التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني سلاحٌ ذو حَدَّين
كتب:
إيهاب نافع
في السادس
عشر من ديسمبر لعام 1998م تسربت وثيقة خاصة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية
(CIA) تحت تصنيف «سري جدًا: معلومات
أمن قومي/ أي كشفٍ غير مُصرَّح به يُعرِّض صاحبه لعقوبات قانونية»؛ وكانت خاصة
بخطةٍ لدعم الديمقراطية في يوغوسلافيا السابقة (قبل التفكيك) وذلك تحت عنوان:
«دولة صِربية ديمقراطية جديدة»، وحملت الوثيقة المُسَرَّبة ختم مؤسسة البلقان/
المخابرات المركزية الأمريكية.
وقد أكدت
الوثيقة على أن دعم الديمقراطية في تلك البلاد سيكون عبر «منظمات المجتمع المدني»،
وذلك عبر اتجاهين متوازيين هما: تمويل تلك المنظمات غير الحكومية، وفتح الأبواب الصربية
للمنظمات الغربية والأمريكية على مصرعيها؛ وهو ما أشارت إليه الوثيقة
بالحرف الواحد: «ويتوجب أيضًا تشجيع المنظمات غير الحكومية الأمريكية والأوروبية
على زيادة حضورها في جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية».
واتضح الهدف
الرئيس من الدعم الأوروبي والأمريكي في جملة «ويجب أن نركز بشكلٍ أساسي هنا على
تنمية جيلٍ جديد من القادة الذين يحترمون التعددية السياسية، وتحرير الاقتصاد،
وحكم القانون، والتسامح». كما قسمت الوثيقة الجهود كالتالي: أولاً: التركيز على
المؤسسات الديمقراطية، والإعلام الذي خُصص له أكثر من ثلث التمويل، والمنظمات غير
الحكومية المحلية، والنقابات العمالية، وقطاع التعليم، والقضاء المستقل، والأحزاب
السياسية، واللجان الانتخابية، والمنظمات الشبابية.
ولا يحتاج
أحدٌ أن يبرهن على أن تلك المنظمات المُعانة أجنبيًّا تتحرك ضمن إستراتيجيات
وخطوطٍ عريضة تُحددها قوى الهيمنة الخارجية؛ حتى لو بدا لها أن أحدًا لا يفرض
الشروط عليها بالنسبة لتفاصيل هذا المشروع المحدد أو ذاك [1].
ومما سبق
يتبين جليًّا كيفية تخطيط العقل الأمريكي والأوروبي لتفكيك الدول والأقاليم
_تواكبًا مع مبدأ المصلحة_ مستغلاً بذلك منظمات المجتمع المدني بكل أطيافها، وهي
الصورة الأبرز في مصر الآن؛ لِمَا يثور حول قضية التمويل الأجنبي لمثل هذه
المنظمات، إلا أنها _وفي حالة دولةٍ كبرى كمصر_ أنفقت ما يصل إلى تسعة أضعاف الرقم
الذي أُنفق في صِربيا، وأيضًا باستغلال تلك المنظمات المحلية (المصرية) والدولية؛
الأمريكية خاصةً والأوروبية عامةً.
واتخذت تلك
الدول «المانحة» ذراعيّ المنظمات (المحلية والدولية) والممتدة رأسيًّا وأفقيًا عبر
الشرائح الاجتماعية المختلفة؛ كرأس حربةٍ لإضعاف الدولة وتقسيمها سيرًا في تحقيق
خطة «الشرق الأوسط الجديد»، ولكنْ بأساليب تختلف مع اختلاف الأحوال والظروف
السياسية، وخاصةً بعد فجأةِ ربيع الثورات العربية.
فمع نجاح
الثورة المصرية في خلع رجل أمريكا الأول في الشرق الأوسط (مبارك)، والتغيير الجذري
الذي بدأ يلوح نجاحه على معظم الأصعدة، ومع التحول الرهيب في المشهد السياسي المصري،
وبروز ما يُعرَف بالإسلام السياسي على الساحة السياسية والاجتماعية والرسمية؛ واكب
ذلك كله توترٌ في العلاقات (الأمريكية المصرية)، وقد زاد هذا التوتر مع مداهمة
السلطات المصرية لمنظمات المجتمع المدني «غير المرخصة»، وإحالة 43 من العاملين بها
إلى المحاكمات الجنائية؛ وبينهم 19 أمريكيًا.
واستخدمت
واشنطن كل وسائل الضغط على السلطة المصرية للتراجع عن قرار محاكمة الأمريكيين بسبب
تمويل منظمات المجتمع المدني العاملة في مصر _بحوالي 175 مليون دولار في أربعة
أشهر فقط [2] _، بينما رفضت مصر هذه المطالبات كلها، وهو ما
جعل أمريكا تُلوِّح بوقف المساعدات لمصر؛ إلا أنه وقد ظهر أن تلك الفزاعة لم تعد
تجدي مع المصريين؛ فلقد خرج الشيخ/ محمد حسان بمبادرةٍ طيبة للخروج من التبعية
الأمريكية إلى الأبد؛ وهي أن يجمع من المصريين أنفسهم قيمة تلك المساعدات
الأمريكية، وقد حازت هذه المبادرة تجاوبًا شعبيًّا منقطع النظير، فضلاً عن أن هناك
_أساسًا_ من يثير الشكوك حول قصة وقف المساعدات الأمريكية لمصر؛ حيث إنها جزءٌ
أساسي من معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، وأن إيقافها سيعني بالضرورة توجيه
ضربةٍ قاسمة للعلاقات (المصرية الإسرائيلية) والقائمة أصلاً على أقل مستوىً من
الاحترام المصري لها.
وبرغم أن
الكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد (نقيب الصحفيين الأسبق) يرى أن الأزمة بين البلدين
قد بالغ الإعلام فيها شيئًا عظيمًا، وان الأمر على حقيقته لم يأخذ هذا المنحنى
الخطير في العلاقات المصرية الأمريكية؛ إلا أن الدكتور/ حسن نافعة (أستاذ العلوم
السياسية) يرى أن ما حدث هو أمر طبيعي لاختلاف وجهات السياسات والظروف السياسية
التي تمر بالبلدين؛ فأمريكا تَعتبر نفسها القوة العظمى التي يجب أن تشارك _على
الأقل_ في سير الأحداث، ولم ولن ترضى بموقف المشاهد أو المتفرج لعملية انتقال السلطة
بطريقةٍ نزيهة شعبية، وفي المقابل: مصر تحاول أن ترسي قواعد جديدة لسياستها
الخارجية غير تلك التي كان معمولاً بها في النظام البائد، وقد قامت بذلك
فعليًا في الأوقات الأخيرة.
وما قاله
قضاة التحقيق في المؤتمر الصحفي الذي عُقد بخصوص قضية التمويل الأجنبي؛ يؤكد أن مصر مستهدفةٌ من قِبَل تلك الدول المانحة؛ فلقد
أظهرت الأوراق التي ضُبطت مع التفتيش القانوني لتلك المنظمات أن هذه الفروع
الأمريكية الأربعة للمنظمات ما هي إلا منظمات سياسية وليست مجرد جمعيات أهلية، بل
وُجِد هناك ما يمس كيان الدولة وسيادتها، مثل الخرائط التي تتضمن تقسيم مصر إلى
أربعة كيانات، وأوراق أخرى بينت تكليف مجموعةٍ بتصوير الكنائس والمساجد في عددٍ
غير قليل من المحافظات المصرية، مع خرائط أخرى تبين مواقع انتشار القوات المسلحة
في السويس والإسماعيلية، فضلاً عن الأوراق التي تثبت تمويل هذه الجهات لإنشاء أحزاب
سياسية وتدريب أعضائها، وهو ما يعيدنا إلى تلك الوثيقة التي تسربت في 1998م
والمشار إليها تفصيلاً في أول هذه التقرير.
ومما يعضد
هذه الرؤية: ما ذكرتْه فايزة أبو النجا نفسها في معرض شهادتها التي كانت قد أدلت
بها في أكتوبر 2011م أمام مستشاري التحقيق في قضية التمويل الأجنبي حين قالت: «إن
أحداث ثورة 25 يناير جاءت مفاجئة للولايات المتحدة الأمريكية، وخرجت عن سيطرتها
لتحولها إلى ثورةٍ للشعب المصري بأسره.. وهو ما قررت معه الولايات المتحدة في حينه
العمل بكل ما لديها من إمكانيات وأدوات لاحتواء الموقف وتوجيهه في الاتجاه الذي
يحقق المصلحة الأمريكية والإسرائيلية أيضًا».
كما أشارت
أبو النجا إلى أن كل الشواهد كانت تدل على رغبةٍ واضحة وإصرارٍ على إجهاض أي فرصة
لكي تنهض مصر كدولةٍ حديثة ديمقراطية ذات اقتصاد قوي، حيث سيمثل ذلك أكبر تهديد
للمصالح الإسرائيلية والأمريكية، ليس في مصر وحدها وإنما في المنطقة ككل.
ويبدو أن
الأمريكيين لم يفهموا _فعليًا_ أن ثمة خريطة سياسية جديدة تشكلت وتتشكل في مصر وفي
عموم العالم العربي، وأن ما صلح مع النظام البائد من ضغوطٍ ومِنح ماليةٍ
وإستراتيجية لن ينفع مع مصر الجديدة.
ويجدر بنا أن
نتذكر ما كتبته وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في مجلة «Foreign Affairs»، في مقالٍ لها بعنوان: (القيادة من خلال القوة المدنية... إعادة
تعريف الدبلوماسية والتنمية الأمريكية)، وأنه وعلى الرغم من نشره قبيل الثورة
التونسية إلا أنه يرسم الخطوط العريضة للفكر الأمريكي الجديد؛ مستغلةً قوة المجتمع
المدني، فضلاً عن كونها وضعت الإستراتيجية القادمة للتعاطي مع القضايا والأزمات
العالمية عبر هذه القوة الناعمة.
وتؤكد
كلينتون في مقالها المذكور أن «دمج الدبلوماسية والتنمية والسلطة المدنية» تنسجم
تمامًا مع التاريخ الأمريكي وتقاليده، مذكرةً قومها بـــ «خطة مارشال» التي كانت
تُعَد أول مبادرةٍ حقيقية للتنمية المدنية أُجريت مع الحكومات الأوروبية، وأيضًا
الرئيس الأمريكي روزفلت؛ فلقد كان رئيسًا للَّجنة التي أصدرت الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان، علاوةً على تأسيس الرئيس جون كنيدي فيالق السلام، ليظهر للعالم
وجهًا مختلفًا للولايات المتحدة. كما أن العالم الأمريكي نورمان بورلوغ كان
مسئولاً عن «الثورة الخضراء» التي أشبعت ملايين الجياع في العالم. كما ساعد
دبلوماسيون أمريكيون في التفاوض على إعادة توحيد أوروبا في عام 1991م دون أن
تُطلَق رصاصة واحدة [3].
وأخيرًا
_ورغم استمرار الأحداث في تلك القضية التي حازت اهتمامًا إعلاميًّا واسع المدى
داخليًا وخارجيًا_ فالحكومة الأمريكية لا زالت تُمَوِّل منظمات المجتمع المدني؛
حيث ثبت أن أمريكا قدمت لـ 68 منظمةً مبالغ مالية بلغت 1.2 مليار جنيه، في حين أن
القضية لا زال يتم تداولها أمام المحاكم الجنائية المصرية. كما أظهرت الأدلة في
التحقيقات أن أمريكا وألمانيا زادتا من حجم التمويل لمنظمات المجتمع المدني
التابعة لهما في مصر بنسبة 80 في المائة، كما حصل كل متدرب لدى هذه المنظمات على
مبلغٍ شهري يصل إلى13 ألف جنيه مصري في وقت نظر القضية أمام المحاكم.
[1] د./ إبراهيم علوش في مقالٍ له على شبكة
الإنترنت بعنوان: «التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني: وثيقة للسي آي إيه».
[2]
كما أكدت ذلك وزيرة التخطيط والتعاون الدولي فايزة أبو النجا؛ في كلمتها أمام لجنة
حقوق الإنسان بمجلس الشعب بخصوص أزمة التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني.
[3] مجلة
السياسة الدولية، جريدة الأهرام المصرية، عرض وترجمة مقال هيلاري كلنتون في مجلة «Foreign Affairs».