي للإشباع، ومن ثم تتحكم دولة الاحتلال في قرار الشعب الفلسطيني ويمكنها من خلال ذلك الضغط على حكومة حماس.

ولكن في هذه الحرب انتقل الاحتلال إلى مرحلة جديدة من التجويع، تتمثل في تقليل إيصال المساعدات إلى القطاع، إلى الحد أنه أصبحت في الأيام الأخيرة تصل إلى تسع شاحنات، مع العلم أن قبل الحرب كانت تصل قطاع غزة بأكمله ما يقرب من ألف شاحنة غذاء، وفي نفس الوقت فإن شمال غزة محروم من أي مساعدات.

إن سياسة التجويع لن ترهب أهل غزة بل سيزداد يقينهم أنهم سائرون على طريق الحق... طريق الأنبياء ومن سار على دربهم إلى يوم الدين (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين).

أعلى