تونس تلفظ قذارتها
أعدّه: أ. أحمد أبو دقة
منذ فوز حركة النهضة في الانتخابات يحاول
اليساريون و بقايا الماركسية وكذلك أتباع النظام السابق تدمير أسس الديمقراطية
الجديدة التي أنجبت حكومة تقودها حركة النهضة التي كانت منفية منذ زمن، بعد هذه
الخطوة علم جميع من سبق ذكرهم أن العصر الذهبي انتهى بالنسبة لهم، لذلك حينما حصلت
هذه الحركة على 41 % من الأصوات رغم القانون الانتخابي المعقد الذي أشرف على صياغته
رجل القانون المخضرم عياض بن عاشور شنت قوى اليسار و العلمانيين و وورثة بن علي
حملة عنيفة ضد " النهضة" ولا تزال تبعاتها مستمرة.
موقف هذه الشرذمة من بقايا النظام القديم و
داعميه من نتائج الانتخابات لخصها مشهد صغير لشابة كانت تعمل صحفية لأقصى اليسار
الماركسي حيث كانت تلطم رأسها على سور حديدي للمركز الإعلامي لهيئة الانتخابات محتجة
على تلك النتائج، عادل الثابتي صحفي بوكالة أنباء الأناضول قال :"إن هذا
المشهد يدلل على عمق الجرح الذي أحدثته تلك الانتخابات في نفس نخبة اعتقدت طويلا أن
بن علي قد أراحها من عدو أبدي ولكنه كان دالا من جهة أخرى على عمق الضغينة والتفكير
في الخلاص من هذا العدو".
بعد أن ظهرت نتائج الانتخابات شكلت
"النهضة" بالشراكة مع حزبين علمانيين من الوسط اليسار نظام تونس الجديد،
وهذه الأحزاب هي "التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" بقيادة مصطفى
بن جعفر رئيس المجلس الوطني التأسيسي الحالي وحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية"
حزب الرئيس محمد المنصف المرزوقي، لكن الأحزاب اليسارية والقومية رفضت الدخول في هذا
الائتلاف، وقرّرت الصراع إلى النهاية ضد الحكومة الجديدة.
في تقرير نشرته وكالة أنباء الأناضول، جاء فيه
أن الصراع بين الإسلاميين و اليساريين لم يبتعد عن الإرث التاريخي لهذا الصراع
وخصوصا فترة السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي، فحوالي ربع قرن من الزمان
انقضت لم تكن كفيلة بأن تجمع الإسلاميين باليساريين و الماركسيين في تونس، لسبب
وحيد أن الطرف الأخير استغل بشكل قدر من قبل نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن
علي لتثبيت حكمه.
الاتحاد العام للشغل
الاتحاد العام التونسي للشغل تأسس عام 1946
ولعب دورا هاما في تحريك الساحة الداخلية، فهو
الوحيد منذ عهد الرئيس التونسي السابق الحبيب بورقيبة و بقى كذلك في عهد بن
علي، لكنه تحول أداة لتأطير المجتمع في كنف سلطة متزايدة النفوذ. نظم الاتحاد في
تاريخه إضرابين الأول في 1978 أما المرة الثانية فكانت دعوة للإضراب العام لساعتين
فقط يوم 12 يناير 2011 قبل يومين من سقوط نظام زين العابدين بن علي.
حاول الاتحاد ترهيب حركة النهضة وحكومتها من
خلال تصريح شهير لأحد محاميه وكان من ناشطي أقصى اليسار الماركسي الطلابي في السبعينات
حيث قال "من يظن أن الاتحاد العام التونسي للشغل قد حفي (لم يعد يذبح) فهو واهم"، وكان هذا التصريح إعلانا عن مرحلة مواجهة بين الحكومة و الاتحاد.
بعد أن أعلن الاتحاد عن إضراب عام الخميس
الماضي اثر كثيرا في الوضع التونسي لان ذلك سيؤثر كثيرا على الأمن المحلي و سيحدث
عقبات وخيمة. لكن إتفاق بين الحكومة و الاتحاد التونسي للشغل كان كفيلا بإلغاء
الإضراب، هذه النقابة التي تعتبر الأضخم في تونس أسسها الزعيم العمالي الراحل فرحات
حشاد سنة 1946 بالتعاون مع الشيخ الزيتوني محمد الفاضل بن عاشور تُطرح اليوم أسئلة
عميقة حول خلفيات ودوافع خوض هذا الشكل النضالي العمالي الأخطر والأقسى في أساليب عمل
النقابات.
بعد صراعات سبعينيات العقد الماضي مع نظام الرئيس
التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة التي أفضت إلى الإضراب يوم 26 يناير 1978 أو ما سمي
آنذاك بـ"الخميس الأسود" في تونس الذي سقط فيه مئات القتلى وانتهى بسجن الزعيم
العمالي الحبيب عاشور ونقابيين آخرين، شهدت الثمانينيات صراعا داخل النقابة بين خط
عاشور وكتلة النقابيين اليساريين المتمركز أساسا في قطاعي التعليم الثانوي والبريد
بالتزامن مع تواصل محاصرة نظام الحكم للمنظمة من خلال الحث على الانشقاق عنها وإضعاف
دور عاشور.
ولما وصل زين العابدين بن علي إلى الحكم في 7 نوفمبر
1987 فرض توازنات جديدة داخل الاتحاد أفضت إلى إقصاء عاشور وإجباره على التقاعد الإجباري
من العمل النقابي. ثم أصبح بن علي يكرم زعماء الإتحاد سنويا ليضمن ولائهم. انعقد المؤتمر
خلال شهر مايو 1989 بمدينة سوسة الساحلية، أي بعد شهر من انتخابات عامة شهدت صعودا
كبيرا للإسلامين في حركة النهضة، وقام النظام بتزوير نتائجها حسب اعترافات أركانه مؤخراً.
وخلال هذا المؤتمر تدخّل وزير الشؤون الاجتماعية
وقتها، منصر الرويسي، ذو الجذور اليسارية لفك تحالف بين العاشوريين والإسلاميين كان
سيؤدي للمرة الأولى بالإسلاميين إلى الصعود لقيادة المنظمة النقابية؛ مما أفرز قيادة
مشتركة بين الدستوريين ومنتسبي تيارات أقصى اليسار التونسي.
وتمّ تعيين
إسماعيل السحباني رئيسا للنقابة الوحيدة آنذاك في تونس ولم يغادر الاتحاد العام التونسي
للشغل إلاّ بعد انكشاف فضيحة سرقته لأموال الاتحاد سنة 2000 وإدانته من قبل القضاء
والحكم عليه بـ11 سنة سجنا.
وبحسب عادل الثابتي مع مطلع تسعينيات القرن الماضي،
انتهى فعليا وجود الإسلاميين في الاتحاد بعد أن شملتهم الملاحقات الأمنية بداية من
سنة1991 وسجن العديد من رؤساء الاتحادات الجهوية وأغلب القياديين النقابيين المنتسبين
لهذا التيار، وشهد الاتحاد بروز وجوه جديدة في مستوى قياداته من التيار القومي الناصري
المتكوّن أساسا من الشباب الملتحق بالعمل النقابي خلال تلك الفترة من الطلبة الذين
كانوا ينشطون خلال الثمانينات ضمن تيار" الطلبة العرب التقدميون الوحدويون".
لم يكن الاتحاد يدعو إلى مواجهة مع النظام
خوفا من مغامرة غير محمودة العواقب مع نظام قمعي شرس، إنما كان يكتفي بالإضرابات العامة
الجهوية الاحتجاجية، بل دعا أكبر اتحاد جهوي وهو اتحاد العاصمة إلى إضراب ساعتين فقط
في اليوم الذي توج الثورة بفرار رأس النظام، وهو 14 يناير 2011.
لاحظ المتابعون في تونس أن الشعارات التي
يرفعها الاتحاد غايتها إسقاط الحكومة، وكثيرا ما تردد مجموعات من الشباب الطلابي اليساري
تخرج من دار الاتحاد بالعاصمة شعار "الشوارع والصدام حتى يسقط النظام"؛ بما
يعني موافقة المركزية النقابية على مضامين تلك الشعارات خاصة أن القيادة النقابية تحتوي
على قيادات شاركت في الانتخابات الماضية تحت راية حزب العمال أو حركة الوطنيين الديمقراطيين،
ولم تحصل على نتائج تذكر خلال انتخابات المجلس الوطني التأسيسي أكتوبر 2011.
وتذكر مصادر نقابية قاعدية مطلّعة أن رئيس الاتحاد،
حسين العباسي، خاضع لتأثير الجناح الماركسي المتشدّد في الاتحاد مما يُفسّر دعمه لكل
التحركات النقابية ذات الطابع السياسي وآخرها الأحداث التي شهدتها محافظة سليانة مما
جعله يصرح لإحدى الاذاعات أن الاتحاد يدعو إلى التظاهر انطلاقا من مقراته ثم لا يهمه
ما يحدث مما جعل البعض يفهم ذلك بأنه دعوة إلى العصيان.
ولاحظ المتابعون عشية الدعوة إلى الإضراب العام
تقاربا بين حزب "نداء تونس" الذي يوصف بأنه تجمع منتسبي حزب "التجمع"
الحاكم المنحل وبعض منتسبي اليسار ربما لمواجهة عدو مشترك .
ودعّم هذه الشكوك أن أول اتحاد أعلن الإضراب العام
الجهوي إثر أحداث 4 ديسمبر الجاري هو الاتحاد الجهوي بمحافظة سيدي بوزيد الذي يقوده
عضو سابق في اللجنة المركزية لحزب التجمع. ومع الحماسة التي تواصلت لدى البعض
للإنقضاض على الحكومة تراجع الاتحاد عن إضراب الخميس الماضي لسبب واحد وهو عدم
وجود دعم شعبي ظهر بوضوح من خلال فشل الإضرابات الجهوية التي سبقته في المحافظات وخاصة
من خلال مسيرة شارك فيها عشرات الآلاف في ثاني أكبر مدينة تونسية وأنشطها اقتصاديا،
وهي مدينة صفاقس جنوب البلاد، نهاية الأسبوع الماضي، ترفض الإضراب. بهذه الخطوة
التي رجع الاتحاد بها للوراء يكون قد رسم مستقبله و أظهر حجمه الفعلي على الساحة
التونسية وكل الملتفين حوله، وهو بذلك تراجع عن الخوض في مغامرة كانت ستكتب له
نهاية بائسة، وهو الآن أشبه بالعجوز المتقاعد الذي ينتظر إعلان ساعة وفاته. فلا تزال عقليات قياداته يسيطر عليها واقع قديم
بالتزامن مع مرحلة جديدة يعيشها المجتمع التونسي فموجة الشيوعية المطلقة التي
انتشرت في السبعينيات و الستينيات الآن أصبحت بالنسبة للجيل الجديد جزء من
إرث الماضي، خصوصا مع وجود صحوة إسلامية
ووع اجتماعي كبير يترك تأثيره على الساحة التونسية.