تشن تركيا منذ أيام غارات جوية مستمرة على شمال سوريا، وهناك تلميحات بإطلاق عملية برية قريبًا في مناطق السيطرة الكردية، وبينما تتعالى الانتقادات كرديًا وغربيًا، يظل نظام الأسد صامتًا
لطالما كانت تركيا ترى أن
وحدات حماية الشعب الكردية التي ترتكز عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحزب
الاتحاد الديمقراطي بمثابة أجنحة مسلحة في الداخل السوري لحزب العمال الكردستاني
الذي يسعى إلى الاستقلال الكردي أو على الأقل الحكم الذاتي بعيدًا عن أنقرة، وهو ما
دفعها إلى تصنيفها كتنظيمات إرهابية، حملت السنوات الماضية قصفًا تركيًا متكررًا
لمساحات واسعة في شمال سوريا التي تسيطر عليها تلك الوحدات الكردية، كان الرد
الكردي في معظم الأحيان من خلال تنفيذ عمليات تفجيرية في الداخل التركي أو عبر قصف
لبعض المواقع العسكرية والحدودية، إلى أن جاء الثالث عشر من الشهر الماضي والذي شهد
انفجارًا كبيرًا في شارع الاستقلال بمنطقة تقسيم بمدينة إسطنبول، مما أسفر عن مقتل
6 أشخاص وإصابة العشرات، حمّلت تركيا حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد
الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية المسؤولية عن هذا الهجوم الدامي، وبدأ الرد
التركي سريعًا بعد أيام قليلة حيث شُنَّت غارات جوية وأُطلِقَت قذائف مدفعية على
بلدات ومدن في شمال شرق سوريا، وبعد أربعة أيام من القصف المتواصل حيث تم تسجيل ما
لا يقل عن 100 غارة، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في خطاب ألقاه أمام أعضاء
حزب العدالة والتنمية بالبرلمان أن الضربات الجوية ليست سوى البداية لعملية واسعة
أطلق عليها اسم "عملية السيف المخلب" وأنه يستعد لشن عملية برية في الوقت المناسب.
|
يتخذ النظام السوري موقفه المعتاد من التدخلات الأجنبية على أراضيه، وهو
موقف تقليدي نابع من عدم القدرة على الرد الفعّال، يكتفي النظام كعادته
بترديد التصريحات عن رفض ما يسمّيه بـ "الاحتلال التركي" |
لا تميّز تركيا بين
الميليشيات الكردية في شمال سوريا والعراق وبين حزب العمال الكردستاني، وهو ما
يضعها على خلاف دائم مع الرأي العام العالمي، لا سيما مع الولايات المتحدة ومعظم
الدول الغربية التي تدعم قوات سوريا الديمقراطية لكن أنقرة ـ التي تحارب حزب العمال
الكردستاني منذ عقود ـ كانت تؤكد دائما أنها تهدف من وراء كل عملياتها العسكرية إلى
تأمين حدودها الجنوبية، فالتوغلات العسكرية التركية خارج حدودها بدأت في عام 2016م
عندما دخلت القوات التركية إقليم كردستان شبه المستقل في سوريا، وهي منطقة تُعرَف
كرديًا باسم روج آفا، حينها أعلنت أنقرة أن تلك المنطقة ستكون نوعًا من منطقة عازلة
أو منطقة آمنة تحمي الحدود الجنوبية لتركيا على طول حدودها من الغرب إلى الشرق، وهي
منطقة ستكون اسميًا جزءًا من سيادة سوريا، وسبق وأن أعلن أردوغان عن ذلك بقوله:
"لقد شكلنا جزءًا من هذا الممر، سنستكمله وسنتولى أمره بالكامل بدءًا من أماكن مثل
تل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني)، خاصةً وأن هذه هي مصادر المتاعب بالنسبة لنا"،
بعض المحللين أشاروا إلى أن الهجوم الجوي الجاري حاليًا كان مخططًا له منذ فترة
طويلة، كما أنه تمهيد لهجوم بري واسع النطاق معدّ له سلفًا أيضا، بيد أن اندلاع كل
ذلك كان مؤجلاً في انتظار شرارة البدء التي أشعلها الهجوم الإرهابي في شارع
الاستقلال قبل أيام.
قـلـق كُردي
ونظام ضعيف
مع استمرار التصعيد التركي
على مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، يتصاعد القلق الكردي القلق الأكبر
هو من سيطرة تركيا على مدينة كوباني التي تبعد 10 كيلومترات فقط عن بلدة سوروتش
التركية، يسعى الأكراد إلى حشد الدعم الإقليمي والدولي لمنع تقدم الجيش التركي إلى
مناطقهم، وقد عكس حجم هذه المخاوف الظهور الإعلامي المتكرر لقائد قوات قسد مظلوم
عبدي، الذي واصل دعواته للقوات الدولية وقوات نظام بشار الأسد لحماية الحدود
السورية الشمالية من الهجوم التركي المحتمل، لكن النظام السوري ـ وإن كان معنيّا
أكثر بحماية حدود البلاد ـ لم يفوّت فرصة الاستفادة من دعوة عبدي، فقدّم النظام
عرضًا بالتنسيق مع قائد القوات الروسية في سوريا ألكسندر تشايكو يقضي بانسحاب قوات
(قسد) مسافة 30 كيلومترًا ودخول قوات النظام والقوات الروسية إلى تلك المناطق
وانتشارها فيها، لكن العرض قوبل بالرفض حيث تخشى القوات الكردية أن يتسبب ذلك في
تفككها أو فقدانها لحالة الإدارة الذاتية التي تتمتع بها على تلك الأراضي الآن، لذا
تركز قوات (قسد) إلى إيجاد وساطة دولية غربية أو روسية من أجل الدخول في مفاوضات مع
الأتراك أو على الأقل تخفيف وطأة هجومهم، وفي نفس الوقت أشارت بعض التقارير إلى أن
الأكراد جهزوا أنفسهم لسيناريو المواجهة مع القوات التركية إذا ما فشلت الوساطات،
وهو خيار غير مرغوب به لأنه سيحمل تداعيات خطيرة عليهم وعلى المنطقة.
|
ستستفيد
روسيا مع نظام الأسد من العملية العسكرية التركية لكونها ستقلّص من نفوذ
الأكراد على الشمال السوري وقد تمنحهما فرصة أكبر لبسط نفوذهما لاحقًا في
تلك المناطق |
بالتزامن مع ذلك،
يتخذ النظام السوري موقفه المعتاد من التدخلات الأجنبية على أراضيه، وهو موقف
تقليدي نابع من عدم القدرة على الرد الفعّال، يكتفي النظام كعادته بترديد التصريحات
عن رفض ما يسمّيه بـ "الاحتلال التركي"،
يواصل قادته على مختلف
المستويات شجب التدخل الأجنبي التركي الذي يهدد أمن أراضي سوريا وسلامتها، كما
يؤكدون أيضا احتفاظهم بحق الرد، وهي تصريحات معتادة يتم تكرارها مع كل هجوم
بالطيران الإسرائيلي أو قصف بالصواريخ الأمريكية على الأراضي السورية، إلا أن الأمر
فيما يخص الهجوم التركي على مناطق الأكراد لا يتوقف عندم حدود عدم قدرة نظام بشار
الأسد على الرد العسكري عليه فحسب، بل رغبةً منه في إقامة علاقات سياسية محتملة مع
أنقرة، حيث يسعى النظام السوري إلى ترميم علاقاته مع الجيران والقوى الإقليمية في
ظل وجود تفاهمات دولية حاليًا حول حجم المصالح التي يمكن الاستفادة منها في ظل بقاء
النظام السوري، وحتى الهجوم العسكري التركي ذاته مرهون أيضا بتفاهمات دولية مستمرة
بين كل من أنقرة وواشنطن من جهة، وأنقرة وموسكو من جهة أخرى.
مخاوف غربية
ورهان روسي
المخاوف الغربية من الهجوم
التركي تتصاعد أيضًا، تأتي المخاوف الأمريكية في المقدمة حيث تخشى على قوات (قسد)
التي ساعدتها في قتال تنظيم الدولة (داعش) وتعتبرها ذراعًا عسكريًا لها على الأراضي
السورية، وهو يتسبب في خلاف عميق ودائم مع أنقرة، الحليفة المؤثرة من حيث موقعها
الجغرافي ومحورية دورها في حلف الناتو، واصلت وزارة الدفاع (البنتاجون) دعواتها إلى
الأتراك لضبط النفس وعدم إطلاق عمليتهم العسكرية البرية في سوريا، حيث اعتبر
المسؤولون الأمريكيون أنها تهدد المكاسب المحققة في الحرب ضد تنظيم (داعش) وستزعزع
استقرار المنطقة، ناهيك عن المخاوف على حياة الجنود الأمريكيين المتعاونين مع قوات
(قسد) في قتال ضد تنظيم (داعش) في شمال شرق سوريا، في نفس الوقت لا تريد واشنطن أن
تدخل في صدام مباشر مع دولة عضو بحلف الناتو، فتعرب عن تفهمها للمخاوف الأمنية
التركية المشروعة بشأن العمليات الإرهابية التي تقع داخل حدودها.
من
جهتها ستستفيد روسيا مع نظام الأسد من العملية العسكرية التركية لكونها ستقلّص من
نفوذ الأكراد على الشمال السوري وقد تمنحهما فرصة أكبر لبسط نفوذهما لاحقًا في تلك
المناطق،
لكن روسيا المنهكة في غزوها للأراضي الأوكرانية لا تريد أن تفتح أبوابًا أخرى من
الجحيم ضدها فاكتفت علنًا بضمّ صوتها إلى أصوات القوى الدولية التي تناشد أردوغان
لإلغاء هجومه البري المحتمل، وربما لكونها تعلم أيضا أن تحقيق الاستقرار في شمال
وشرق سوريا صعبًاً، إن لم يكن مستحيلاً دون حل سياسي للصراع التركي الكردي الأوسع،
وقد دفعت التوقعات بعملية برية إلى تواصل عاجل من واشنطن وموسكو لمنع أو الحد من
نطاق الهجوم البري، لكن البيانات الرسمية التركية والعمليات السابقة لا تدع مجالًا
للشك في حدوثه.
أهـداف تركـية
لطالما كان هناك دافع وراء
هجوم تركيا على الأراضي على طول حدودها الجنوبية بالإضافة إلى إضعاف الأكراد، إذ
يشن حزب العمال الكردستاني هجمات متواصلة ضد الدولة التركية منذ العام 1984م،
قُتِلَ خلالها أكثر من 40 ألف شخص، وهو ما دفع تركيا ومعها الولايات المتحدة
والاتحاد الأوروبي إلى تصنيفه كمنظمة إرهابية،
البعض يشير إلى أن أردوغان
يبحث عن طريقة لتخليص تركيا من ملايين اللاجئين السوريين الذين فروا من بلادهم خلال
11 عامًا من الحرب الأهلية، كانت فكرته هي إعادة توطينهم بجوار الحدود التركية فيما
يسمى بالمنطقة الآمنة، يعوقه في تنفيذ خطته أن تأمين تلك المنطقة يستدعي تقليص
النفوذ الكردي عليها، ناهيك عن عدم رغبة اللاجئين على الانتقال إلى منطقة حرب كثيفة
التسلح وستكون مكتظة بالسكان، حتى لو كانت عودة إلى وطنهم الأم سوريا، لكن في ظل
اضطراب الاقتصاد التركي وانخفاض شعبية حزب العدالة والتنمية في استطلاعات الرأي، قد
يكون غزو المنطقة الكردية في سوريا متعلقًا بالسياسة الداخلية والتأثير على
الانتخابات المقبلة من خلال مناشدة قومية الشعب التركي.
الاختراقات الدبلوماسية في
السياسة التركية الخارجية ليست مفاجئة، فمنذ منتصف عام 2020 حسّنت تركيا علاقاتها
مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل وأرمينيا ومصر،
تريد أنقرة من وراء الاستقرار الإقليمي في العلاقات مع جيرانها بالمنطقة أن تعزز
التعاون وترتقي بنموها الاقتصادي، وبالفعل هي الآن مستعدة لتلقي مليارات الدولارات
من بعض الدول الخليجية، وتعيد الروابط مع الدول الأخرى التي كانت تعتبر أنظمتها
خصومًا لها وفي نفس الوقت دون التضحية بسياستها الخارجية المستقلة، لقد وجدت أنقرة
أن بإمكانها أن تتعارض مع الغرب من خلال تعزيز التجارة مع روسيا بدلاً من معاقبتها،
وكذلك من خلال مهاجمة قوات (قسد) الشريكة للولايات المتحدة، أو حتى رفض الموافقة
على أعضاء جدد في الناتو على غير وفاق مع سياساتها، يمكنها الآن أن تفعل كل ذلك وهى
تعلم أنها ستعاني من عواقب طفيفة فقط.
إعادة تموضع
في السياق العام حول
العملية العسكرية التركية، يمكن ملاحظة التغير السياسي الذي طرأ على الموقف التركي
بشكل واضح خلال الأشهر القليلة الماضية، إذ دعمت تركيا مقاتلي المعارضة السورية
للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد وقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق في وقت مبكر
من الثورة السورية التي اشتعلت قبل 11 عامًا، كما نفذت القوات التركية خلال السنوات
الأخيرة عدة عمليات عسكرية واسعة النطاق في شمال العراق وشمال سوريا، لكن لا ثوابت
في السياسة.. إذ يفكر الرئيس التركي الآن في عقد لقاء مع رئيس النظام السوري بشار
الأسد، وقد نقلت وكالة الأناضول للأنباء عن أردوغان قوله "اللقاء مع الأسد ممكن، لا
استياء ولا مرارة في السياسة"، هذه البادرة من الرئيس التركي لن يفوّتها الأسد وإن
أظهرت وسائل إعلامه الرسمية غير ذلك حتى الآن حيث تنفي وجود أي اتصالات مباشرة بين
النظام السوري وبين الحكومة التركية، لقد تغيّرت قواعد اللعبة بالنسبة لسوريا
وأزمتها المستمرة منذ أكثر من عقد من الزمان، اعتمد النظام السوري على التدخل
العسكري الإيراني والروسي لترجيح الكفة لصالحه، لكن الحرب الروسية على أوكرانيا قد
باتت تستنزف الآلة العسكرية الروسية وتأخذ كل اهتمامها، الانتفاضة الإيرانية التي
اندلعت قبل أكثر من شهرين لا بوادر على انحسارها في وقت قريب لذا يركز الحرس الثوري
الإيراني جهوده بالكامل الآن على سحق ما أصبح يمثل تهديدًا خطيرًا لنظام الجمهورية
الإيرانية، في مثل هذا الوضع سيسعى النظام السوري المسيطر على حوالي ثلثي البلاد
إلى تحسين علاقاته مع الجميع والمحافظة على حالة من التوازن مع القوى الإقليمية
تسنده في ظل انشغال الروس والإيرانيين بأزماتهم.
وأخيرا فإن الاعتقاد بأن
بإمكان قيام تركيا بتدمير حزب العمال الكردستاني والجماعات الكردية الأخرى في عملية
برية واحدة سريعة هي مناورة غير محسوبة بدقة، ليس من الواضح بعد كيف سيكون رد
واشنطن إذا شنت تركيا هجومًا بريًا عبر الحدود السورية في المناطق التي يستقر فيها
الجنود الأمريكيون، لقد رتّبت تركيا أوراقها بشكل جيد منذ أن اندفع الروس إلى
أوكرانيا، حيث ظل أردوغان على اتصال وثيق بفلاديمير بوتين المحاصر وعرض نفسه كوسيط
نزيه بين الغرب وروسيا، عزز دور بلاده كلاعب رئيسي في النزاعات الدولية والتي منها
بلا شك مستقبل سوريا، ولا شك أن وجود تفاهم ضمني غير معلن بين أنقرة ونظام الأسد
حول عملية "السيف المخلب" ربما يشكل طيًا لصفحة الماضي بينهما، ويسمح بإعادة تموضع
القوى الفاعلة في الأزمة السورية.