تتغير الساحة السياسية التركية على نحو ملحوظ، حتى في أكثر القضايا جدلية، وأبرزها الحجاب، الذي كان حتى سنوات قليلة ماضية، قضية مفصلية بالنسبة للأحزاب العلمانية، وفي المقدمة منها حزب الشعب الجمهوري، أكبر حزب منافس لحزب العدالة والتنمية الحاكم، فما مظاهر هذا
ربما كان سيتهم أي شخص بالجنون، إذا ما راودته -قبل سنوات قليلة- فكرة أن حزب الشعب
الجمهوري، وريث الدولة العلمانية، والذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك في عشرينيات القرن
الماضي عقب الإطاحة بالدولة العثمانية، سيغير موقفه العدائي من الحجاب، أبرز
المظاهر الإسلامية الخاصة بالنساء، بل وسيتقدم بمقترح للبرلمان التركي لضمان حرية
ارتداء النساء الحجاب في مؤسسات الدولة.
|
بدأ
العداء للحجاب منذ اللحظات الأولى التي تسلم بها أتاتورك مقاليد الحكم في
البلاد، حيث تم إدراجه ضمن سلسلة كبيرة من المحظورات، غير أن حظره رسمياً
بموجب قانون صدر في العام 1980، عقب انقلاب عسكري قاده آنذاك الجنرال كنعان
إيفرين |
هذا الحزب الذي حارب كل المظاهر الدينية الإسلامية منذ العام 1923، يشهد تحولاً
لافتاً في مواقفه سواء عن قناعة أو بهدف المراوغة الانتخابية، وذلك على بعد شهور
قليلة من السباق الانتخابي، الذي ينظر إليه كحدث مفصلي في تاريخ تركيا الحديث.
وكأحد تجليات هذا التحول، ظهر رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو، مطلع
الشهر الماضي، في سلسلة مقاطع مصورة يدعو فيها إلى المصالحة الاجتماعية وإغلاق ما
وصفها بجروح الماضي، وذهب بعيداً باعترافه أن حزبه ارتكب أخطاء بحق شرائح من الشعب
التركي، ومطالبًا إياهم بالصفح.
ومن بين هذه المقاطع المصورة، برز فيديو نشره أوغلو في الثالث من أكتوبر الماضي على
حسابه الرسمي بموقع التدوينات القصيرة "تويتر"، وتضمن مبادرة نوعية، بكشفه عن مشروع
قانون سيتقدم به حزبه للبرلمان لضمان حرية ارتداء الحجاب، وهو ما حصل فعلاً باليوم
التالي، وذلك في إطار مطالبته بإغلاق جروح الماضي.
هذا التحول في واحدة من أبرز قناعات حزب يرفع لواء العلمانية ومحاربة المظاهر
الدينية على مدى عقود طويلة، يحتاج إلى تأريخ لهذا العداء، وبحث معمق في أسبابه
ومبرراته.
بدأ العداء للحجاب منذ اللحظات الأولى التي تسلم بها أتاتورك مقاليد الحكم في
البلاد، حيث تم إدراجه ضمن سلسلة كبيرة من المحظورات، غير أن حظره رسمياً بموجب
قانون صدر في العام 1980، عقب انقلاب عسكري قاده آنذاك الجنرال كنعان إيفرين،
وتضمن هذا القانون العنصري منع النساء المحجبات من العمل في مؤسسات الدولة والدخول
إلى المدارس والجامعات.
وبعد نحو 10 سنوات من هذا القانون، لم تفلح أول محاولة لتعديله في العام 1990،
عندما عارضت أحزاب معارضة يسارية، مساعي حكومة تورغوت أوزال لإجراء تعديلات على
اللوائح والقوانين، وتوسيع دائرة الحريات في البلاد، بما في ذلك إقرار حرية ارتداء
الحجاب في الدوائر الحكومية والجامعات.
|
وفي العام 2008 بدأ حزب العدالة والتنمية أولى محاولاته العملية لإحداث
اختراق في قضية الحجاب، عندما نجح بالاتفاق مع حزب الحركة القومية بتمرير
تعديل بندين في قانون الخدمة المدنية ينظم عمل الموظفين لضمان حرية ارتداء
الحجاب |
وبعد الأحداث التي أجبرت رئيس الوزراء نجم الدين أربكان ذو الخلفية الإسلامية على
الاستقالة في 28 فبراير عام 1997، وما تبعها من إجراءات صارمة شملت تشديد حظر
الحجاب والتضييق بشكل خاص على طالبات الجامعات، بدأ تطبيق الحظر بقسوة غير مسبوقة،
حتى شهدت تلك الحقبة طرد النائبة المحجبة مروة قاوقجي من داخل البرلمان، بسبب
ارتدائها الحجب ورفضها الامتثال لقرار حظره.
ومع صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002، عاد جدل الحجاب إلى
المشهد السياسي من جديد، خاصة أن حل قضية الحجاب وضمان حقوق المحجبات، كان من أبرز
الوعود الانتخابية لهذا الحزب ذو الخلفية الإسلامية، غير أنه لم يتمكن من اتخاذ أي
خطوة في البداية، حتى أن أمينة أردوغان زوجة زعيم الحزب رجب طيب أردوغان (الرئيس
التركي الحالي) منعت من دخول مستشفى عسكرية بسبب ارتدائها الحجاب.
وفي العام 2008 بدأ حزب العدالة والتنمية أولى محاولاته العملية لإحداث اختراق في
قضية الحجاب، عندما نجح بالاتفاق مع حزب الحركة القومية بتمرير تعديل بندين في
قانون الخدمة المدنية ينظم عمل الموظفين لضمان حرية ارتداء الحجاب
في الدوائر الحكومية بشكل عام، غير أن المحكمة الدستورية استجابت لطلبات المعارضة
وألغت التعديلات مجدداً.
وفي العام 2010، أصدر رئيس مجلس التعليم العالي يوسف ضياء أوزجان تعميماً يمنع
أساتذة الجامعات من طرد المحجبات من قاعات الدراسة، وعلى غير المعتاد لم تسجل أحزاب
المعارضة ردود فعل رافضة لهذا التعميم، وبعد ذلك بثلاثة أعوام أقر حزب العدالة
والتنمية حزمة من التعديلات والقوانين الهادفة لتوسيع الديمقراطية، وشملت حرية
ارتداء الحجاب وحقوق الأقليات، وتعديل القوانين الانتخابية والجنائية.
وبعد هذا المسار الطويل من الجدل المحتدم على الحجاب، ماذا كان أثر التحول في موقف
حزب الشعب الجمهوري؟، لم يتأخر رد فعل أردوغان نفسه على المواقف الجديدة للحزب،
وسعى إلى استثمار اللحظة لصالحه، سواء بتمرير قناعاته ومعتقداته، أو لصالحه
انتخابياً، عندما دعا زعيم الحزب إلى العمل على إدراج الحجاب في دستور البلاد بدلاً
من الاكتفاء باقتراح إصدار قانون، وأعاد التذكير بأن الحكومات المتعاقبة التي شكلها
حزب العدالة والتنمية خلال العقدين الماضيين أزالت مسألة حظر ارتداء الحجاب من
أجندة تركيا، وفي المقابل اكتفت أحزاب معارضة محسوبة على التيار المحافظ بالترحيب
بمبادرة حزب الشعب.
من المعلوم أن طرح مسألة الحجاب في هذا التوقيت، هي محاولة من أكبر الأحزاب التركية
المعارضة لسحب ورقة رابحة من أردوغان، الساعي إلى الحفاظ على منصبه رئيساً لتركيا
لولاية جديدة، إذ يعتقد الحزب العلماني أن أردوغان يحاول كسب ود أنصار الحجاب عبر
إخافتهم بأن خسارة العدالة والتنمية للانتخابات تعني عودة حظر الحجاب، لذلك عمد
الشعب الجمهوري إلى طمأنة هؤلاء بمبادرة قانون يحفظ لهم حقوقهم وحريتهم بارتداء
الحجاب، وبالتالي سيفقد أردوغان ورقة انتخابية رابحة.
وفي المقابل أدرك أردوغان هذه اللعبة، وقابلها برفع السقف عبر المطالبة بإدراج قضية
الحجاب في الدستور التركي، في مسعى منه لإحراج حزب الشعب وإظهار موقفه وقناعاته
الحقيقية من الحجاب، غير أنه من غير المحتمل أن يتجاوب كمال كليجدار أوغلو مع هذا
الطرح من أردوغان، الذي يتطلب تغييراً بالدستور، وذلك خشية من الانشقاق في صفوف
حزبه، الذين لا تزال شريحة واسعة من أعضائه وأنصاره تناهض الحجاب.
لا شك أن التغيير الملموس في مواقف حزب الشعب الجمهوري خلال السنوات الماضية لم يكن
نابعاً من قناعات راسخة، بقدر كونه مصلحة سياسية لكسب ود المحافظين والمتدينين،
خاصة مع ما تشهده الساحة التركية من عودة متنامية للمظاهر الدينية في السنوات
الماضية.
الآن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ينجح حزب الشعب بإقناع الشعب التركي وخاصة
المحافظين بأن ثمة تغيير حقيقي في موقفه من التدين عامة وقضية الحجاب خاصة، للحصول
ولو على بعض من أصوات المحافظين؟، هذا ما ستجيب عنه الانتخابات الرئاسية في تركيا
المقررة في 18 يونيو 2023.