الخوف من عدوى الإصابة بالمرض الفلسطيني
أصبحنا جميعاً ندرك أننا مجتمع مريض يتألم، وأننا
نعاني من أعراضِ مرضٍ مزمنٍ وخطير قد أصابنا في كل مفاصل حياتنا، وأننا مهددين بمواجهة
تداعيات هذا المرض، الذي يبدو أنه مرضٌ قاتل، وأن سبل النجاة منه أضحت معدومة، ولم
يعد هناك ثمة أمل لنا بالشفاء منه، بعد أن تمكن من الجسد، فأدمى أطرافه وهتك قلبه ومزق
أنسجته، وقد استعصى على كل محاولات العلاج ووصفات الدواء، وأعيى الأطباء وحير العلماء
والحكماء، الذين جربوا على هذا الجسد المدمى كل أنواع العلاج الممكنة لكن دون جدوى،
وهم يرون نتائجه الخطرة على القلب والجسد والروح والأرض والوطن والصورة والسمعة والمثال.
فهذا المرض العضال، الذي فتك بنا، وفتت قوتنا وأضعف
حيلتنا، وأذهب عزيمتنا وحل عريكتنا، وفت في عضدنا، وبث سمومه فينا، وأفقدنا حماسنا،
وأبعدنا عن هدفنا، وسهل على العدو افتراسنا، ومكن له أكثر في أرضنا، وسلخ عنا أرضنا
والمزيد، وجعلنا بين يديه كالخراف نساق كل يومٍ إلى المسلخ لنذبح من جديد، على يد ذات
الجزار الذي نعرفه، والذي بيدي أحفاده ذبح آباءنا وشرد أهلنا، وسكت عنه العالم وأيده،
ولا من يدافع عنا، أو يرفع الرأس ويصرخ بعالي الصوت أننا نرفض أن نستباح وأن نهان،
فقد قتل المرض فينا الغيرة والحمية، وقضى في قلوبنا على روح الثورة والغضب، وأضعف قدرتنا
على الرؤية والإبصار، فأضعنا الهدف، وانحرفنا عن الطريق، وزلت بنا الأقدام عن جادة
الصواب، فلم يعد يجمعنا منهج، ولا يوحدنا وطن.
إنه مرض الانقسام المقعد المشل المشوه، المنحرف
المضل السيئ، الذي يبعث على القرف والاشمئزاز، ويثير في النفس الحزن والأسى، ويحرك
في القلب كوامن الشر وكره الخير، إنه المرض الذي يزيد في التحزب، ويضيق الخناق على
الوطن، ويخرج المواطن عن سماحة وطنه إلى بؤس تنظيمه، ويحرمه من فضاء بلده إلى ضيق حزبه
وأسر فصيله، إنه الانقسام الذي يشوه الصورة، ويحرف الحقيقة، ويضل عن الطريق، ويبعد
عن الهدف، ويتلاعب في معسكري الأصدقاء والأعداء، فيوهمنا بأن العدو صديقنا، وأنه الحريص
على مصالحنا والأمين على حقوقنا، أما صديقنا فهو من يتربص بنا ويكن لنا العداء، ويروم
أن يسقينا مر الدواء، إنه مرض الفرقة والخصام والاختلاف والتنابذ والتمزق والضياع،
أعراضه معروفه، وتداعياته خطيرة، ونتائجه المحتومة مؤكدة، فهو لا يقود إلا إلى الموت
والضياع، ولا يؤدي إلا إلى الخراب والدمار، ولا يؤسس إلا إلى القتال والصراع.
أصبحنا نستحي من مرضنا، ونخشى أن يعرف الناس حقيقة
علتنا، فبتنا نخفي معالمه، ونتظاهر بأننا اقتربنا من مرحلة الشفاء منه، بل أننا في
طور النقاهة، وعما قريب سنستعيد عافيتنا وقوتنا، وسنعود كما كنا أقوياء أصحاء، لا خوف
على حياتنا، ولا خطر يتهدد مستقبلنا، وستعود إلينا صورتنا البهية، وسيرتنا الناصعة
النقية، ولن نكون مضطرين لتجرع أدوية مرة، ولا علاجاتٍ غريبة لها مضاعفاتٍ خطرة، وبتنا
نهنئ شعبنا في كل مرة أننا على أعتاب الخروج من حالة المرض، وأن الطبيب المعالج الذي
صرف لنا الدواء قد أمر بخروجنا من المصحة، ولم يعد لوجودنا فيها حاجة أو منفعة.
نحن أكثر من يعرف أننا نكذب على أنفسنا، وأننا
نخفي حقيقتنا، ونخدع شعبنا وأهلنا ونضحك على ذاتنا، وكأننا كمن كذب حتى صدق نفسه، إذ
نتظاهر بالشفاء ونحن مرضى، وندعي الصحة بينما أجسادنا تئن وتعاني وتنزف دماً، ونعلن
أننا على مشارف الوطن ونحن أبعد ما نكون عنه، ونوهم المضحين معنا والمسافرين على مركبنا
أننا بتنا نرى اليابسة والطيور في السماء، وأن الأشجار أخذت تتراءى أمام عيوننا، ولكننا
في الحقيقة لا نرى اليابسة ولا وجود لطيرٍ في السماء، إنما هي أوهام وخداع، وكذبٌ وتضليلً،
ولا من يدفع الثمن ويتكلف عنا التضحية سوى هذا الشعب المسكين، الذي صدق قيادته، ومنحها
ثقته، وأظهر لها الحب والصدق والولاء، وهو المسكين لا يدري أنه مخدوعٌ ومضلل.
باتت الشعوب كلها تخشى الاقتراب منا أو الاختلاط
بنا، وتريد أن تنأى بنفسها عنا، وتبتعد ما استطاعت عن مشاكلنا، وتنجو بنفسها من لهيب
ثورتنا، بل إنها ترفض أي محاولة للمقارنة بنا، إذ لم نعد نحن بالنسبة لها القدوة والمثال،
فهي تخشى على نفسها منا، وتحرص ألا تصيبها منا عدوى الفرقة والانقسام، فهذا المرض أشد
على الأمم من السرطان، فهو يفتك برجالها، ويقتل أطفالها ويزرع اليأس في أرحام نسائها،
فلا تلد إلا مريضاً أو مشوهاً، ولا تخرج إلى الحياة منها إلا حانقاً وغاضباً، باحثاً
عن الهجرة، وساعياً نحو النجاة والفرار، فهذا مرض إن انتقل إلى شعبٍ أو أمة فقد آذن
بذهابها، وغروب شمسها، وزوال ملكها، لذا فقد أصبحت تكره التشبه بثورتنا، ولا تريد أن
تتأسى بتاريخنا، أو تتعلم من تجاربنا، أو أن تستفيد من ماضينا، إذ أن الأمور بخواتيمها،
وخاتمتنا لم تكن مشرفة ولا مرضية، ولم تتمكن من تحقيق الأهداف التي من أجلها انطلقت،
ولم تصل إلى الغايات التي من أجلها ضحت، فلماذا بنا تتأسى وبنهجنا تقتدي.
أصبحنا اليوم نتوارى في زوايا الكون من شعوب العالم
من سوء ما ارتكبته قيادتنا، ومن فحش ما صنعته حكوماتنا، ولم نعد ندري هل نؤمن بها ونتمسك
بها وندافع عنها، ونعطيها ثقتنا من جديدٍ ونأمل فيها، علها تأخذنا إلى بر الأمان وشاطئ
السلام، أم نقبل بقدرنا، ونعترف بموتها، ونحفر لها في الأرض قبراً وندسها في التراب،
ونمر عليها من حينٍ لآخر قائلين لها، سلامٌ عليكم دار قومٍ هالكين، أنتم السابقون ومن
سار على دربكم هم اللاحقون.