• - الموافق2024/05/07م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
حين صار عمر بن عبد العزيز أميرًا للمؤمنين

وكان عمر بن عبد العزيز، نموذجًا للحاكم الورع التقي المخلص لله في عمله. من طراز أولئك الخلفاء، مضرب الأمثال، المتميزين بالتقوى والفضل، والعكوف على رضى الله تعالى وطاعته والعمل على مرضاته


في يوم الجمعة لعشرٍ بقين من صفر سنة 99هـ، مات الخليفة سليمان بن عبد الملك، في دابق، بشمال الشام، حيث كان قد أنشأ معسكرًا كبيرًا، وسيّر منه حملة ضخمة، برية بحرية، لغزو القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، سنة 98هـ، بقيادة أخيه مسلمة، الذي كان قد دوخ الروم في آسيا الصغرى في خلافة أسلافه. وكان سليمان، قد أقسم على المرابطة في ذلك المعسكر، حتى تُفتح هذه المدينة الحصينة جدًا، التي امتنعت على الخلفاء السابقين، أو يتوفاه الموت. فوافته منيته، وهو هناك ينتظر الفتح.

وتولى الخلافة من بعده ابن عمه، وصهره ووزيره عمر بن عبد العزيز، بعهدٍ منه، وبمشورة التابعي الجليل، رجاء بن حيوة الكندي، المستشار المقرّب من سليمان بن عبد الملك، إذ ذاك:،وقيل: إن سليمان بن عبد الملك خبر عمر بن عبد العزيز، فوجد أنه لم يكن من بين الأمويين، من يصلح لهذا الأمر، غيره، لورعه، وتمسكه بأهداب الدين، وحفظ العهود والمواثيق.

وأيا كان الدافع، فإن هذه الوصية، كانت من أعظم حسنات الخليفة، سليمان بن عبد الملك، رحمه الله. وهكذا، فإن خلافة عمر بن عبد العزيز، التي جاءت بينما كان المسلمون على عتبات القرن الثاني الهجري، كانت خلافًا للنظام الوراثي الجاري، في تقاليد أسرة بني أمية، الأمر الذي أدهش أبناء وأحفاد عبد الملك بن مروان، وسبب لهم ما يشبه الصدمة، لكون الخليفة لم يكن منهم، وخشية أن تخرج الخلافة من بين أيديهم، بعكس موقف الغالبية العظمى من المسلمين، فقد قابلوا هذا الخبر المفاجئ بالبشر والترحاب والرضا، ونزل بردًا وسلامًا على قلوبهم، وفرحوا به فرحًا عظيمًا.

ولم يكن أحدٌ من المسلمين، يتخيل، آنذاك، أن ذلك، سيحدث. ولكنه بإذن الله، وإرادته حدث. والأمر لله من قبل ومن بعد، يؤتي الملك من يشاء }والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم{ [البقرة:247]. وقد باشر عمر بن عبد العزيز، عهده في الخلافة، بإحياء سنة الخلفاء الراشدين، في ولاية أمور المسلمين، وفي علاقة الحاكم بالمحكوم، ومن أهم ما يميز منهج عمر في سياسته، حرصه على العمل بالكتاب والسنة، وإعلاء الحق والعدل في الدنيا، ونشر العلم بين رعيته، وإرشادهم إلى الطريق المستقيم، وتحقيق مصلحتهم المشروعة، حسب شروط البيعة، واقتصر من دنياه على سد الخلة.

وكان عمر بن عبد العزيز، نموذجًا للحاكم الورع التقي المخلص لله في عمله. من طراز أولئك الخلفاء، مضرب الأمثال، المتميزين بالتقوى والفضل، والعكوف على رضى الله تعالى وطاعته والعمل على مرضاته، والتقرب إليه بخدمة الإسلام والمسلمين، ومن يساكنهم في دولتهم. وفي عهده القصير في الخلافة عمّ الأمن والرخاء والعدل، كل بلاد المسلمين. وكان ذلك العهد، إشعاعه مضيئة تنير الطريق، وكان بمثابة تكراراً، أو امتدادًا لعهد جد أمه الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.

ولم يجعل أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، في فترة خلافته، جهده الأكبر منصبًا على العمليات العسكرية، فيما وراء حدود الدولة الإسلامية. وذلك صيانة لأرواح المسلمين، فكان يخشى أن يندفعوا إلى مغامرات عسكرية غير محمودة العواقب، وكان يأمرهم بالانسحاب إذا كانت الفائدة، التي ترجى من الفتح، لا توازى مقدار التضحيات التي تُبذل في سبيلها، وأيضًا من الجهات التي لم يكن قد ثبت فيها سلطان المسلمين ثباتًا حقيقيًا، بعد، وأشرف على رعاية المسلمين في الأمصار النائية عن دار الخلافة، كالأندلس وبلاد ما وراء النهر، إشرافًا مباشرًا. وإلى جانب ذلك، فقد كان حريصًا كل الحرص، على رد المظالم، وإقامة العدل، وإشاعة الخير والحق، وتحقيق المساواة بين الناس، وإصلاح وتصحيح الأمور المتعلقة بالجوانب المالية والإدارية والقضائية، في الولايات المفتوحة، منطلقاً بذلك، من أسس شرعية إسلامية.

وكان من سياسته أيضًا، إعادة النظر في أمراء الأمصار والولايات الإسلامية، عزلاً وتولية، واختيار الرجل المناسب للواجب المناسب. ولقد كان عمر بن عبد العزيز من الخلفاء القلائل الذين يرون أن المناصب العامة، أمانة في عنق الإمام، ويجب أن يضعها، بالتالي، في أهلها. وكان مسلكه مسلك الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم، في تعيين الولاة، ولم يراع في اختيارهم، نسبًا أو لوناً أو وطنًا. إنما كان يختار لكل ولاية من هو أهل لها من ذوي الكفاية والاختصاص، ومن المعروفين بالصلاح والتقوى والورع والأمانة والقوة وعفة النفس والعدالة، وحسن الخلق والرحمة، والقدوة الحسنة ومشاورة الآخرين.

وقد عرف عمر بن عبد العزيز بتفوقه في المجال الأخلاقي، وذلك بتقدير أهل الفضل، والعلم، والتقدم، في خدمة الإسلام والمسلمين، وتقديمهم على غيرهم. ولم يكن أحد يلي له منصبًا، إلا من رجحت كفته كفاءة وعلمًا وإيمانًا. وكان حريصا على ذلك كل الحرص بالنسبة لجميع ولايات الدولة الإسلامية.

وحسبك أن تستعرض أسماء من اختارهم لولاياته؛ فتجد فيهم العالم الفقيه، والسياسي البارع، والقائد الفاتح، ومنهم أبوبكر بن محمد بن عمرو بن حزام، لولاية المدينة. وعبد العزيز بن عبد الله بن أسيد الأموي لولاية مكة. وإسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، مولى بني مخزوم، لولاية المغرب. والسمح بن مالك الخولاني، لولاية الأندلس. والجراح بن عبد الله الحكمي لولاية خراسان. وعدي بن أرطأة الفزاري لولاية البصرة. وعبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب لولاية الكوفة. وعمر بن هبيرة لولاية الجزيرة. ورفاعة بن خالد بن ثابت الفهمي، لولاية مصر. وغيرهم.

وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز يُلزم عماله العمل وفق مبادئ الإسلام، ويحاسبهم على ذلك حساباً عسيرًا. وأعطى لهم الحرية في إدارة شئون ولاياتهم؛ فلا يشاورونه، إلا في الأمور العظيمة. وكان، رحمه الله، يكره أن يولي أحداً على المسلمين ممن غمس نفسه في الظلم أو عمل مع الظلمة، لاسيما الحجاج بن يوسف الثقفي، إلا إذا كانوا رجالا أكفاء أمناء.

ورغم أنه كان قد أخذ نفسه بالشدة والحياة الخشنة، إلا أنه كان يوسع على عماله وولاته في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار ومائتي دينار، وكان يتأوّل أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأشغال المسلمين.

وأخيرًا وليس آخرًا، كان للخليفة عمر بن عبد العزيز مأثرته في تدوين السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وبعث بنسخ عما تم كتابته إلى سائر أمصار دولة الخلافة، قال ابن شهاب الزهري (124هـ): "أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفترًا".

وقد توفّي عمر بن عبد العزيز، في رجب سنة 101 للهجّرة، وله من العمر 40 سنة فقط، ولم تتجاوز مدة خلافته سنتين وأربعة أشهر. فرحمة الله عليه وعلى موتى المسلمين.


أعلى