كيف تمثل الانتخابات الرئاسية التركية القادمة لحظة حاسمة في التاريخ التركي؟ ما هي أوجه الشبه بين تلك اللحظة في التغيير ولحظة مصطفى كمال أتاتورك حيث خرج بتركيا الجديدة وقتها؟ ما هي معالم تركيا الجديدة بعد تلك الانتخابات؟
خلال العقد الماضي، أُدخل مصطلح "تركيا الجديدة" إلى الخطاب السياسي التركي من أجل
التمييز بين المراحل المتعاقبة لحكم رجب طيب أردوغان وبين حقب أسلافه. وبالنظر إلى
التغييرات الجذرية التي ينطوي عليها هذا المفهوم فيما يتعلق بالتنظيم السياسي
للدولة - بما في ذلك الانتقال من ديمقراطية برلمانية إلى ديمقراطية رئاسية - فمما
لا شك فيه أن "تركيا الجديدة" سيكون لها تأثير هائل في المؤسسات السياسية التركية.
إضافة إلى ذلك، يبدو أنه ستتسم كل هذه التغييرات الجذرية بالشرعية قريباً في دستور
جديد من المرجّح أن يدخل حيّز التنفيذ بعد الانتخابات التركية المقبلة في عام 2023.
لذلك، من أجل فهم أفضل لأسس الأفكار والمبادئ بالنسبة لهذا النظام الجديد، يجب فحص
الصورة الذاتية لحزب العدالة والتنمية، المتجذر في أول جمعية وطنية كبرى عام 1920.
|
مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، فإن تطبيق العلمانية مر بتغيير
جذري شامل. فبدلاً من العلمانية الصارمة، جرى تبنّي النموذج الأمريكي
للعلمانية المعتدلة. فالدِين، الذي كان في السابق مقتصراً على المجال
الخاص، امتد إلى المجال العام |
في ذلك الوقت، الجماعتان المتعارضتان أيديولوجياً، واللتان هيمنتا على الجمعية،
عرفتا باسم المجموعة "الأولى" و"الثانية". ساهمت المجموعة الأولى في الأساس
الأيديولوجي عندما أنشأ مصطفى كمال أتاتورك حزب الشعب الجمهوري (CHP)،
وهو الذي أسس أيضاً الجمهورية التركية عام 1923. عارضت "رؤية" المجموعة الثانية،
"فلسفة" تأسيس الجمهورية التركية عام 1923. هذه النظرة المختلفة للعالم -العائدة
إلى المجموعة الثانية- جرى إحياؤها بفضل النجاح السياسي لحزب العدالة والتنمية
بزعامة أردوغان. وعندما أصبح أردوغان رئيساً للوزراء في عام 2003، بدأ الورثة
الأيديولوجيون للمجموعة الثانية في الهيمنة على الدولة. من خلال حزب العدالة
والتنمية وزعيمه الكاريزمي، رُسمت الخطوط الحمراء لتركيا الجديدة. ومع ذلك، فإن
الخطوط القديمة للنظام القديم لم تتلاشَ. لذلك، يجب فحص الفرق بين المرحلتين.
مفهوم العلمانية
الخط الأحمر الأول، هو ما يسمى بمبدأ العلمانية، كما حددها حزب الشعب الجمهوري،
ويرجع أصله الأيديولوجي إلى النموذج الفرنسي للعلمانية (laïcité).
النسخة التركية من العلمانية تنعكس في العبارة التالية: "في حياتك الخاصة ستمارس
الإسلام بحرية كما يحلو لك. ولكن في المجال العام، ستتصرف وفقاً لمبادئ الدولة".
وربما يكون أهم مؤشر على هذه النظرة إلى العالم، هو تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف
في عام 1934، ما رمز إلى قوة حكومة أتاتورك، كما رمز أيضًا إلى تطبيق العلمانية في
الحياة العامة. على النقيض من ذلك، فإن تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد مرة أخرى، في
24 تموز/يوليو 2020، رمز إلى عودة الإسلام إلى المجال العام.
مع صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، فإن تطبيق العلمانية مر بتغيير جذري
شامل. فبدلاً من العلمانية الصارمة، جرى تبنّي النموذج الأمريكي للعلمانية
المعتدلة. فالدِين، الذي كان في السابق مقتصراً على المجال الخاص، امتد إلى المجال
العام،
وتفاعل مع نوع من نظام القيم الليبرالية الرأسمالية. عمل حزب العدالة والتنمية على
إعادة الإسلام عجلةَ تقدّمٍ، أعيد تصميمها لتلائم إطار العمل المماثل لـ "أخلاقيات
العمل البروتستانتية" [التي بحثها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر
Max Weber]
تبنت الحركة الإسلامية جوهر الرأسمالية متضمنة قيمة عملية خلق أو زيادة الأصول أو
رأس المال الخاص، وبدأت في نشرها وسط المجتمع. عمل حزب العدالة والتنمية على دمج
الهيكل الاجتماعي الاقتصادي التركي في النظام الرأسمالي، ولو تحت ستار الإسلام.
وكما لاحظت [الباحثة التركية في مجال الاقتصاد الإسلامي] شينور أوزدمير
Şennur
Özdemir،
فإن هذا المسار أسهم في توسيع الرأسمالية وترسيخها في تركيا.
تحول النظام السياسي
تبِعتِ العلمانية، ارتباط الخط الأحمر الثاني للنظام القديم ببنية النظام السياسي،
وقد لحقت به أيضًا تغيرات هائلة وملحوظة.. على سبيل المثال، في 21 تشرين
الأول/أكتوبر 2007، سُمح للشعب التركي بانتخاب رئيسه مباشرة بعد تنظيم استفتاء. وفي
16 نيسان/أبريل 2017، بدّل استفتاء آخر، النظام السياسي من ديمقراطي برلماني إلى
نمط تركي من النظام الرئاسي حيث تتعزز السلطات التنفيذية للرئيس على حساب البرلمان
دون أيّ ضوابط أو توازنات جادة. لكن على الرغم من هذه التغييرات الملموسة، أزعم أن
النظام المعمول به الآن ليس نظاماً رئاسياً كاملًا، بل يمكن تسميته بالأحرى بأنه
"نظام نصف برلماني - رئاسي". علاوة على ذلك، يمكننا أن نرى الاتجاه الزاحف نحو
النموذج الأمريكي الذي يفضّل وجود حزبين كبيرين على حساب أحزاب سياسية صغيرة أخرى.
|
عند فحص خمسة من أحزاب المعارضة -من أصل ستة يتألف منها تحالف الأمة-
نستطيع رؤية ذلك؛ فعلى الرغم من انتقاداتهم للسياسة الاقتصادية لأردوغان،
لا يمكنهم تحدي الفلسفة التأسيسية لحزب العدالة والتنمية. بل على العكس من
ذلك، نراهم يدعمون أعماله. |
التحالف السياسي الذي يقوده أردوغان بدأ يطلق على نفسه اسم تحالف الشعب
Cumhur،
في حين أن الحزب الذي يقوده حزب الشعب الجمهوري من بين أحزاب المعارضة الأخرى بدأ
يطلق على نفسه اسم تحالف الأمة
Millet.
السمة الرئيسية لنظام الحزبين المتنامي، هي أن نظرة كلا الطرفين ستكون مستندة على
الفلسفة التأسيسية لحزب العدالة والتنمية لأردوغان - والتي أصبحت تدريجياً "الوضع
الطبيعي الجديد" في تركيا أردوغان الجديدة. بمعنى آخر، على الرغم من وجود كتلة
المعارضة، حوّلت الظروف الجديدة تحالف حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية
AKP-MHP
إلى "حزب دولة"، إذ تضع هذه الكتلة أيديولوجية الدولة على غرار
ما كان عليه حزب الشعب الجمهوري
CHP
في عشرينيات القرن الماضي.
حزب الدولة واستمرارية الدولة
في العشرينات والثلاثينيات من القرن الماضي، كان حزب الشعب الجمهوري حزب الدولة.
وكان الحزب هو الذي رسم الخطوط الحمراء للجمهورية التركية عام 1923. وبعد رسم
الخطوط الحمراء الجديدة للجمهورية من خلال التعديلات والاستفتاءات الدستورية، تولى
حزب العدالة والتنمية زمام هذا الموقع، من حزب الشعب الجمهوري كحزب دولة.
اليوم، يعتبر أي انتقاد للحكومة خيانة للدولة من قبل دوائر التحالف الحاكم. ولا
يعني تشكيل الخطوط الحمراء الجديدة إنشاء دولة جديدة مكان الدولة السابقة. على
العكس من ذلك، فإن الدولة نفسها التي تأسست مع إنشاء الجمهورية التركية في عام
1923، ستكون أساس تركيا الجديدة في عام 2023.
بتعبير آخر، إن الأساليب التي استخدمتها الدولة لتأسيس "تركيا الجديدة" الأصلية عام
1923، ستستخدم لتشكيل "تركيا الجديدة" في عام 2023 أيضاً. فيما يلي بعض الأمثلة
الملموسة:
كلاهما أتاتورك وأردوغان -بصفتهما القائدين المؤسسين لتركيا الجديدة- يمكن
اعتبارهما زعيمان شعبويان مفضلان للحكومة الجمهورية. أسس أتاتورك حزب الشعب
الجمهوري، ويقود أردوغان حاليًا تحالف الشعب، الذي يمكن وصفه في الدراسات السياسية
التركية بأنه جمهوري أيضاً. تبنى حزب الشعب الجمهوري في برنامجه عام 1931 ست
اتجاهات هي: الجمهورية، والشعبوية، والقومية، والعلمانية، والدولتية، والثورة. ومع
إضافة النظام الجمهوري إلى الدستور في عام 1937، أصبح من أسس الدولة.
عندما انتقلت تركيا من حكم الحزب الواحد إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب خلال حقبة
1946- 1960، كان حزب المعارضة الديمقراطي (Demokrat)
بقيادة عدنان مندريس. لا ينبغي أن يُنظر إلى هذا الحزب على أنه كان ضد الفلسفة
التأسيسية للجمهورية التركية لعام 1923؛ لأن مندريس كان في الأصل عضوًا في حزب
الشعب الجمهوري. بعبارة أخرى؛ المعارضة الرئيسة آنذاك انبثقت من فلسفة تأسيس حزب
الشعب الجمهوري. وهناك فرصة جيدة أن يحدث الأمر نفسه لحزب العدالة والتنمية.
عند فحص خمسة من أحزاب المعارضة -من أصل ستة يتألف منها تحالف الأمة- نستطيع رؤية
ذلك؛ فعلى الرغم من انتقاداتهم للسياسة الاقتصادية لأردوغان، لا يمكنهم تحدي
الفلسفة التأسيسية لحزب العدالة والتنمية. بل على العكس من ذلك، نراهم يدعمون
أعماله.
الظاهرة نفسها أيضاً يمكن رؤيتها فيما يتعلق بحزب الشعب الجمهوري اليوم. على سبيل
المثال، دعا زعيم الحزب كمال كليجدار أوغلو مؤخراً إلى حرية الحجاب باسم الحرية
الدينية. أخذ الرئيس أردوغان اقتراح حزب الشعب الجمهوري خطوة إلى الأمام، واستجاب
من خلال الدعوة إلى إصلاح أكثر شمولاً بإجراء تغييرات دستورية عبر استفتاء شعبي.
يمكن النظر إلى اقتراح كليجدار أوغلو على أنه مؤشر واضح على تبني حزبه للفلسفة
التأسيسية لحزب العدالة والتنمية.
وقّع أحزاب المعارضة الستة (حزب الشعب الجمهوري، حزب الجيد
İyi
Parti،
وحزب الديمقراطية والتقدم، وحزب المستقبل، وحزب السعادة، والحزب الديمقراطي) على
خارطة طريق تدعو لنظام برلماني معزز، كبديل لنظام الحكم الذي يمنح الرئيس المزيد من
الصلاحيات. الجانب الثاني المهم لخارطة الطريق تركيزها على مبدأ الحرية الدينية في
المجالات الاجتماعية والسياسية والعامة. بعبارة أخرى؛ من المرجح أن يستخدم الحجاب
لإثبات هيمنة العلمانية المعتدلة بدلاً من العلمانية الصارمة.
لقراءة الملف الأصلي:
https://dayan.org/content/2023-elections-legitimization-new-turkiye