• - الموافق2024/11/29م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الحركة النسوية والمعيارية الأنثوية.. البكاء الذكوري أنموذجاً

الأنثى المعيار، هكذا يدعي الغرب، وقد زادا وصفًا للذكورة فنعتها بالسامة، وكأن الأنثى هي ترياق الإنسانية، لذا فإن أدوار التربية الحديثة تعنى بتربية البنين وفقًا للأنماط الأنثوية، الإشكالية هنا هو الاتباع اللاوعي لدى كثير ممن يصفون أنفسهم بخبراء التربية بهذا


باتت الحركة النسوية الغربية تَعتبر المرأة المعيار والنموذج الذي ينبغي أن يحتذي به العالم ويتأسى به البشر رجالا ونساء، في سابقة تاريخية لم تتكرر أزلاً منذ بدء التاريخ، ضاربة عرض الحائط بالمنطلقات والمبادئ والمقدمات العقلية والمنطقية والثقافية وحتى الشرعية التي تقر بالاختلاف بين الجنسين. وبناءً على هذا التصور المغلوط فإن كافة العواطف، وكافة التصرفات المبنية على هذه العواطف ينبغي لها أن تصدر وفق رؤية أنثوية فحسب، حتى ولو صدرت عن رجل، متجاهلةً الفروق البيولوجية والفسيولوجية بين الرجل والمرأة، والتي تحدد بصورة كبيرة طبيعة تعامل كل جنس من الجنسين مع الأحداث والظروف المحيطة.

البكاء على سبيل المثال من الأمور التي انتشر الحديث عنها مؤخرًا بشكل هستيري، كثير من المنشورات والمقاطع المصورة لكاتبات ومؤثِّرات على وسائل التواصل الاجتماعي، ومستشارات تربويات ونفسيات، كثير من هذه المواد تطالب الأمهات بتربية أطفالهن على ضرورة البكاء دائما للتنفيس عن مشاعرهم المكبوتة، (المقصود الأطفال الذكور على وجه التحديد)، تمامًا كما تفعل الفتيات، وخطورة كبت الولد لبكائه بسبب أنه رجل وأن الرجال لا تبكي، واعتبار أن الأم والأب اللذين يربيان ولدهما على عدم البكاء في كل المواطن التي تقتضي ذلك مخطئان، واعتبار أنهما يجنيان على ولدهما ذلك جناية نفسية كبيرة!!

 

هذه المغالطة منطلقة في الأساس من مغالطة أخرى تدَّعي التسوية بين الجنسين في الاحتياجات العاطفية والنفسية، وهذا محض تجنٍّ على العلم والطبيعة البشرية والبديهية العقلية.

بل وتعدت تلك المطالبات الأطفال لتصل للرجل البالغ المسؤول أيضًا لتطالبه هو الآخر بذرف الدموع، وعدم الخجل من إظهار ضعفه للآخرين بالبكاء، بحجة أنه إنسان ويحتاج لتنفيس هذا "الكبت الداخلي"!! فهذه طبيعته، وأن الرجل الباكي رجل قوي يستطيع أن يواجه العالم بمشاعره ولا يستحيي منها.. هكذا يقلن!!

والعجيب أن هذه الدعوى متكررة بصورة حرفية، تستطيع تلمسها والتأكد من أنها تكاد تكون منسوخة بالحرف من بعضها، ما يشير إلى أن غالبية الداعيات إليها مجرد ناقلات وليست لديهن المعرفة والعلم المناسبين للتحليل واستخلاص النتائج، ولكنه مجرد (ركوب للترند) كما يقال، وترسيخ للمعيارية الأنثوية والتمركز حول المرأة، بكتابة انفعالية عاطفية لا أكثر ولا تمت للمنهجية العلمية أو المنطق بصلة.

هل احتياجات الجنسين متماثلة؟!

المغالطة المنهجية هنا تكمن في المنطلق الأساسي لهذه الدعوى، وهي أن الرجل يحتاج لهذه الدموع الساخنة ليقدم البرهان على كونه إنسانا له عواطف وشعور!!

والحقيقة أن هذه المغالطة منطلقة في الأساس من مغالطة أخرى تدَّعي التسوية بين الجنسين في الاحتياجات العاطفية والنفسية، وهذا محض تجنٍّ على العلم والطبيعة البشرية والبديهية العقلية.

فطبيعة المرأة الأنثوية في هذا الوضع تضطرها إلى البكاء فعلاً للتنفيس عما في داخلها من جميع العواطف المكبوتة لديها، جميع الاستفزازات الخارجية بلا استثناء قد تضطرها إلى ذلك، مهما كبرت هذه الاستفزازات أو صغرت، وهذا بالتأكيد مخالف لأسلوب الرجل تماما كما سنشير.

فضلاً عن أن أحد أهم الأهداف اللاشعورية للبكاء لدى المرأة هو جلب التعاطف، وتعزيز شعورها بالمشاركة الوجدانية من الآخرين عن طريق إظهار هذا الضعف الفطري لديها، بل والتفاخر به أحيانا، فالمرأة تفتش دائما عن المتعاطفين. وهذا بالتأكيد لا يعيبها، فهي طبيعة فطرية مناسبة تماما لمهمتها الأساسية على ظهر الكوكب، وليس من سبيل للهروب من هذه الطبيعة، مهما رأتها النسويات مظهرا من مظاهر الخلل الذي لا يقبلنه ولا يردن أن يقبلنه، فهذا شأنهن.

ولا يخفى أن كثيرًا من النسوة والفتيات اليافعات يعقدن جلسات خاصة للبكاء فقط، يتبادلن فيها الدموع، ويتشاركن عبارات المواساة والأحضان الدافئة، وبعدها يخرجن من مشاعرهن السلبية تلك كيوم ولدتهن أمهاتهن!! فيا لهن من ذوات حظ عظيم!! وهذا بالمناسبة أحد أساليب العلاج النفسي لحالات الاكتئاب لدى النساء تسمى أحياناً جلسات التفريغ النفسي.

أما الرجل؛ فمن قال إنه يحتاج إلى البكاء بتلك الصورة للتنفيس عن كل صغيرة وكبيرة؟! فإن كان الرجل يغبط المرأة على مثل هذا الأسلوب الذي تبرع من خلاله في طرد مكنونات نفسها السلبية، إلا أن هذا التصرف لا يناسبه ولا يشبعه بحال من الأحوال لو فعله، بل ربما يخرج من ذلك بوضع سلبي متفاقم أكثر وأكثر، فهذه اللطميات ستضخم من شعوره السلبي بمشكلاته، وستضاعف من معاناته. وأبرع مثال على ذلك هروبه المستمر من فضفضة زوجته إليه بمشاعرها السلبية، بل وعزوفه هو نفسه عن الفضفضة بمكنونات نفسه إليها، فهذا مما يصيبه بحالة من الحزن والاغتمام، حتى يصف ذلك أحيانًا بـ(النكد الزوجي)، في الوقت الذي تلحّ المرأة فيه وتضغط فقط لتحكي له ذلك وتنال تعاطفه ومشاركته الوجدانية!!

ويمكننا هنا أن نشير إلى أن للرجل أساليبه الأخرى في التنفيس عن مشاعره السلبية، والتي ليس أحدها البكاء بالمناسبة، أو كي نكون دقيقين "آخرها في الترتيب الحاجيّ هو البكاء"، فدموع الرجال عزيزة ولا تستحضر إلا في حالات خاصة (وفاة - فراق عزيز بسفر أو غيره - مصائب ليس لها حل – القهر والإذلال)، وأحد أساليب التنفيس هذه -ويا للغرابة- هو جلسات المزاح وتبادل النكات مع القريبين والأصدقاء. ومنها وربما يكون أهمها هو السكون الأوتوماتيكي والتحديق في اللا شيء، وهذه العملية أشبه ما تكون بعملية تفريع آلية لحاويات المياه عبر توصيل أنبوبها في بالوعة الصرف، يفرغ الرجل من خلالها كل ما لديه ليتمكن بعدها من مواصلة السعي. ويمكن ملاحظة ذلك حينما تراه جالسًا محدقًا في المجهول، فإذا سألته عن تفاصيل ما يشاهد فلن تجد لديه إجابة!!

هذه حقيقة ربما لن تفهمها الأنثى، بل على الأرجح لن تفهمها، تمامًا كما لا يمكن لرجل أن يفهم أنه لكي ينفّس عن أحزانه يجتمع مع أصدقائه لكي يحكوا هذه الأحزان ويبكوا!! لا يمكن لرجل أن يتصور أي جدوى من ذلك!! بل على العكس إنه يتصور ضررًا كبيرًا على نفسيته تسببه هذه الآلية، لذا فالآلية الأجدى عند الرجل للتغلب على الحزن هي الهروب منه لا الانغماس فيه، بينما العكس لدى المرأة.

 

على المربين والمربيات تحييد عواطفهم تمامًا عند الشروع في التربية، وذلك حينما يربي رجلٌ فتاةً، وحينما تربي امرأةٌ فتىً، خاصة فيما يتعلق بالمشاعر والعواطف وأساليب التعامل معها

الحاجة البشرية للبكاء:

الكائن البشري عامة يحتاج إلى البكاء لما له من أثر في تحسين الحالة النفسية، لكن هذا الاحتياج متباين جدًا بين الجنسين، سواء في المقدار أم في الصورة التي يخرج بها، أم في تحديد مستوى الذروة الذي عنده يصل الاحتياج لنقطته الحرجة، فدموع الرجل مثلاً ليست سهلة الاستدعاء، ليس بسبب التنشئة الاجتماعية والتقاليد التي تقيد ذلك فحسب كما يقال، وإنما قبل ذلك بسبب طبيعته الفطرية التي خُلق عليها، فطبيعة دوره في الحياة من المسؤولية والقيادة والقيام على شؤون العائلة يناسبها طبيعته الجلدة المتماسكة العصية على الانهيار لأسباب بسيطة.

أما الأنثى فلها شأن آخر، لإنها أمّ في المقام الأول، لها دور عظيم لا يستطيعه غيرها، من الحنو والاحتواء والرحمة التي وصلت لحد الذروة فيها، فهي مصدر العاطفة، ومنبع الحنان، وينبوع ينبعث منه كل ذلك، لذا فكثير من تصرفاتها تكون منطلقة من هذا الأساس الفطري لديها، حتى في تعاملها في المجتمع خارج نطاق العائلة فإنها تتعامل بالطريقة ذاتها، وفي حال رغبتها في التعامل بصورة أخرى فإنها تجد صعوبة بالغة في تطويع نفسها على ذلك.

وإني لأتخيل رد فعل الزوجة حينما يخبرها زوجها بأنه سينظم مع أصدقائه جلسة أسبوعية للبكاء والاحتضان، وردها المندهش والمستنكر: هل أنت بخير؟!

إذاً كيف نربي أبناءنا؟!

على المربين والمربيات تحييد عواطفهم تمامًا عند الشروع في التربية، وذلك حينما يربي رجلٌ فتاةً، وحينما تربي امرأةٌ فتىً، خاصة فيما يتعلق بالمشاعر والعواطف وأساليب التعامل معها، وذلك بسبب اختلاف النوع واستحالة شعور الرجل بمشاعر الفتاة بصورة كاملة، واستحالة شعور المرأة بمشاعر الفتى بصورة كاملة أيضًا، وهنا يأتي دور العلم المجرد المعتمد على التجربة والفطرة الإنسانية. أما تعامل الأبوين مع أطفال من الجنس نفسه فهذا بالتأكيد سيكون أيسر لأن المشاعر واحدة.

وبما أننا نتحدث هنا عن الظاهرة النسوية فإن على المرأة حينما تربي أن تعزز صفات الأنوثة في الفتيات وصفات الرجولة في الأولاد، طارحة مشاعرها وكينونتها ورغبتها الأنثوية جانبًا، ينبغي دراسة متطلبات كل جنس بناءً على طبيعته وتوفيرها له بعيدًا عن ميولنا الشخصية، وألا نفرض احتياجاتنا على أبنائنا، لاسيما لو كانوا من جنس مختلف.

وإننا هنا لا ندعو لأن يكبت الرجال دموعهم حين تقتضي الحال، وإنما ندعو لترشيد ذلك، وتوظيفه التوظيف الأمثل الذي يتناغم مع الطبيعة الإنسانية للرجل لا مع الرغبة الأنثوية التي تسعى لفرض احتياجها عليه، وأن يصير مثلها في طريقة التعبير عما في داخله.

 

أعلى