دمعة على حب النبي - صلى الله عليه وسلم
قلِّب عينيك في الملكوت ترَ الجمال بديعاً، وافتح قلبك لأسرار هذا
الجمال ترَ الحياة ربيعاً، وخض في معترك الحياة تكن لك الحياة جميعاً، واجمعْ لي
قلبك أجمعْ لك عقلي، وامنحني يدك فإني لأرجو أن أمنح لك حياةً هادئة سعيدة بإذن
الله، وافتح صدرك أملؤه دفئاً ومحبةً
وصدقاً . كن معي لأكون لك وكما تحب
.
وأعطني دمعةً تحيي بها قلبك، وتسلّي بها نفسك، فدموعنا مداد للفكر، وعبراتنا
ثباتٌ على المبدأ، وبكاؤنا دوامٌ على النهج والمنهج، قلوبنا أهديناها بالحب إلى
غير محب ففقدنا أعزَّ ما نملك، وإذا بنا نتحسس أماكنها وقد تَوَهَّمنا وجودها،
إننا بحاجة إلى أن نحب ولكن لا نغلو، ونهوى ولكن لا نفرط، ونعشق ولكن بتعفف .
إن القلب هو الكنز الذي لا يقرؤه إلا من يملكه، وإن راحة الضمير
أنوارٌ تتلألأ في الغَلَس، وينابيع متفجرة في الصحارى، وكنوز داخل البيوت المهجورة،
كم من الوقت ضاع لأجل الحب وفي دوّامته ؟ وكم من العقول ذهبت لأجل الحب وفي دائرته
؟ ونغرق يومنا في أبجديات الحب ! ! فمحب يعيش بين الذكرى والنسيان، ومحب يتيه بين
الوصل والحرمان، حبٌّ يُسعد في الاسم، ويُشقي في الرسم، جمالٌ في الصورة، وغموضٌ
في الحقيقة، الحب تاجٌ لكنه من حديد، وكنزٌ لكنه من تراب، ومعدنٌ لكنه من سراب،
وأي حبٍ يُدَّعى فإنه ناقصٌ إذ العلاقات بين الآدميين بنيت على المصالح في الغالب
وإن تنوعت صور الجمال أو تجمَّلت الصور . وإن لكل فؤادٍ نزعةَ حبٍّ عذريةً تفيضُ
بعذبِ الهوى ونميره، ولو اطَّلع الناس على قلوب القساة لوجدوا فيها أنهاراً متدفقة
من الحب والرحمة، ولكنها تصب في أرض قيعان .
وإني أحمل راية بيضاء لبيض القلوب أن تتوجه بالحب إلى أصدق الحب وأبقاه،
وأبقى البر وأوفاه إلى ....
أشواقنا نحو الحجاز تطلّعت كحنين مغترب إلى الأوطانِ
إن الطيور وإن قصصتَ جناحها تسمو بهمَّتها إلى الطيرانِ
لن أقول : « كانت الحياة قبل البعثة ظلاماً »؛ إذ لا يجهل ذلك أحد،
ولن أقول : « كان الظلم، ولم يكن غيره »؛ إذ لا أحد يشكُّ في ذلك، ولن أقول : «
كان الحق للقوة »، و « كانت الحياة للرجل لا للمرأة »؛ إذ الناس أجمعوا على ذلك، ولكني
أقول : مع البعثة وُلدت الحياة، وارتوى الناس بعد الظمأ : لمّا أطلَّ محمدٌ زكت الرُّبى واخضرَّ في البستان كل هشيم وكان من المبشرات بميلاد الحياة
ما صادف المولد النبوي من إهلاك أصحاب الفيل؛ فإنه بشرى بإهلاك الطاغوت
والطغاة، وولادةٌ لفجر العدالة والحياة، كما أن في
إهلاكهم اجتماعاً لكلمة قريش وتوحدها، ولذا أنزل الله تعالى بعد سورة الفيل سورة
قريش، بياناً لسبب من أسباب إهلاك أصحاب الفيل وهو أنه لتأتلف قريش، ومن بعد ذلك
كلِّه ذكَّر قريشاً بنعمتين عظيمتين أُولاهما : أن أطعمهم من جوع، وتمثَّل ذلك في
رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وثانيهما : أن آمنهم من خوف، وهنا كلمة « خوف » جاءت
نكرة دالة على العموم، فيدخل في ذلك كلُّ خوفٍ ألمَّ بهم فأمنوا منه، كما في قصة
أصحاب الفيل و أبرهة الأشرم، أو خوفٍ يحدث لهم بعد ذلك ظاهراً كبعثة محمد - صلى
الله عليه وسلم -، وإنما هو رحمةٌ وأمنٌ وأمان لهم ظاهراً وباطناً، حينما يظهره
الله تعالى كما أهلك الله أصحاب الفيل لكي تتعلق القلوب بربِّ البيت الذي أهلك
البغاة، وكيف يكون شكرهم له .
وقاية الله أغنت عن مضاعفةٍ من الدروع وعن عال من الأُطم
ومما كان ممهِّداً ومقدِّماً لدعوة الإيمان التي حملها محمد - صلى
الله عليه وسلم - ما روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت
: « كان يوم بُعاث يوماً قدمه الله لرسوله- صلى الله عليه وسلم - فَقَدِم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وقد افترق مَلَؤُهم، وقُتلت سرواتهم، وجُرِّحوا،
فقدَّمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في دخولهم الإسلام »[1] .
ثم ولي ذلك اجتماع النفوس على نصر المظلوم، وردِّ الفضول على أهلها، وبه
سمي الحلف، وفيه انتصار للعدالة، وإنْ كان ذلك على نطاق ضيق لكن : « لا شك أن
العدل قيمةٌ مطلقةٌ وليست نسبيةً، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- يظهر اعتزازه
بالمشاركة في تعزيز مبدأ العدل قبل بعثته بعقدين؛ فالقيم الإيجابية تستحق الإشادة
بها حتى لو صدرت من أهل الجاهلية »[2] .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك الحلف : « شهدت حلف المطيبين
مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه »[3]، وسمَّاه :
المطيبين؛ لأن العشائر التي عقدت حلف المطيبين هي التي عقدت حلف الفضول، وإنما كان
حلف المطيبين قبل ميلاد محمد- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاة جده قصي[4] .
هذا على العموم وفي الظاهر . أما ما كان ممهداً له - صلى الله عليه
وسلم - في ذاته فإن الخلوة والتعبد من أهم سمات العظماء[5]، فإنه بعد ذلك
ممتلئٌ بما فرّغ نفسه له؛ فقد قالت عائشة رضي الله عنها : « كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يتحنث في غار حراء الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله،
ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجئه الحق وهو في غار حراء »[6] .
ومما كان مطمئناً له- صلى الله عليه وسلم- قبل نزول الوحي الرؤيا
الصادقة؛ فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فلق الصبح[7] .
ومع بشريته- صلى الله عليه وسلم- وإعلانه بإعلان القرآن لذلك، إلا
أنه ذكر من المعجزات والآيات ما كان آية على علو منزلته، ورفيع قدره؛ فقد حدَّث- صلى
الله عليه وسلم- : أن حجراً كان يُسلم عليه قبل النبوة[8] . فلله ما أعظم هذا القائد، وما أصدقه؛ فما عرفت مكة أميناً كأمانته
- صلى الله عليه وسلم -، فلما أظهره الله بالحق الذي معه لم يكن عندهم ظاهراً كذلك
:
لقبتموه أمين القوم في صغر وما الأمين على قولٍ بمتَّهم
ولعلي أقف عند هذا الحد وأدخل فيما أردت من موضوع الحب لرسول - صلى
الله عليه وسلم -؛ فإن الحب أسمى العلاقات، ولعله أرقها، وإنما يبعث على كتابة مثل
هذا الموضوع قول الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- : « أنت مع من أحببت »[9]، وأي سعادة
تقارب تلك السعادة في الحب ؟ وأي نجاح في النهاية يوازي ذلك الحب ؟ يقول شيخ
الإسلام ابن تيمية : « وإنما ينفع العبدَ الحبُّ لله لما يحبه الله من خلقه
كالأنبياء والصالحين؛ لكون حبهم يقرب إلى الله ومحبته، وهؤلاء هم الذين يستحقون
محبة الله لهم »[10] .
وإذا تعلق قلب العبد بالله أحب كل ما يقرب إلى الله ويزيده، ويبقى
أنه أشد حباً لله، فلا حب يوازي ذلك الحب، وإنما يحب بحب الله وله . قال شيخ
الإسلام ابن تيمية : « فإنك إذا أحببت الشخص لله كان الله هو المحبوب لذاته، فكلما
تصورته في قلبك تصورت محبوب الحق فأحببته، فازداد حبك لله، كما إذا ذكرت النبي-
صلى الله عليه وسلم- والأنبياء قبله، والمرسلين وأصحابهم الصالحين، وتصورتهم في
قلبك، فإن ذلك يجذب قلبك إلى محبة الله المنعم عليهم، وبهم إذا كنت تحبهم لله؛
فالمحبوب لله يجذب إلى محبة الله، والمحب لله إذا أحب شخصاً لله فإن الله هو
محبوبه؛ فهو يحب أن يجذبه إلى الله تعالى، وكل من المحب لله والمحبوب لله يجذب إلى
الله »[11] .
وإن مما دعاني إلى كتابة هذه الأحرف ما أراه من تخلي القريب الأدنى
عن سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وسنته، وتحليهم بما يؤسف له من رموز الفكر
والأدب في جميع أحاديثهم، وإن هذا نكس ونقص في الفطرة والتعليم، وإلا فقد قال
تعالى : { أَتَسْتَبْدِلُونَ
الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ } ( البقرة : 61 ) .
وما أراه من هجوم البعيد على سنة الكريم - صلى الله عليه وسلم -
وسيرته، مما تبثه وسائل الإعلام المختلفة، تصريحاً وتلميحاً، ظاهراً وباطناً،
والله المستعان .
« وإنه لنافع للمسلم أن يقدرمحمداً بالشواهد والبينات التي يراها غير
المسلم، فلا يسعه إلا أن يقدرها ويجري على مجراه فيها؛ لأن مسلماً يقدر محمداً على
هذا النحو يحب محمداً مرتين : مرة بحكم دينه الذي لا يشاركه فيه غيره، ومرة بحكم الشمائل
الإنسانية التي يشترك فيها جميع الناس »[12] .
وحسبي إن أنا خضت في هذا الموضوع أن أنال محبة القوم، وحسبي من القلادة
ما أحاط بالعنق، ومن السوار ما أحاط بالمعصم :
أسيرُ خلف ركاب النُجْبِ ذا عرج مؤملاً كشف ما لاقيت من عوج
فإن لحقتُ بهم من بعد ما سبقوا فكم لربِّ الورى في ذاك من فرج
وإن بقيت بظهر الأرض منقطعاً فما على عرج في ذاك من حرج
واسمح لي أن انتقل وإياك إلى جيل تعيش معهم الأمن والسكينة بعد أن
ذقت من الدنيا خوفاً وهلعاً، ودعني أستل من قلبك خيطاً أبيض نلتمس به الصلة بيننا وبينهم،
وأعرني دمعة تخفف بها الهوة بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره
. قال صاحب الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : « ذكر عن مالك أنه
سئل عن أيوب السختياني ؟ فقال : « ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أوثق منه »[13] . وقال عنه مالك : « وحجّ حجتين، فكنت أرمقه، ولا أسمع منه، غير أنه
كان إذا ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت،
وإجلاله للنبي - صلى الله عليه وسلم – كتبت عنه »[14] .
وقال مصعب بن عبد الله : « كان مالك إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم
- يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك، فقال : لو
رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون »، وذكر مالك عن محمد ابن المنكدر وكان
سيد القراء : « لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه »[15]، ولقد كنت أرى
جعفر بن محمد وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي -صلى الله عليه وسلم-
اصفرَّ لونه، وما رأيته يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا على طهارة،
ولقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال : إما مصلياً، وإما
صامتاً، وإما يقرأ القرآن، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العلماء والعباد
الذين يخشون الله . وكان الحسن رحمه الله إذا ذكر حديث حنين الجذع وبكائه[16] يقول : « يا
معشر المسلمين ! الخشبة تحن إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شوقاً إلى لقائه؛
فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه »[17] .
وكان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي-صلى الله عليه وسلم- فينظر إلى
لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه هيبة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم
-، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير فإذا ذكر عنده النبي - صلى الله عليه
وسلم - بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع :
نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرارُ
ولقد رأيت الزهري وكان لَمِنْ أهنأ الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده
النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه ما عرفك ولا عرفته .
ولقد كنت آتي صفوان بن سليم، وكان من المتعبدين المجتهدين فإذا ذكر
النبي صلى الله عليه وسلم بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه )[18] .
وقال عمرو بن ميمون : « اختلفت إلى ابن مسعود سنة فما سمعته يقول :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه حدّث يوماً فجرى على لسانه : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ثم علاه كربٌ، حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال : هكذا
إن شاء الله، أو فوق ذا، أو ما دون ذا، ثم انتفخت أوداجه، وتربَّد وجهه وتغرغرت
عيناه »[19] .
وبلغ معاوية أن كابس بن ربيعة يشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما دخل عليه من باب الدار قام عن سريره وتلقّاه وقبّل بين عينيه، وأقطعه
المِرغاب، لشبهه صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم[20] .
وإني سائل بعد تلك الصور المتحدثة : أين نحن من سيرتهم ؟ وأين حالنا
من حالهم ؟ وما أثر الحب عندنا ؟ وما أثره عندهم ؟ بل وما صدق ما ندَّعي ؟ وما صدق
ما لم يدَّعوه ؟ وأين حقيقة ما ندَّعي ؟ وما دلائل المحبة عندهم ؟ لقد قام في
قلوبهم ما قصرت هممنا عن أن تقوم بأقله، وأحيوا في شعورهم ما ماتت مشاعرنا دونه،
وتعلقت أبصارهم فيما وراء الطرف، في حين لم تتجاوز أبصارنا أطرافنا، ألا رجل لم
تقعد به همته ولم يتأخر به عمله ؟ ! ألا صادق يترجم المحبة قولاً وعملاً وغيرة ؟ !
ألا فارس لا يرجع إلا بإحدى الحسنيين ؟ !
أيها المُحبُّون : لقد تباعد بنا الزمن، واستنسرت الفتن، واشتغل الأكثرون بالحطام من
المهن، غاب عنا الحب وإن ادعيناه، ونسينا الواجبات فكانت من أحاديث الذكريات،
نتحدث عن السنة النبوية والهدي النبوي لكن لا ترى جاداً في الاتباع، ولا صادقاً في
الكلام إلا قليلاً :
وكل يدْعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
ولمزيد من التوضيح فلنعرض أنفسنا على السنة المطهرة، على صاحبها أفضل
الصلاة وأزكى التسليم، ولنعرض بعض المظاهر التي أحسبُ أنها كافية في إيضاح الجفاء
الذي اتصف به بعضنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته، لعل الله أن يزيد
المهتدي هدى، وأن يبدل الجافي إلفاً، والبعيد قرباً، والغالي قصداً .
ويأتي في أول تلك المظاهر البعد عن السنة باطناً؛ وذلك بتحول
العبادات إلى عادات ونسيان احتساب الأجر من الله، أو ترك متابعة الرسول - صلى الله
عليه وسلم - وتعظيمه، والمحبة القلبية الخالصة له، ونسيان السنن وعدم تعلمها، أو البحث
عنها، وعدم توقير السنة، والاستخفاف بها باطناً .
ومن ذلك أيضاً البعد عن السنة ظاهراً؛ وذلك بترك العمل بالسنن
الظاهرة الواجب منها والمندوب، وعلى سبيل المثال سنن الاعتقاد ومجانبة البدعة
وأهلها بل وهجرهم، أو السنن المؤكدة مثل : سنن الأكل، واللباس، أو الرواتب، أو
الوتر، أو ركعتي الضحى، وسنن المناسك في الحج والعمرة، والسنن المتعلقة بالصوم في الزمان
والمكان . فصارت السنة عند بعض الناس كالفضلة والله المستعان .
ولعمر الله لا يستقيم قلب العبد حقيقة حتى يعظم السنة ويحتاط لها،
ويعمل بها .
هذا وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « فمن رغب عن سنتي
فليس مني » كما في الصحيحين[21]، وكان كلامه هذا - صلى الله عليه وسلم - في أمر الزواج وأكل اللحم
ونحوهما .
وقد قال أُبَيُّ بن كعب رضي الله عنه : « عليكم بالسبيل والسنة؛ فإنه
ما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله فاقشعر جلده من مخافة الله، إلا تحاتَّت عنه
خطاياه، كما يتحاتُّ الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر
الله خالياً ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبداً، وإنَّ اقتصاداً في
سبيلٍ وسنة خير من اجتهاد فيما [هو] خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصاداً
واجتهاداً على منهاج الأنبياء وسنتهم »[22] .
ومما يلاحظ من الجفاء رد بعض الأحاديث الصحيحة الثابتة بأدنى حجة من الحجج،
كمخالفة العقل أو عدم تمشيها مع الواقع، أو عدم إمكان العمل بها، أو المكابرة في
قبول الأحاديث، وتأويل النصوص وحرفها لأجل ذلك، أو رد الأحاديث الصحيحة باعتبار
أنها آحاد وأغلب أحكام الشريعة إنما جاءت من طريق الآحاد أو دعوى العمل بالقرآن
وحده، وترك ما سوى ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : « لا ألفين أحدكم متكئاً
على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول : لا ندري؛ ما
وجدنا في كتاب الله اتبعناه »[23] .
وإن زعموا ما زعموا من وجوب وحدة المسلمين على القرآن وحده، فإن الله
تعالى أوجب في القرآن الأخذ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل ما أتى به جملة
وتفصيلاً فقال تعالى : {
وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا }
( الحشر : 7 ) . وقد ذكر الله طاعة الرسول - صلى
الله عليه وسلم - في القرآن في ثلاث وثلاثين موضعاً . وقد قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - : « ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه »[24] .
قال الحميدي : « كنا عند الشافعي رحمه الله فأتاه رجل، فسأله في
مسألة ؟ فقال : قضى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، فقال رجل للشافعي
: ما تقول أنت ؟ ! فقال : سبحان الله ! تراني في كنيسة ! تراني في بيعة ! ترى على
وسطي زناراً ؟ ! أقول لك : قضى فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت تقول :
ما تقول أنت ؟ ![25] . وقال مالك : أكلما جاءنا
رجل أجدل من رجل، تركنا ما نزل به جبريل على محمد - صلى الله عليه وسلم - لجدله ؟
! »[26] .
ويقول رحمه الله : « سنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وولاة
الأمر بعده سنناً الأخذُ بها تصديقٌ لكتاب الله عز وجل واستكمالٌ لطاعة الله، وقوة
على دين الله، من عمل بها مهتد، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها اتبع غير سبيل
المؤمنين، وولاه الله ما تولى »[27] .
قال ابن القيم رحمه الله : « ومن الأدب معه ألا يُستشكَل قوله، بل
تُستشكَل الآراء لقوله، ولا يُعارَض نصه بقياس، بل تُهدَر الأقيسة وتلقى لنصوصه،
ولا يُحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول، وعن الصواب
معزول، ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد . فكان هذا من قلة الأدب معه - صلى
الله عليه وسلم -، بل هو عين الجرأة »[28] .
دعوا كل قولٍ عند قول محمدٍ فما آمِنٌ في دينه كمخاطر
وفي عصر الإعلام يتجلى الجفاء في العدول عن سيرته - صلى الله عليه وسلم
- وسنته وواقعه وأعماله إلى رموز آخرين من عظماء الشرق والغرب كما يسمون سواء
كانوا في القيادة والسياسة، أو في الفكر والفلسفة، أو في الأدب والأخلاق؛ والأدهى
من ذلك مقارنة أقوال هؤلاء ومقاربتها لأقوال النبي – صلى الله عليه وسلم - وأحواله،
وعرضها للعموم والعامة؛ وتلك مصيبة تهوِّن على العوام التجني على سيرة المصطفى -
صلى الله عليه وسلم - وسنته، وتثير الشكوك في أقواله وأعماله التشريعية - صلى الله
عليه وسلم - والتي هي محض وحي : {
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } ( النجم : 4 ) .
لكن بعض الأذهان لا تتعلق إلا بالواقع المشاهد، واللحظة المعاصرة، فينبهرون بأولئك،
وينسون العظمة التي عاشها النبي - صلى الله عليه وسلم - للأحياء وللأموات، للحاضر
وللمستقبل، بل للحياة وللموت .
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعبٌ من الأجداث أحياهُ
وقد سمى الله الكفر قبل الإيمان موتاً، والإيمان حياة، قال تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } ( الأنعام : 122 ) .
أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من العدم
وأعماله - صلى الله عليه وسلم - ما زالت وستظل قائمة بأعيانها متحدثة
بعنوانها عن عظيم وعظمة وحياة، ولا تحتاج إلى دليل وبيان :
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
ويلحق في ذلك تقديم أقوالهم على أقواله - صلى الله عليه وسلم -،
وأحوالهم على أحواله، وأعمالهم على أعماله، ويا للأسف ! من يقوم بمثل تلك الأعمال
؟ إنهم رجال العفن وفئة من أهل الصحافة وبعض ساسة الإعلام والتعليم ممن تسوّدوا بغير
سيادة، وقادوا بغير قيادة ! !
وفي مجالسنا ومنتدياتنا يلاحظ المتأمل منا جفاءاً روحانياً يتضح في
نزع هيبة الكلام حين الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأنها حديث عابر، أو
سيرة شاعر، أو قصة سائر، فلا أدب في الكلام، ولا توقير للحديث، ولا استشعار لهيبة
الجلال النبوي، ولا ذوق للأدب النوراني القدسي، فلا مبالاة، ولا اهتمام، ولا توقير،
ولا احترام، وقد قال تعالى : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ
تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ
بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ( الحجرات : 2 ) .
هذا أيها الناس هو الأدب الرباني؛ فأين الأدب الإنساني قبل الأدب
الإسلامي ؟ كما نهى الله قوماً كانوا ينادونه باسمه : ( يا محمد ) كما ذكره كثير
من المفسرين، فيسلب المنادي الشرف الذي تميز به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو
النبوة والرسالة، وهذا ليس على إطلاقه لكنه أدب فتأمله .
« كان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث رسول الله - صلى الله عليه
وسلم- أمر الحاضرين بالسكوت، فلا يتحدث أحد، ولا يُبرى قلم، ولا يبتسم أحد، ولا يقوم
أحد قائماً، كأن على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة؛ فإذا رأى أحداً منهم تبسم أو
تحدث لبس نعله وخرج »[29] . ولعله بذلك يتأول الآيات
الثلاث في أول سورة الحجرات؛ كما تأولها حماد بن زيد بهذا المعنى[30] .
« وكان مالك رحمه الله أشد تعظيماً لحديث رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فكان إذا جلس للفقه جلس كيف كان، وإذا أراد الجلوس للحديث اغتسل وتطيب ولبس
ثياباً جدداً وتعمّم وقعد على منصته بخشوع وخضوع ووقار، ويبخر المجلس من أوله إلى
فراغه تعظيماً للحديث »[31] .
ولذا حرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على تعليم الناس تعظيم
النبي - صلى الله عليه وسلم - ميتاً كتعظيمه حياً، وذلك من تمام وفائه للنبي - صلى
الله عليه وسلم - . روى البخاري رحمه الله عن السائب بن يزيد قال : « كنت نائماً في
المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال : اذهب فائتني بهذين فجئته بهما،
قال : من أنتما ؟ أو : من أين أنتما ؟ قالا : من أهل الطائف، قال : لو كنتما من
أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - !
! »[32] .
ويلحق بالجفاء، جفاء القلوب والأعمال، تجاه من خدموا السنة، ويتمثل
ذلك في هجر أهل السنة والأثر العاملين بها، أو اغتيابهم ولمزهم والاستهزاء بهم واستنقاص
أقدارهم، وانتقادهم وعيبهم على التزامهم بالسنن ظاهراً وباطناً .
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وتصور حالة الغربة والغرباء تجد قلتهم في هذا الزمن وغيره، وقد سبقنا
إلى تصويرها ابن القيم حين قال :
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تَحَكَّم
ولكننا سبي العدو؛ فهل تُرى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وبه وصف أهل السنة والأثر يقول / : « لا تزال طائفة من أمتي على الحق
ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك »[33] .
وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاةٌ ظاهر عنك عارها
وهذا أحد السلف وهو الجنيد بن محمد يقول : « الطرق إلى الله تعالى
كلها مسدودة على الخلق، إلا من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم – واتبع سنته
ولزم طريقته؛ فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه . كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ
اللَّهَ كَثِيراً }
( الأحزاب : 21 )[34] .
أما من لم يدرك السنة والعمل بها فلا همّ له إلا الكلام والملام .
أقلِّوا عليهم لا أبا لأبيكم من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
وفي الحقيقة أن من تكلم فيهم فلا يضر إلا نفسه :
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها فلم يضرها، وأوهى قرنه الوعل
ولعل هذا أيضاً مما ينشر السنن بين الناس :
وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت؛ أتاح لها لسان حسود
(1) البخاري، ح/ 3777 .
(2) السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري، (1/112) .
(3) أخرجه أحمد برقم 1655، وصححه أحمد شاكر، كما أخرجه البخاري في
الأدب المفرد، وصححه الألباني فيه برقم 441 / 567، وفي السلسلة الصحيحة برقم 1900
.
(4) السيرة النبوية الصحيحة، أكرم ضياء العمري، (1/112)، وانظر
تعليق أحمد شاكر على الحديث كما في المسند (3/120) مكتبة ابن تيمية .
(5) فائدة : قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (10/426)
: « ولا بد للعبد من أوقات ينفرد فيها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة
نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره، فهذا يحتاج
فيها إلى انفراده بنفسه، إما في بيته، كما قال طاووس : (نعم صومعة الرجل بيته، يكف
فيها بصره ولسانه)، وإما في غير بيته » .
(6) البخاري، ح/ 3، ومسلم، ح/ 160 .
(7) البخاري، ح/ 3، ومسلم، ح/ 160 .
(8) مسلم، ح/ 2277 .
(9) البخاري، ح/ 6167، مسلم، ح/ 2639 .
(10) الفتاوى (10/610) .
(11) الفتاوى (10/608) .
(12) مجموعة العبقريات، لعباس العقاد، ص : 10 .
(13) سير أعلام النبلاء، (6/24) .
(14) المصدر السابق، (6/17) .
(15) حلية الأولياء، (3/147)، وسير أعلام النبلاء، (5/354- 355) .
(16) البخاري، ح/3584 .
(17) سير أعلام النبلاء، (4/570)، وجامع بيان العلم وفضله، لابن
عبد البر، ص 572، مكتبة ابن تيمية .
(18) الشفا بتعريف حقوق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، للقاضي
عياض 598 بتصرف وإحالة .
(19) المصدر السابق، (2/599) .
(20) المصدر السابق، (2/610) .
(21) البخاري، ح/ 5063، ومسلم، ح/ 1401 .
(22) أبو نعيم في الحلية 1/253، و ابن الجوزي في تلبيس إبليس، ص :
16 .
(23) الترمذي، ح/ 2800، و أبو داود، ح/ 4605، وصححه الألباني في
صحيح أبي داود، ح/3849 .
(24) أبو داود، ح/ 4604، صححه الألباني في صحيح أبي داود، ح/3848 .
(25) سير أعلام النبلاء، (10/34)، وحلية الأولياء، (9/106) .
(26) سير أعلام النبلاء، (8/99)، وشرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي،
ص 5 .
(27) شرف أصحاب الحديث، للخطيب البغدادي، ص 7 .
(28) مدارج السالكين : (2/406) .
(29) سير أعلام النبلاء، (9/201) .
(30) سير أعلام النبلاء، (7/460) .
(31) تذكرة الحفاظ للذهبي، (1/196)، والشفاء لعياض، (2/601) .
(32) البخاري، ح/470 .
(33) البخاري، ح/3641، ومسلم، ح/ 1037 .
(34) أبو نعيم في الحلية، (10/257)، وابن الجوزي في تلبيس إبليس، ص
19 .
(( مجلة البيان ـ العدد [157] صــ 6 رمضان 1421 - ديسمبر 2000 ))